لو كان السيّد المسيح، عليه السلام، حاضراً اليوم في أرض مولده، لأعاد النظر فيما قاله قبل ألفي عام. فقد رجا ربَّه أن يغفر لمن كان حوله من رافضين وأتباع "لأنّهم لا يدرون ما يفعلون"، لكن أالحال الآن كذلك؟! كلا طبعاً، فالبشرية نالها ما كفاها من رشدٍ وهداية وأنبياء ورسالات وأولياء صالحين، وختْمٍ لتنزيل الكتاب مع خاتم النبييّن محمّد، عليه وعلى الأنبياء أجمعين الصلاة والسلام.
ألم تلحق أيضاً، هذا الختمَ في النبوّة وفي الرسالات، نهضةٌ علمية ومعرفية وصلت الآن إلى حدٍّ غير مسبوق؛ في سهولة الحصول على المعرفة، وبالقدرة على التواصل مع ما يحدث في أيّ مكانٍ من العالم، بل من المحيط الفضائي لكوكبنا الأرضي؟!.
رغم ذلك كلّه، ما زالت شعوبنا العربية، والتي أرضها هي أرض الرسالات والرسل ومهد الحضارات والعلوم، تعيش أسيرةً لمفاهيم معاكسة لجوهر ما جاء على أرضها من هدايةٍ وعلمٍ ومعرفة، وما زالت قيادات هذه الشعوب تكرّر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها في عهودٍ سابقة قياداتٌ سالفة.
حينما جئت إلى واشنطن، قبل ربع قرن تقريباً، مازحني أحد الزملاء الصحفيين، وكان يعمل آنذاك مراسلاً لإذاعة بي بي سي، بقوله: "بينما تدعو أنت يا صديقي إلى التكامل بين البلاد العربية وإلى التحرّر الوطني ومواجهة الاحتلال، سأدعو أنا إلى تشكيل "الجبهة الشعبية العربية لإعادة الاستعمار"، فقد كان حالنا أيامَ الاستعمار أفضل"!.
كم هو مؤسف أن يرى زميلي اليوم ما مازحني بشأنه قبل ربع قرن واقعاً يحدث..
أهو ربيعٌ عربيٌّ فعلاً ما نشهده هذا العام، أم انتقالٌ من زمن الاستبداد والفساد إلى زمن التبعية والحروب الأهلية؟! كلاهما زمن انحطاطٍ وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية منذ انتهاء حقبة "الخلفاء الراشدين"، فبعدها غاب الرشد عن الحاكم والمحكوم، إلا في فتراتٍ عابرة لم تصمد طويلاً أمام جشع جماعات الفساد في الداخل وقوى التآمر من الخارج. ومنذ ذلك "الزمن الراشدي" لا تتغيّر طبيعة الحكم أو "هويّته العائلية" إلا بفعل القوّة العسكرية المسنودة أحياناً بدعمٍ خارجي. ولا فرق هنا بين عربي وأعجمي، فهكذا أيضاً وصل الجيش الانكشاري العثماني إلى سلطة "الخلافة"، وحكَم العرب لأربعة قرون انتهت بثورة الشريف حسين "العربية" المدعومة من الغرب!. وهاهو "الغرب" وتركيا يعملان معاً الآن على العودة القوية لأرجاء الأمّة العربية!.
نعم تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم أنظمة الاستبداد أو الفساد، أو الاثنين معاً، مسؤولةٌ عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام "الثوة العربية الكبرى"، حيث لم تقم "الدولة العربية الواحدة" التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق "دولة إسرائيل" التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فخنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من "الدولة العربية الموحّدة" جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى.
فما الذي تغيّر الآن حتى أصبحت الثقة واجبة بالدول الغربية، ومرفوضٌ التشكيك بوعودها؟ هل وافقت مثلاً دول حلف الناتو على قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالأمم المتحدة؟ وهل تحقّقت الوعود المتكرّرة من رؤوساء أميركيين بدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة؟ وهل جرى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قراراتٍ تدين الممارسات العدوانية الإسرائيلية المتواصلة في الأراضي المحتلة؟ وهل جرى تهديد الناتو لإسرائيل بالفصل السابع وبحقّ استخدام القوة العسكرية ضدّها، بناءً على طلب "المجلس الوطني الانتقالي الفلسطيني" الذي يعمل الآن من خلال "منظمة التحرير" والسلطة الفلسطينية؟! وهل قرّرت الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية قطع العلاقات مع إسرائيل ومعاقبتها، في الحدِّ الأدنى، اقتصادياً ومالياً نتيجة مواصلة احتلالها منذ العام 1967 لأراضٍ عربية؟!
وهل قرّرت دول حلف الناتو الأخذ بالنموذجين الأميركي والأوروبي لتطبيقهما على البلاد العربية التي "تتحرّر" الآن من أنظمة الاستبداد والفساد؟! ألم تقم التجربة التاريخية الأميركية على رباعية: التحرّر من "التاج البريطاني"، والبناء الدستوري الديمقراطي، والتكامل بين الولايات، ومحاربة انفصال الجنوب الأميركي؟ ثمّ أليست هي أيضاً السيرة التاريخية الأوروبية المعاصرة التي بعد أن قاومت الاحتلال النازي أقامت بعد تحرّرها تكاملاً بين دولها، رغم ما بينها من تباينٍ في الثقافات والأعراق واللغات؟ أليست الدول العربية أكثر انسجاماً فيما بينها من حال دول "الاتحاد الأوروبي"! فلماذا "الحل الناتوي" في أمّتنا هو التقسيم وتجزأة المجزّأ، بينما ترفض فرنسا مثلاً حقوق "الباسك" بالانفصال، وترفض بريطانيا حقوق إيرلندا بالاستقلال، وتخوض الولايات المتحدة حرباً أهلية في فترة إبراهام لنكولن لمنع انفصال الولايات الجنوبية؟!
فلماذا لا تستخدم حكومات الناتو "نفوذها" الكبير الآن لدفع تونس ومصر وليبيا إلى إعلان "اتحاد الجمهويارت الديمقراطية العربية"، باعتبار أنّ دول الناتو داعمة للمتغيّرات التي حدثت في هذه البلدان الثلاث، وبين هذه البلدان تكاملٌ في الأمور كلّها، فضلاً عن حاجتها لبعضها البعض أمنياً واقتصادياً؟. أليس ذلك أفضل من تشجيع ظواهر الفتن والصراعات التي تحدث الآن في هذه البلدان الثلاثة؟!.
ألم يبدأ هذا العام "الربيعي" بانفصال جنوب السودان (بتحريض من إسرائيل ودول غربية) وقبول دولته فوراً في الأمم المتحدة دون المرور في لجان التمييع التي تحصل الآن حول الدولة الفلسطينية؟ ألم يؤدِّ احتلال العراق من قوى "الناتو" إلى تقسيمه عملياً؟! ألم تكن أولى باكورات الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 هي إعلان "دولة جنوب لبنان الحر" بقيادة العميل الإسرائيلي سعد حداد؟! أوَليست إسرائيل حاضرةً الآن في أكثر من جبهة عربية مفتوحة على احتمالات الحروب الأهلية؟
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد حقّقت هذا العام الكثير من الإيجابيات، لكنّها إيجابيات ما زالت محدودةً في الزمان والمكان والنتائج. والردّ هنا لا يصحّ بالقول إنّها ثوراتٌ مولودة حديثاً وبحاجةٍ لفترة من الوقت، فالمولود يعاني من نقصٍ في قوّة المناعة ومن صراعٍ على أبوّته، حيث مثّل جيل الشباب الأمَّ التي عانت في الحمل وفي مخاض الولادة، بينما تتصارع القوى السياسية التقليدية على حقّ الرعاية للمولود وللأمّ معاً، وبعض هذه القوى لا يأبه حتّى بمصيرهما طالما كان هو الضامن للوراثة بعدهما.
وصحيحٌ أنّه جرى كسر حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما يجرى أيضاً في المنطقة هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت وتسقط أنظمة وحكومات، إذ لم تعد تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ أو غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودة في كلّ المجتمعات العربية، إن كانت منتفضةً الآن أو مستقرّةً إلى حين.
اللهمَّ ارحمْ شهداءَ هذه الأمَّة وضحايا حكوماتها ومعارضيها، واقصِ عن رحمتك من يسعوْن في الأرض العربية المباركة فتنةً وفساداً فهم "يدرون ما يفعلون"، كائناً من كانوا: حكاماً أم معارضين، كتّاباً أم اعلاميين أم متستّرين بغطاء دين .. فهذه الأمَّة المؤمنة مسكينة، أرضها أرض الإيمان والمقدّسات، لكنّها تُلدغ من الجحر نفسه مرّاتٍ ومرّات!.
0 comments:
إرسال تعليق