مصنع للجرائم، والأكاذيب أيضا!/ بروفسور سليمان جبران


في سورية البعث الأسدي، كلّ يوم يأتي بجديد. لا مسلسل الإجرام والقتل والتنكيل ينتهي، ولا مسلسل الألاعيب والأكاذيب. منعوا وسائل الاتّصال العربيّة والدوليّة من دخول سورية، متوهّمين أن الميدان خلا لحميدان، قتلا وكذبا وتزويرا. لكنّهم لم يأخذوا في الحساب أن كلّ شابّ وطني قد ينقلب صحافيّا، وكلّ تلفون خلوي قد يغدو "شاهد عيان" لجرائمهم يعلنها على الفضائيّات بالتفصيل، أو كاميرا تنقل بالصورة "أفانين" الأمن والشبيحة إلى العالم بأسره. لم يبقَ أمامهم إلا زرع الكمائن والأحابيل في طريق وسائل الاتّصال، ظانّين أنّهم قادرون على ضعضعة الثقة بمصداقيّتها في نقل وقائع جرائمهم المروّعة. لم يفقه هؤلاء الأغبياء أن السحر سينقلب في نهاية المطاف على الساحر، والأكاذيب إذ تُفتضح تغدو بومرانج ترتدّ إلى راميها فتُرديه!
من ألاعيب النظام الغبيّ كانت تمثيليّة مفضوحة باسم لمياء شكّور. السيّدة المذكورة هي سفيرة سورية في باريس؛ امرأة مثقّفة، تجيد الفرنسية إجادتها العربية، وتشارك في كلّ مقابلة صحافيّة تدعى إليها، فتُبلي خير بلاء. اتّصلوا بالسفارة من القناة الفرنسيّة "فرانس 24"، طالبين مشاركة السفيرة لمياء في أحد البرامج السجاليّة على الهواء، فحصلوا على موافقة السفيرة المبدئيّة، وعلى تلفونها الشخصي من الملحق الإعلامي في السفارة. في الموعد المحدّد، اتّصلوا بالسفيرة على الرقم المذكور، وإذا بها تعلن استقالتها من السفارة، وتنقد النظام القمعي في دمشق دون هوادة. فرحت "فرانس 24" طبعا بهذه المفاجأة/ السبق، وأذيع خبر الاستقالة على العالم كلّه في غضون دقائق معدودة. بعد زمن غير طويل، فوجئ العالم كلّه مرّة ثانية بنفي السفيرة استقالتها، وبالذات على الجزيرة والعربية "الكاذبتين" هذه المرّة. طبعا، لم تكن المرأة تلك، على التلفون، لمياء شكور السفيرة؛ كانت امرأة أخرى/كمينا نصبته المخابرات البعثية "الذكيّة" لوسائل الاتّصال الأجنبيّة والعربيّة، لتثبت أن كل ما يذاع عن سورية في الفضائيّات، العربيّة والأجنبيّة، لا يختلف عن قضيّة السفيرة شكّور. لكنّ الحكاية انفضحت أخيرا، والبالون الإعلامي تفجّر في وجوه أصحابه، وقناة "فرانس 24" عازمة على مقاضاتهم في المحكمة. مسألة واحدة فقط لم تتّضح بعد: هل كان للسفيرة شكّور دور في هذه التمثيليّة الهابطة، أم كانت هي الأخرى مغفّلة، استغلّتها مخابرات البعث في تنفيذ ألاعيبها. مهما يكنْ من أمر، على نفسها جنت براقش، أو بكلمات الشاعر أحمد شوقي: إذا كان الرماة رماة سوءٍ / أحلّوا غيرَ مَرْماها السهاما!
إذا كانت حكاية السفيرة لمياء شكّور تمثيليّة كوميديّة سخيفة، فحكاية الفتاة الحمصيّة زينب الحصني مسرحيّة تراجيكوميديّة؛ مسرحيّة مكتوبة بالدم فصولها كلّها، وإن كان في غباء مُخرجيها ما يدعو إلى الضحك أيضا. للفتاة زينب، أوّلا، أخ اسمه محمّد، شارك في المظاهرات المناهضة للنظام القمعي، فأخذ رجال الأمن والشبيحة يبحثون عنه. لم يعثروا عليه أوّل الأمر، فاختطفوا أخته زينب، بشهادة أخيها يوسف، من الشارع في حمص. وهي وسيلة بعثيّة معروفة تتلخّص في اعتقال أحد أفراد العائلة وتعذيبه إذا لم يستطيعوا القبض على "المخالف" المطلوب. لكن يبدو أنّ الشبيحة أفلحوا، بعد اختطاف زينب، في القبض على أخيها محمّد أيضا. باختصار: وقع الشابّ محمّد وأخته زينب في أيدي رجال الأمن، فلم يكنْ أمام عائلة الحصني سوى الانتظار لمعرفة مصير ولديها.
تروي أمّ زينب، دلال الحصني، أنّ رجال الأمن استدعوها لكي تتسلّم جثّة ولدها محمّد من المستشفى العسكري. طبعا ادّعى رجال المخابرات البعثية أنّ الشابّ اغتالته "العصابات المسلّحة"، وهو الاسم المستعار الذي يُنسب إليه قتل كلّ من يموت تحت التعذيب في سجون النظام القمعي. وصلت الأمّ إلى المستشفى، فأخبروها هناك أنّ ابنتها زينب أيضا في المشرحة ، ودعوها للتعرّف عليها. وكيف تتعرّف امرأة على جثة مقطوعة الرأس والأطراف، مسلوخة الجلد؟! أذعنت الأمّ للمصير الدامي، فتسلّمت "ابنتها"، ومعها تسلّمت طبعا شهادة وفاة رسميّة تحمل كلّ التواقيع والشهادات المطلوبة في مثل هذه الحالة، فكان أن تحوّلت جنازة الفتاة زينب إلى مظاهرة حاشدة ضدّ النظام، وحكايتها الدامية انتشرت في وسائل الاتّصال كلها، العربيّة والأجنبيّة، وعلى كلّ لسان.
إزاء هذه الجريمة الفضيحة، كان النظام مطالبا بالردّ، فكان ردّه حكاية أخرى غريبة من تأليف عباقرة المخابرات، نوردها كما رأيناها في التلفزيون السوري: جاءت المخابرات البعثية إلى التلفزيون السوري بفتاة محجّبة، يظهر عليها الذلّ والانكسار، وأشهرت بطاقة هويّة أيضا تحمل صورتها واسمها، لتثبت أنّها زينب الحصني "المتوفّاة". ذكرت الفتاة أنّها هربت من البيت بسبب تعذيب إخوتها، وكانت طوال مدّة غيابها في بيت أحد الأقارب. إلا أنّها حين سمعت قصّتها في "القنوات الكاذبة"، قرّرت الذهاب إلى قسم الشرطة لتكشف الحقيقة، "لأنها ستتزوّج في المستقبل القريب، وتنجب أطفالا وتتمكّن من تسجيلهم". الرسالة التي أراد مخرج هذه التراجيكوميدية توصيلها من هذا المشهد هي أن كلّ ما أذيع عن قتل زينب وتعذيبها، ثمّ قطع رأسها وبتر أطرافها وسلخ جلدها، هو من تلفيق المعارضة والفضائيّات ولا أساس له من الصحّة؛ فها هي زينب أمامكم بشحمها ولحمها، تكذّب بلسانها كل ما أشيع عنها زورا وبهتانا!

هذه الألاعيب قد تنطلي على السذّج، أو تقنع المقتنعين أصلا بأضاليل النظام البعثي، إلا أنّها من ناحية أخرى تثير تساؤلات كثيرة كلّها إدانة للنظام وجرائمه:
1) إذا كانت زينب هي الفتاة التي عرضوها على المشاهدين في التلفزيون، فمن هي صاحبة الجثّة التي سلّموها للأمّ دلال؟ هل لديهم "احتياطي" من الجثث النسائية يبرزونها متى شاءوا وكيفما شاءوا، وفقا لمقتضيات المسرحيّة؟ وما معنى شهادة الوفاة الرسميّة، بكلّ التواقيع الرسميّة التي تحملها؛ هل كانت كلّها تزويرا في تزوير؟ إلى هذا الحدّ وصل استهتار النظام بأرواح الناس وبالوثائق الرسميّة؟!
2) الاحتمال الثاني أن تكون زينب هي التي دُفنت فعلا، وبذلك تكون فتاة التلفزيون "بديلة" (double)، كما في السينما، جاءوا بها لتقوم بالدور المطلوب. لست خبيرا في التشخيص فأجزم بفروق بين صورتي الفتاتين، لكنّه احتمال وارد؛ ومن يقرأ سيرة صدام حسين، الرأس السابق للنظام الإجرامي البعثي العراقي، لا يستغرب الأمر من النظام البعثي السوري. إنّه احتمال، على كلّ حال، يشهد للنظام، إذا كان تحقّق فعلا، بالخبرة الفائقة في الإجرام والتمثيل معا!
3) الاحتمال الأخير يبدو غريبا، يجب أن نعترف، لكن لا يُستبعد شيء في نظام العجائب والغرائب الأسدي. فقد يكون الشبيحة المتمرّسون في الإجرام قاموا بتصوير الفتاة زينب، وإملاء ما صرّحت به عليها، قبل أن تموت تحت التعذيب، من باب "الاحتياط" لكلّ طارئ. وإذ تطوّرت الأمور كما تطوّرت، أبرزوا الفيدو المذكور لتكذيب الفضائيات، ومنظّمات حقوق الإنسان، والتنسيقيات الثورية، وأهل الفتاة جميعا. أكرّر أنّه احتمال غريب، لكن لا غريب في نظام اللا معقول البعثي!
إنها احتمالات ثلاثة، لا رابع لها، وكلّها إدانة لنظام القمع والكذب والألاعيب البعثي، مفردة أو مجتمعة. أرأيتم كيف غدت دمشق في ظلّ هذا النظام "القومي" مصنعا متطوّرا للجرائم، والأكاذيب أيضا!


CONVERSATION

0 comments: