وفاء الأحرار لصناع الانتصار/ د. مصطفى يوسف اللداوي

انتهت المرحلة الأولى من صفقة الأحرار، وعاد من كان العدو الإسرائيلي يظن أنهم سيموتون داخل السجون، وسينقلون رفاتاً إلى ذويهم، أو سيدفنون في مدافن الأرقام بعيداً عن أهلهم وأسرهم، وأنهم لن ينعموا يوماً بالحرية، ولن يلتقوا بأهلهم إلا من خلف القضبان، أو من وراء الجدران الزجاجية السميكة، فقد عادوا إلى بيوتهم وأسرهم، وكلهم عزمٌ وثقةٌ وإصرارٍ وإيمان بأن من خلفهم سيلحق بهم، وسيأتي دورهم في الحرية، وسيكون لهم معها يوماً آخر، يولد فيه الفجر وينبلج فيه نور الصباح، وسيغيظون العدو ويرغمونه من جديد على فتح أبواب السجون لهم، وكسر الأغلال التي تقيدهم وتلتف حول معاصمهم وتثقل أقدامهم، وتحول دون حركتهم، فإصرار المقاومة ورجالها، الذين لا يعرفهم كثيرٌ من الناس، ولا يميز وجوههم أحد، كان أحد أسباب هذا النصر المبين، وصناع هذا الفجر العظيم، فهم لا يحبون الأضواء، ولا تقع عليهم عدسات الإعلام، ولا يتسابقون للظهور، ولا يحبون التنافس إلا في ميادين القتال، ولا يتزاحمون إلا على الثغور، ولا يبكرون في الخروج إلا لرصدٍ أو متابعة، أو رباطٍ ومقاومة، منهم من قضى نحبه وارتقى إلى العلا شهيداً مكرماً، ومنهم من بقيت البندقية على كتفه، والقنبلة تزين خاصرته، وأحزمة النار تلتف حول وسطه، وحنينه إلى الشهادة مع كل يومٍ يزداد، وحبه في اللحاق بمن سبقه من الشهداء يؤرقه ويضني نهاره ويهم ليله، هؤلاء الأخفياء الأنقياء الأتقياء، الذين طلقوا الدنيا وجعلوا ملذاتها آخر اهتماماتهم، هم من يستحقون منا كل تقديرٍ ووفاء.

المقاومون المقاتلون حملة البندقية، الذين أخذوا على أنفسهم عهداً وأصروا على الوفاء به، وعدوا الأسرى وأوفوا بوعدهم لهم، حفظوا وصية شيخهم الأجل ياسين بأن أولادنا سيعودون غصباً عن العدو فأعادوهم رغم أنف العدو قادةً وشعباً، وأجبروهم على التنازل عن ثوابتهم، والتراجع عن شروطهم، والتخلي عن محرماتهم، والخضوع لمعايير جديدة وقوانين مختلفة، هؤلاء المقاومون لا ينتظرون من أحدٍ غير الله جزاءاً أو مثوبة، ولا يقبلون من أحدٍ مكافأة أو مكرمة، ولا يتسابقون نحو كاميرا أو منصة، ولا يجرون نحو مأدبةٍ أو وليمة، ولا يعيرون أهميةً لمؤتمر أو قيمة لمهرجان، ولا يهمهم تصريحٌ أو تعقيب، فالبندقية لديهم أصدق أنباءاً من كل الكتب، وهم لا يتطلعون لغير تكرار ما فعلوا، واستنقاذ من بقي في السجون، فمن تحرر من الأسرى على أيديهم ليس غاية المنى ونهاية المطاف، بل إنها مسيرةٌ متواصلة، ورحلةٌ موصولة غير مقطوعة، لا تصل إلى محطتها الأخيرة إلا مع الأسير الأخير الذي يقوض بخروجه جداران آخر معتقلٍ إسرائيليٍ على أرضنا الفلسطينية، فهؤلاء لن يضعوا بصفقة الأحرار البندقية، ولمن يتخلوا عن المقاومة، ولن يحنثوا بقسمهم، ولم يخلفوا وعدهم، بل سيواصلون العمل، وسيصلون الليل بالنهار، ليتموا استدارة قمر الحرية بعودة من بقي من الأسرى خلف القضبان، فهذا وعدهم، وهذه غايتهم، وهو الهدف الذي إليه يتطلعون ويعملون.

الوفاء والاعتراف بالفضل بعد الله عز وجل ليس لمن بقي من المقاومين على قيد الحياة، فهؤلاء قد رأوا ثمرة جهادهم، ونتيجة عملهم، وأثلج الله صدورهم برؤية الأسرى أحراراً، وقد أنعم عليهم بمصافحة من عاهدوهم على الحرية والفرج، وأسعدهم عودة كل أسيرٍ إلى حضن أهله وأسرته، يعانق أطفاله، ويقبل يد أمه، ويزور قبر من فقد في غيابه، يقف أمامه بكل الخشية والوقار والهيبة والجلال علهم يشاركونهم البهجة، ويشعرون معهم بفرح العودة، وقد أبهج الأحياء من المقاومين الذين نسجوا خيوط هذا النصر للأمة راياتُ النصر ومهرجاناتُ الفخر ودموعُ الفرح، ولكن الوفاء الصادق هو مع الذين غابوا عنا، ورحلوا إلى السموات العلى، وهم الذين كان لهم فضل السبق، وشرف المشاركة، وقد ضحوا بحياتهم ليحيا شعبهم، وقدموا أرواحهم لتسمو روح الأمة، وغابوا عن أسرهم ليلتئم شمل غيرهم، ووروا تحت الثرى لترتفع فوق الأرض راياتٌ وأعلامٌ، هؤلاء الشهداء حملة بيارق النصر قد اختارهم الله إلى جواره دون غيرهم، وأسكنهم جناته قبل غيرهم، وجاورهم تحت عرشه مع الأنبياء والصديقين ومن سبقهم من الشهداء، اليوم نذكرهم ونعدد مآثرهم، ونحفظ فضلهم ونجل جهدهم، ونذكرهم في كل محافلنا، وندعو الله لهم في صلواتنا ولقاءاتنا، ما وقعت عيوننا على أسيرٍ محرر، أو صافحت أيدينا أسيراً أحببناه، أو قبل أسيرٌ ولده، أو بلل بدموعه الحرى يد والده أو والدته، نذكرهم ما عمرت الفرحة بيوتنا، وما سكنت البهجة ديارنا، وما ازدانت شوارعنا بالزينة، وما صدحت مآذننا بالتكبير والتهليل حمداً لله وشكراً له، وقطاع غزة كله حجراً وبشراً، نساءاً ورجالاً، مقاتلين ومدنيين، مرضى وأصحاء، فقراء وأغنياء، موظفين وتجار، عاملين وعاطلين، كلهم كان لهم فضلٌ في هذه الصفقة بصبرهم واحتسابهم وتحملهم، فقد نالهم من الأذى الكثير، وكان حجم البلاء الذي تعرضوا له عظيماً، ولعلهم كانوا الأكثر مساهمة بما تعرضوا له، والأكثر وفاءاً بما عاهدوا عليه، والأكثر صدقاً فيما عزموا عليه.

وكان للأسرى في سجونهم رغم القيود التي تعيق حركتهم، وسلطات السجون التي تمنع اجتماعهم ولقاءهم، أبلغ الدور في الوصول إلى هذه الخاتمة الطيبة، فقد تمكن الأسرى بالتراضي فيما بينهم من التوافق على قائمة الأسماء، وتحديد الأولويات، ووضع الخطوط الحمراء للمفاوضين، وتحديد هامش المناورة لهم، وأمدوهم بكل المعلومات الجديدة عليهم والخفية عنهم، وزودوهم باتجاهات التفكير الإسرائيلية المختلفة تجاه قضية الأسرى، فكان التوصل إلى قائمة موحدة ترضي جميع الأطراف من مختلف القوى والتنظيمات إنجازاً عظيماً، ونتيجة يصعب التقليل من شأنها، إذ أنها أرضت النفوس، وأثلجت القلوب، وأسعدت من ورد اسمه في قوائم المحررين، وأرضت من استثنته الظروف وحالت بينه وبين الحرية أحقادُ الاحتلال وشروطه الخبيثة، فباركوا للمحررين حريتهم، وتمنوا لهم حياةً ملؤها السعادة والهناء، على أرض وطنهم وفي صحبة أهلهم، وفي حضرة أطفالهم وصغارهم، فشكر الأسرى بعد الله الذين أنعم الله عليهم بالحرية، هو لإخوانهم الأسرى الذين أبت سلطات الاحتلال الإفراج عنهم، وحالت بينهم وبين الحرية، فعرقلت التوصل إلى اتفاقٍ حولها إلا أن يتخلى المفاوضون عن كبار الأسرى وهم جميعاً كبارٌ وقادة، وخير شكرٍ لهم هو تجديد العزم، وتأكيد العهد على أن يبذلوا كل جهدٍ مستطاع لتحريرهم وعودتهم إلى بيوتهم وأسرهم، ذاك هو الشكر الذي ينتظره الشعب والأسرى الذين آثروا غيرهم، وتنازلوا عن حريتهم، وهي عزيزة، ليحققوا حرية غيرهم، ويرسموا البسمة على شفاه غير أهلهم، وإن كان الشعبُ كلهم لهم أهلٌ.

كثيرون هم الذين شاركوا في صناعة هذا النصر، وفي وصولنا إلى هذا اليوم، وفي تحقيق الحلم الذي كان يراودنا، والأمل الذي كنا نتطلع إليه، ونعمل من أجله، كلهم شاركوا رجال المقاومة، وقاسموهم الدور والمهمة، فما كان لطرفٍ أن يصل إلى هذه النتيجة المباركة دون جهد ومساهمة الآخرين، في الوقت الذي لا يدعي فيه فريقٌ أنه وحده الذي نفذ العملية، وأنه استطاع أن يصل إلى نهايتها بجهده وحده دون غيره، فهذا نتاج المشاركة، وعمل الوحدة، وبركة التعاون والتكامل.


CONVERSATION

0 comments: