المفكرون قلة، ولكن عقولهم أنشط. إن أهمية المفكرين والكتاب، تتوقف على مدى ما ينشئون من وعي إنساني ,وليس على مدى ما يتقلدون من مناصب. وقد يبدون في بعض الأحيان، بسبب الحصار عليهم، اقل قوة وحضورا مما نعتقد، وقد لا تكون شجاعتهم هي المحرك لهم، لكنهم ممتازون في بعض النواحي، فهم لهم الأتباع والمعجبون، ويطاعون إلى درجة كبيرة. هؤلاء، الذين تركوا بصماتهم، وحققوا قدرا كبير من الانسجام، بين الأفراد، والشعوب، والحكومات المختلفة، ويقبل الواحد منهم، الحياة بما فيها من قيود، رغم نزوعه إلى التحرر والحرية، لأنه لا يتوقع من السماء، أن تكون خادما طيعا رهن إشارته. هؤلاء يجب أن يفسح لهم في المكان،ويقف الآخرون لتحيتهم.
إن نظرة بسيطة تلقيها العين، على ما يحيط بنا كل يوم، ترينا أن هناك حربا على المفكرين، يدبرها أعداء الإصلاح والتنوير،الذين يجدون مصلحتهم في بقاء الوضع على ما هو عليه، ليضمنوا بقاءهم، في الصفوف الأولى من مقاعد السلطة، أطول مدة ممكنة، قبل أن يأتي الإصلاح بغيرهم، ويكشف زيفهم، وقلة حيلتهم. إن أعمال المفكرين الشاقة، في الفكر،والعلم، والابتكار، تذهب عبثا وبلا جدوى، بسبب سوء إدارة مؤسساتنا الصحافية، والإعلامية، وقلة معرفتهم ، وضعف تجربتهم.وهذا هو سر تحول الجماهير إلى مصادر معرفية أخرى. وإننا في ظل التطورات الهائلة، والتحديات غير المتوقعة، التي نفرض نفسها علينا، فإننا نكتشف الآن، بأننا لسنا أقوياء إلا في أفعالنا السهلة، والبسيطة، والعفوية.لقد كان من السهل عليك إقصائي، ولكن كان من الصعب عليك أن تكتب مادة واحدة بمستوى ما أكتبه، وما كتبته في جريدتكم. رحم الله زمانا كان فيه الرافعي، والطهطاوي، والزيات، هم رؤساء تحرير الصحف ، وكان الكتاب يتعلمون منهم، الآداب، والأخلاق، وكل أشكال المعرفة. لقد حصلنا يا سيدي على الكتابة، وعلى التربية، والعلم . ولقد روضنا الحيوانات، وقهرنا الصاعقة، ولكننا ما زلنا نتقدم بخطى متباطئة نحو النور. ولقد جعلنا الحيوانات أليفة، وربيناها، ولكن ما يزال علينا أن نجعل أنفسنا أليفة ونربيها.
إن الحياة بالنسبة للكاتب، هي الصورة التي عليها يتم تحقيق الممكن. بيد أن هذا الممكن تعترضه عراقيل كثيرة، أهمها انقلاب الإنسان نفسه، وقبوله في البقاء خارج دائرة الفكر الحر، وميادين الارتقاء، خوفا من الدخول في عنفوان التجربة، التي يتوقف مصيره عليها. وتزداد هذه العراقيل شدة، عندما تفوض أمور الكتاب لواحد منها، أقصد من هذه الحجارة.وإذا كانت الحياة كذلك، فيجب أن يهتم المفكرون أولا، برفع الحجارة التي تتعثر أقدامهم بها، أو الوقوف عليها، واعتبارها درجة في سلم الارتفاع، على الرغم من معرفتهم بأنها قاصرة عن حملهم، وأنها مهشمة ومهزوزة، ولا مبادئ لها ولا قناعات، ووجودها ليس أكثر من فراغ تشغله، فهي موجهة بوحي من إنسان آخر، مثقل بمصيره، لا يتصف بصفات المفكرين وقدراتهم.
وفي بلادنا، فان المؤسسات الثقافية، عندما تكتشف وسط جمهور الكتاب، رجلا مثقفا، ومتعاليا، يفكر بالعقل، ولا يخشى الأصنام، ولا يطلب شيئا، تكون النتيجة هي قمعه، ومنع ظهوره . وتعطى الفرصة لمن لا يضر ولا ينفع، بينما يقال للرجل المفكر، إنه رجل ليس في مكانه، وأنه يفكر بصورة رديئة . لنضعه في المكان اللائق به، بعيدا عن الأضواء، عندئذ سيفكر جيدا .بينما ينطلق الآخرون من الوصوليين، كالصواريخ لا يخطئون أهدافهم. حقا إن الرجل الطيب التقي، في أكثر الأحيان، يعيش حياة نكدة في هذا العالم، بينما الخبيث الذي يميل إلى الشر، يعيش حياة رغدة. والأمثلة كثيرة. إن الناس يشعرون بعدم الرضا، لمجرد أنهم لا يجدون الحاضر ملائما، لتحقيق الأهداف التي يعتقدون أنها حق وعدل . وهم يعتقدون بأنكم قد جعلتم من الفكر والكتابة، فن اختيار الأكذوبة، التي تشبه الحقيقة، من بين كثير من الأكاذيب، التي أفسدت الفكر والأدب، وأبعدت الناس عن التفكير السليم. وتعب المفكرون من المطالبة بإصلاح الفكر، وانسحب كثير منهم من ميادين المعرفة، وفضلوا العزلة . فلا أسف على حياة، يقود الضرير فيها عموم الناس، فيكون صورة للعصر، ومرآة للإنسان الحر.
إن واحدا من ادهي حكامنا، إذ هزه بعنف احد الأخلاقيين الشباب، الطافح بالحرارة ،قال له بعد ربع ساعة، وهو يمسك بكتفه بصورة ودية: " ما قيل كل شيء.. سنعود إلى الموضوع عندما تصبح وزيرا" وكبر الأخلاقي وصار وزيرا، وانتم تحزرون التتمة. إن عصر الزخارف والبطولات الوهمية السابق ، انزوى، ثم تلاشى، رغم كل الجهود التي تبذل لإنقاذه.
إن المعرفة معناها القوة المعرفية.وحرية الكتابة، هي مفتاح الوصول إلى المعرفة. ولقد عانت الجماهير في بلادنا، وران على عقولهم غشاوة، من مستوى ما تقدمه الصحافة، وهو مستوى هابط، يعكس صورة سلبية للواقع المر للفكر والثقافة، على الرغم من تطور وسائل المعرفة، وشدة المنافسة. وقد كنتم أحد أسباب الاضمحلال في عقول الناس، ونزوعها إلى الاغتراب، لافتقار الصحافة إلى المنهج الصحيح، وابتعادها عن الحقيقة. إن الأقزام التي تقف على أكتاف الكبار، تبدو أطول منهم، وترى أبعد منهم،لكنهم في الحقيقة يظلون أقزاما، تحملهم أكتاف الكبار. ولطالما صنعنا في هذا الوطن الجميل، أشياء كثيرة، يمتلكها الآخرون. لمثل هذا الغرور، أنت تمتنع عن مكالمتي، وتكبر على أمثالي، فهل خطر في بالك رؤساء تحرير الصحف من الكبار؟ هل تعرف عباس العقاد؟وطه حسين، وزكي نجيب، هل قرأتهم؟كانوا لا يكبرون على أحد، وكانوا يصنعون القهوة بأيديهم ويقدمونها للكتاب، وكان الناس يتعلمون منهم السلوك الحضاري. أما أنتم فقد أفسدتم بمذاهبكم الوصولية، وكتاباتكم المتواضعة،التي يكتنفها الضباب، وتعجز عن استخدام المعرفة لإغراض عملية. أقول، أفسدتم الفكر، والأدب ،والثقافة، وزورتم الإعلام. ولا بد من يوم تحاسبون فيه، أمام الجماهير المتعطشة للمعرفة العملية، والفكر الحر.فأي عدالة هذه، أن تكون أنت والزيات في صف واحد؟
إن الوظيفة المتمثلة برئيس تحرير وجد نفسه في غير مكانه، تفقد فتنتها للجماهير، وذلك بسبب برود طاقتها، وانكشاف زيف أمرها، بفعل إخفاقها في علاج المشكلات التي تجابه المجتمع. ولكن ذلك الموظف المحظوظ، يصر على التشبث بدوره، وينتظر مثل حجر الشطرنج ،أن يحمله الآخرون من المكان الذي لم يعد يصلح له، بعد فقدانه طاقته الفكرية، إلى مكان آخر. وهنا يستعن الموظف الجذاب الفاشل، بالقوة العارمة للحفاظ على مركزه المرموق في المجتمع ، ويقايض الولاء بالوظيفة الذي تعود أن يكبر بها.وليس الوظيفة هي التي تكبر به. وفي رأيي فإن رسالة رئيس التحرير، هي إيقاظ مقدرة الإنسان على تحديد المصلحة العامة، عن طريق المناقشات. ومن الخطأ الذي يقود إلى الكارثة، قمع المفكرين والتسلط عليهم.
إن المفكرين رجال عظماء، كان لهم شانهم في الدين، والسياسة، والأخلاق . إن حركة التاريخ، تظهر اتحاد الدين الوثيق بالمفكرين . فكل الأنبياء كانوا مفكرين، وقادوا حركة توعوية متمردة، بعد أن رفضوا كل أشكال الفكر الجاهز. فإبراهيم ثار على أبيه، وحطم أصنام قومه. وموسى كان مفكرا عظيما، وجاء بالوصايا العشر، وقاد حربا طويلة، ضد فرعون وجنوده. وعيسى كان نبيا مفكرا، علمه الله الكتاب والحكمة، وحمل رسالة السلام والمحبة. ومحمد كان يتعبد في الغار ، يتأمل في نفسه، وفي الكون، ويفكر. و قد ثار ضد قومه، فكذبوه. إن قيمة الكاتب ومهمته، أن يزيل عن القارئ هذا الذهول، الذي كثيراً ما يقع فيه، فينساق في عادات فكرية وعقائدية تاريخية حتى يتحجر. والكاتب العظيم، هو الذي يصدم قارئه فيوقظه، ويرد إليه وجدانه، ثم يزيد هذا الوجدان سعة وعمقاً. إن المفكرين الذين تجرئوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئاً في التفكير القديم، وأوجدوا تفكيراً جديدا. ولكنا لا نجد مفكراً عربياً واحداً، نستطيع أن نضيفه إلى قائمة المفكرين ، لسبب واحد، هو أن التفكير الحر المستقل، أصبح جريمة. وصار الناس بتوصلكم إلى رئاسة التحرير، أشبه ما يكونوا بالأعمى، يبحث عن قطعة سوداء في غرفة مظلمة، والقطعة مع ذلك ليست في الغرفة.
إن سبب إقصائي عن الكتابة، أنكم ترفضون العلم، وتشجعون الهراء. إن العلم هو الذي يجعلنا إنسانيين في الأدب، لأنه يحملنا على التأمل، ثم التفكير. كما يحملنا على المقارنة، فيكون الغضب، ويكون الإلحاح في المطالبة بالإصلاح. وأديب بلا علم، هو أديب بلا إنسانية. ومفكر هذا الزمن، ليس هو رئيس التحرير، الذي يبيع الهواء، وليس هو المسؤول الذي يقوم بدور موظف الاستقبال،وليس هو الرجل الأنيق الذي يوزع الابتسامات، ولي هو الناسك الذي ينأى عن الناس، ويتكلم بما لا يفهمون. بل هو الذي يختلط بهم، ويدرس مسائلهم، ويحاول إصلاح أحوالهم. بل إصلاح أجسامهم وعقولهم. يدرس الطبيعة البشرية من المقامرة في البورصة، وسباق الخيل، والعوامل الاقتصادية، لأنه لم يعد في مقدور إنسان أن يتكلم عن الأخلاق والفضيلة، والرذيلة، ما لم يعتمد على فهم النفس البشرية، ودراسة المكتشفات. إن الوظيفة حرة أو حكومية، من شانها أن تحد من النشاط العقلي، وقد يترتب على ذلك أن يفوت المرء كثير مما قد يمكن إن يصل الطباع في نواحي المعرفة علمية أو فلسفية . إن من حسن حظ المرء، إذا لم يكن مضطرا أن يدفع مثل هذه الضريبة، ليقتطعها من حريته ومواهبه، أو ميوله العلمية، أو الأدبية.فهل أنت الآن كما كنت قبل الوظيفة؟ في الغد مثلا؟ إن الأديب المحترف، لا يتبع أميرا من الأمراء، ولا يرتبط بقصر من القصور، أو بوظيفة.
إن القاعدة التي تقول " إن الحاكم الذي يعين شخصا في وظيفة، بينما يوجد بين رعيته من هو أكفأ منه، إنما هو آثم نحو الله والدولة،يجب أن تكون دستورا لنا. وهذا ينسحب عليك أنت. يقول الحكماء : ابحث عن الرجل الذي يمتلك القدرة في أي بلد، وارفعه إلى أعلى مكان، وأعطه الولاء، وبذلك ستحصل على حكومة متكاملة، بوجود ذلك الرجل في هذا البلد، ولا يمكن أن يخدم البلد برلمان أو غيره، مثل ما يخدمه ذلك الرجل اصدق مثال على ذلك نابليون .
إن الذي يميز الرجال المفكرون في العالم، هو وضوح الرؤية ونفاذ البصيرة، فهم يسمعون نداء روح العالم بوضوح أكثر من بقية الناس، والنتيجة المنطقية لهذا أن هؤلاء المفكرون يجب ألا يعيروا سمعا لنصح الجماهير، لان الجماهير لم توهب صفاء الذهن الذي يلتقط إشارات الروح . إنهم يفهمون الأمور أكثر مما يفهمها الآخرون . وفي حالة الغفلة وعدم الوعي يقوم هؤلاء بإيقاظ الروح التي تسكن أعماق كل فرد. فهم معصومون من الخطأ، وأعمالهم فوق كل أنواع النقد، وكل ما يفعلونه سلوك طيب حميد، لأنهم عظماء، وقد أرادوا شيئا عظيما، ونفذوا إرادتهم وفقا لحاجة العصر. هؤلاء المفكرون وحدهم يعرفون ما هو الشر، وما هو الخير، وأعمالهم ختم المصير المطلق المتعالي. إن المفكرين عظماء التاريخ، وهم عجلات الفكر، وليس عظماء التاريخ سوى العناصر التي يتحقق بها التقدم، وهم بمثابة المقاييس أو العلاقات التي يقاس بها التقدم، وكذلك فان أهداف كل العظماء، تدخل فيها تلك القضايا الكبار، من ناحية كونهم قد استمدوا غايتهم ودعوتهم، لا من الأوضاع العادية الهادئة، التي يقررها النظام القائم، بل من مصدر خفي. إنهم يعتبرون أنفسهم رجالا أحرارا، يستمدون باعث حياتهم من أنفسهم، ومما يشعرون به شخصيا من أنواع الاهتمام والميول، ولكن الحق أنهم دمى في أيدي روح العالم، فهم يجهلون تماما الفكرة العامة التي يعرضونها، عندما يسعون وراء تحقيق أهدافهم تلك، وليست عظمتهم في الحقيقة إلا في أن لديهم البصر النافذ الذي فيه من العمق ما يكفي لان يدركوا متطلبات الزمن .
إن كل ما كتبته، كان جزءا من إسهاماتي ضد الإحكام الرجعية المسبقة، التي توصم الآخرين، وضد التعصب، وتعبيرا عن إيماني بالعقل ومستقبل الإنسانية، وبقدرة العقل على نشر التسامح .لا نريد الإصلاح عن طريق إثارة مشاعر الشفقة والوجل، وإنما نريد التعبير عن أرائنا بحرية تامة، ونقد أراء الخصوم . لماذا نحتاج دائما إلى الحيل لنتجاوز الحدود التي تضعها أمامنا الرقابة. إن الرجال كلهم ليسوا واحد . أن التاريخ الإنساني، ما هو إلا تاريخ أفراد من المفكرين ، صبغوا الوجود الفكري والسياسي بإرادتهم ، أي أن حركة التاريخ ، ليست حركة شعوب أو طبقات ، إنما هي حركة أفكار فردية متنوعة. فالتاريخ هو ما أنجزه المفكرون، الذين عملوا فيه، وكانوا في حياتهم القدوة والنموذج ، بمعنى أخر، كانوا هم الذين خلقوا كل ما فاز به وبتحقيقه جمهور الناس العام . فكل ما نراه من انجاز في العالم ، هو حرفيا النتيجة المادية ، والتحقيق العملي ، والتجسيد للأفكار التي عمرت بها مخيلة هؤلاء، المرسلين إلى العالم.فهل تستطيع أن تعد نفسك واحدا منهم؟ إن الحضارة تستند في سير مراحلها المتتابعة، على أفكار الرجال. فما الذي تستطيع أن تضيفه؟ إن درجة الحضارة تقاس بنموذج الرجال، الذين أنجبتهم هذه الحضارة عامة. ومن حسن الحظ، أن العقل لا يباع ولا يشترى. وكل شيء يجري كما لو أن الإله، قد خص كل نفس أرسلها إلى الطبيعة ببعض الفضائل، وببعض القدرات، ليست قابلة للانتقال إلى الناس الآخرين، وصالحة لهذه الصفوة فقط. لقد وجد أناس خارقون عظماء،قادوا الإنسانية إلى اللحظات العظيمة في التاريخ . إن البحث عن الإنسان العظيم، هو حلم الأجيال المتعاقبة، وهو أكثر اهتمامات الإنسانية جدية . إن الناس في جميع الأزمنة، قد تعلقوا ببعض الشخصيات، التي كانت إما بصفة الأفكار التي تجسدها، وإما لروحها المؤثرة بنوع خاص، تستحق مكانة عظيمة.
فماذا بقي لدينا ألآن من المفكرين؟ ومن الذي أقصاهم؟ لم يبق شيء. أو إن شئت دقة، فقل بقي نزر يسير جدا . إن ما له قيمة، وما يبقى، إنما هو القليل النادر. وهو الحال الإيجابية التي يضيفها كل منهم .أما الزبد فيذهب جفاء. إن القول الحق قادر بنفسه، على أن يحتل كل مكان للفكرة الباطلة . فتلك خير وسيلة لتفنيد الباطل، دون أن نكلف أنفسنا عناء نقد هذا، أو ذاك، ودون أن نكتشف كتابا بلسانين. إن وميض عاصفة البرق، قد يبدو أحيانا، أوضح من ضوء الظهر، وتبدو الزهرة السيئة أحيانا، أجمل من كل الأزهار.إن كل التاريخ الحديث الذي صنعته الصحافة، وأرخت له بأقلام كبار كتابها، لم يكن إلا فاشلا. وان عصر الثقافة بوساطة الإعلام، أيضا لم يفلح، وكل ما خلفه لم يكن ليتفق مع مراميه ومقاصده. ونفس الفشل أصاب محاولات الإصلاح، الذي بدلا من تحقيق المهمة الكبرى التي كان اختطها لنفسه، أي توطيد الحرية الدينية لم ينجح إلا في هدم الدين . وكذلك شان السياسة التي بدلا من الحرية والمساواة والإخاء خلفت برجوازية المجتمع الجديد ، وأظهرت أشكالا جديدة من اللامساواة والكراهية بين الناس . إن التناقضات التي كان يخفيها هذا العصر تركت أثارها محسوسة، حتى أننا نستطيع التبوء بكل تأكيد، أن الأفكار الرئيسية الخاصة بعصرنا منذورة للفشل . إن الثورة الاجتماعية لن تتحقق فقط بقوة الأشياء، بل بقوة الناس وبطاقات الوجدان والإرادة . إن القرن الماضي، الذي أثقلته أسباب عديدة من الفشل والخيبة، قد فتح آفاقا أخرى، تظهر دور المفكرين وشجاعتهم الأدبية، في تطوير الناس وتصحيح طرائق تفكيرهم، وهذا لا يكون إلا بوجود الفكر الحر، والصحافة الحرة. إن التقليديين يعترفون بوجود الرقي في ميدان العلم والتقنية . لكتهم يعتقدون بان التطور في ميدان السياسة، لا يشكل رقيا بل يعبث بالنظام الطبيعي الذي للمجتمع، ويقود المجتمع إلى الدمار.
إن الغالبية العظمى من الناس، تبقى على الدوام في حالة متوسطة، لا هي شديدة الخبل ولا بشديدة الانبهار، لا كبيرة التمسك بالفضيلة، ولا كثيرة الرذيلة، ولكنها مسترخية في فراغ من الكفاف الهادئ، غير مبالية ولا مثيرة للفضائح، ولا محدثة للمفاجآت ولا متجاوزة للقاعدة المشتركة، وممثلة بصمت للأخلاق ولدرجة الخاصين بالعصر وبالبلاد التي تعيش فيها. لكنها في المقابل، تثق بالمفكرين الجادين، وليس بالوصوليين والانتهازيين، الذين غالبا ما يكون مصيرهم على رصيف الحياة. إن الرجل المتوسط يواصل عمله في زراعة أرضه، أو في متجره، أو وظيفته، يحب زوجته وأولاده، ويعتني بحيواناته وما يمتلكه أو يميزه عن غيره من أبناء بلدته. وهو دائم التشكي من صعوبات الزمن، ووجلا من الدين ورجالاته، غير راغب في شيء قط، إلا أن تتركه السلطات الموضوعة فوقه وشانه بسلام، هذا هو حال الرجل المتوسط، كان يعيش على هذا النحو منذ سنوات ما قبل الميلاد، ولم تتبدل لا طبيعته ولا تصوراته، وهو ما يزال اليوم باق ، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في الشطر الأعظم من العالم، شبيها بما كان عليه من قبل .إن حياة الإنسان العادي الحقيقية، هي حياته اليومية بدائرة موداته الصغيرة، وبالمخاوف، والجوع، والرغبات، والتخيلات، التي لا ضابط لها، فانه لا يقوده فكره الذي يخفيه إلى الاهتمام بالسياسة، إلا عندما يتجه انتباهه إلى شؤونها، كما يتجه إلى شيء يتعلق بدائرته الشخصية تعلقا حيويا. وعلى ذلك فان الإنسان المتوسط، لا يستطيع أن ينبذ السياسة العالمية، وان يتنعم في الوقت نفسه بالحرية الخاصة. ولكنه لكي يتعلمها، اقتضاه الأمر أجيالا لا حصر لها.إن علينا أن نتوقف عند هذه النقطة الخطيرة، فكيف نضمن حسن تفكير هؤلاء إذا وقعت الواقعة؟إن علينا تغيير طريقة تفكيرهم البدائية بالفكر الحر.فهل عندك ما يفيد لهذه الوظيفة؟
إن كل أشكال التقدم والحضارة، ارتبط اشد الارتباط بالمفكرين الذين وضعوا أسس التفكير الحديث. فالفكر قوة تحريرية كبرى، تحرر الإنسان من الجهل والخرافات . ومنذ بدايات عصر النهضة، وظهور البوادر الأولى للنهضة، برزت العلاقة الطردية بين الفكر والحرية، واكتشف الفكر الإنساني أن التقدم في احدهما يؤدي إلى تقدم الأخر. فلم تكن الكشوف العلمية التي توصل إليها كوبر نيكوس، وكلير، وجاليليو، ونيوتن، تعني مجرد بداية عصر جديد في تاريخ العلم، إنما تحمل في طياتها تحرير الإنسان أيضا، من الجهل والخرافات .
إن رجل السياسة في بلادنا يسعى لتركيز السلطة في يده عن طريق السيف، أو بأية طريقة أخرى . ورجل الدين يسعى لتركيز السلطة في يده، بما يمتلكه من حماس ديني، وطرائق خاصة بالوعظ والإرشاد.ثم تأتون أنتم ، ليس لديكم السيف ، وليس لديكم الوعظ والحماس الديني، ولكنكم تسعون إلى السلطة بالوقوف في وجه الكتاب والمفكرين، والادعاء بأنهم يقلقون راحة السلطة!
إن قدرتنا على نفي الأشياء، تظهر جانباً أساسياً من جوانب التحرر. إن القدرة على التلفظ ب "لا" ميزة يختص بها النوع البشري. حقاً، بكلمة "لا" يضع الإنسان نفسه ككائن قادر على الاختيار، وقادر على أن يتحقق، لا كمجرد أفكار أو كمجرد رغبات. إن الشخص أفعال أنجزت، أو هي في طريق الانجاز، بصفتها أفكاراً ورغبات ممكنة أو نزوع.إن كل حرية تحطم، على الأقل، إحدى السلاسل المقيدة للكائن البشري.إننا إذا اعتبرنا الحرية "عائقا"ً لأصبحت نفياً لمفهوم الحرية ذاتها. وبديهي أن كل كسب جديد يحصل عليه الكائن البشري، في سعيه نحو التحرر، يحدث فيه تغيراً من حيث الكيف، وتحسناً في مشاعره وعاداته. ولقد كانت لفظة "لا" الجسر الذي عبرت الإنسانية فوقه إلى ضفاف النجاة.بل إن المسلم لا يكون مسلما في دين الله، إلا إذا بدا بلفظة "لا". فكانت"لا" رسالة مواقف المفكرين وشجاعتهم ، وهي عنوان التقدم وأساس الحضارة.ومن هؤلاء سقراط، الفيلسوف اليوناني، و الشهيد الأول للعقل،قال "لا" واتهم بأنه يجحد آلهة اليونان، ويضلل الشبان، فحكم عليه بالإعدام . وكان في استطاعته أن ينجو بنفسه، إذا هو تعهد أن ينقطع عن التعليم،ويوافق الجماعة. ولكنه أصر على قول الحق، وأضاع نفسه . ومنهم ابن رشد، الفيلسوف الشهير قال"لا". فاضطهد من اجل ذلك، وسجن، ونفي، فلم يعبا بذلك كله. ومنهم ابن تيمية احد الفقهاء المشهورين. أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره،فقال لهم "لا" فوشوا به إلى السلطان فسجنه، فظل يكتب الرسائل في سجنه . وفي العصور الحديثة جاليليو الفلكي الايطالي ،اخترع التلسكوب، فرأى به أن المجرة ليست إلا نجوما عديدة، وان في القمر جبالا ووديانا كالتي في الأرض، وكان يعلم أن الأرض تدور حول الشمس، مخالفا تعاليم بطليموس القائلة بان الأرض مركز الكون،فقال "لا" فاضطهده من اجل ذلك بعض القسيسين، فاخذ، وسجن، وعذب . ومنهم دارون الفيلسوف الانجليزي، لم يعذب بالسجن أو النفي، ولكنه عذب بالانتقاد المر من رجال عصر . وكامبانلا الفيلسوف الايطالي، اغضب بعض القسيسين والأمراء بتعاليمه،وقال لهم كلمته المشهورة:" إنكم لا تصلحون للحياة" وكان يقول، إننا نستطع أن نتعلم من امتحان الأشياء التي حولنا، كالأشجار، والأنهار، أكثر مما نتعلمه من كتب الفلاسفة القدماء، وقد لبث في السجن خمسا وعشرين سنة .
هذا هو نموذج المفكرين والكتاب الكبار، الذين دخلوا التاريخ البشري من أوسع أبوابه. ولكننا لا نجد في حياتنا الفكرية والثقافية، غير المراهقة. ودليل ذلك ما نشاهده من تواضع مستوى التفكير في الوسط المؤثر بين الجمهور المتلقي، سواء كانوا متعلمين أو معلمين.وهي ظاهرة ليست موجودة في العالم المتقدم ،أو انه تجاوزها بقرون بعيدة ، ولم تعد تشكل مشكلة للإنسان في بلاد الغرب.لكن إذا توجهنا بالحديث عن بلادنا ،فهذا يعني أن نتحدث عن أشياء كثيرة، عن الفقر بجميع مستوياته وأشكاله ، ونربط هنا بين مستوى الفكر وبين الفقر، انه عالما الفقراء. هو العالم الأكبر سعة والأكثر تعاسة في الوقت نفسه بين شطري البشرية.. عالم ثالث . ادني من العالم المتقدم ، يضم من لا يؤبه لهم من مخلوقات الله من البلاد المتخلفة، والتي يسمونها تأدبا، أو ملقا، أو تغطية للواقع، بالبلدان النامية . " أنها "متخلفة " في المنظور العالمي بسبب أنها لم تلحق بالثقافة الحديثة، ركضا أو طيرانا. وليس بالإمكان أن تلحق – في أوضاعها الحالية على الأقل – بسبب الفقر العلمي، والثقافي، والمادي، وسوء الإدارة، وقصر النظر، وعدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب. إننا نجد ضغوطات الفقر بجميع مستوياته وأشكاله ، وتردي مستويات التفكير ، واختلاف طرائقه ، عوضا عن مرتزقة الفكر والثقافة الذين يجدون مصلحتهم في بقاء الوضع القائم على ما هو عليه
إن ما ينشر الآن في الرأي، يعبر عن كثير من المراهقة الثقافية، والنزوع الثقافي، والبداوة الممدنة في صاحب هذا القلم أو ذاك. وتم إبعاد الفكر الموضوعي الجاد، بعنف المؤسسة القامعة، وهو أمر غير مشروع، وغير عقلاني، ولا يخدم إلا مصالح الأقلية، ولا بد في مرحلة الإصلاح من كشف حقيقته. فهو أخطر من العدو الحقيقي، وأشبه ما يكون بالسرطان القاتل. لأنه يهدف إلى إلغاء الآخر. وليس إلغاء الآخر سوى إعلان للعنف السافر وتغييبه كليا، وها أنا شخصيا أعيش هذه الظاهرة على أكثر من صعيد. وصعوبة القضية هذه تقوم على السؤال التالي: أين المعيار الذي يسم أو يدين كاتبا، ويسمح للطرف الآخر أن يلغيه؟ إن هناك قاعدة وشروط ولكنها في جوهرها لا تعتمد صيغة العلم، ويوسع المثقف الناقد هنا، البحث عن سبل وحجج كثيرة، يدافع بها عن وجهة نظره. هل هذا يعني إننا دخلنا في دوامة عنيفة لاستطيع الخروج منها ؟ كلا فبالوسع ذكر نماذج متنوعة في الأدبيات الفكرية الحديثة أو المعاصرة،تصلح أن يقاس عليها.ولكن دعنا نتذكر المثل الشعبي:" غلطة الشاطر بألف" والقصد بذلك بالنسبة لموضوعنا، هو أن الكاتب بقدر ما يتصدى لمسائل كبرى لها أهميتها في المجتمع، وبقدر ما يضع نفسه في مركز مكشوف أو بارز، تكون مسؤوليته كبيرة، والغلطة الصغيرة تكون لها قيمتها وعلامتها ما دامت تؤثر في المجتمع، أو لها انعكاس سلبي على أفراد المجتمع. يمكن القول أن معظم الكتاب إن لم يكن جميعهم متورطون في مثل هذا المشكل.
أليس من الممكن يا سيدي، أن تكون المواقف قد انعكست تماماً، وفقا لرغبات الآخرين وميولهم الشخصية ؟ ألا يكمن السبب في صعوبة فهم المقومين للأطروحات في كونها ترتكز في غالب الأحيان إلى فكر عميق متأصل، لدى رجل تبصر العالم، وقرأ ما في الكتب، بينما يعيش المقومون في عالم بالغ التواضع من المعرفة؟ كيف يتم التعامل مع هذا التناقض؟ هل يعقل أن نخلط دون تمييز بين المفكرين وبين الموظفين المستخدمين من اجل الوظيفة؟ لقد دخلت ذات يوم على محرر الصفحة الدينية، فوجدته بلا عمل، يدخن سيجارته، ويشرب الشاي، ومكتبه يخلو من الورق وأشكال الكتابة، وقدمت له مادة ثقافية للنشر، فرفضها قبل أن يقرأ ما فيها، فسألته عن السبب؟ فقال لي: إنني أصور صفحات من كتاب عمر خالد، وصفحات من كتاب ابن القيم ، وأضعها على صفحة الجريدة، فلا يجروء رئيس التحرير ولا غيره، على انتقادي أو سؤالي ماذا نشرت وماذا فعلت؟ إنهم لا يقرءون! فلماذا إذن هي صحافة؟ ولماذا تعرضون مشاعر الكتاب للاستخفاف؟!
إن تكرار الحديث في مسالة من المسائل، يدل على الصعوبة التي تصل إلى درجة الاستحالة، التي تمنع نقلها من مجال النقاش النظري إلى مجال الفعل . وهذا هو ما يضطر المنادين بها، إلى إعادة النداء ، ليس من أجل المصلحة، وإنما لتنبيه الناس إلى خطورة ما يحدث ، وفقدان القدرة على التفريق بين الحق والباطل ، وهو في جملته غيرة على الثقافة والمعرفة.
إنني أكرر مرة ثانية، مناقشة سبب منعي من النشر، على صفحات الجريدة؟وهل كان لرئيس التحرير معيارا في قبول الكاتب أو رفضه؟إن المبررات التي يسوقها رئيس التحرير غير صحيحة، وتجربته في الصحافة والإعلام حكومية وظيفية وليست معرفة فكرية، فقد ذهب الزمن الذي كان فيه رئيس التحرير أكفأ من الكتاب والمفكرين، وكان الناس يتلقون المعرفة من قلمه؟!
إنه ليس بعيدا عن الأذهان، ما يلجأ إليه بعض المحررين، من طرق للدعاية للكتاب، تناسب منطقهم. وأقرب دليل على ذلك، أن أحدا من هؤلاء الكتاب، لا يستطيع أن يتجاوز حدود انتشار الجريدة التي تحمل اسمه.لماذا لم يستقر لنا أدب خاص؟ لماذا لا يعرف الناس، شاعرا أردنيا، أو كاتبا، أو أديبا، أو مفكرا؟ إنه بسبب ما يقوم به المحررون من أدوار، لا تتناسب مع المبدعين، ولا تحترم إنتاجهم. ولم يعد خافيا أن المعرفة الشخصية، تتسع في تحايل، إذ تحاول أن تحتوي كل غريب ومدهش.ويصدم المرء حين يلتقي بالأسماء التي تلمعها الجريدة.. إنهم لا يركبون جملة مفيدة، ولكنهم يحتلون مواقع ليست لهم!
كل هذا طيب، أو ينبغي أن يكون طيبا، لو استمر في الاتجاه الصحيح، وكان المقوم مفكرا، أو أديبا معروفا، نتعلم منه. إلا أن هذه المواقف والتصرفات الفردية المؤلمة، ليست إلا لحنا نشازا، بلا حركة فكرية حرة، ولا التزام اجتماعي، ولا هدف حضاري شجاع. فما الذي تفيده كل المقالات، إن لم يكن فيها أشعاع وتنوير؟! وماذا تفيد كل المصابيح، إذا أغمض الناس عيونهم؟! قد ضل من كانت العميان تهديه!
وأستطيع أن أوجز بأننا نعيش معركة بالأقلام المقاتلة، بين غلاة المتعبدين في محاريب أصنام الفكر والعلم، كوسيلة هروبية من قهر الأوصياء والموظفين، وبين غلاة المنغلقين في تفسير محدود لوظيفة الفكر والأدب . فهل تريدون تزوير الفكر؟ وما هو المطلوب؟أن نكتب بما لا يفيد؟ هل نكتب عن المدرسة وزملاء المدرسة في الصف الخامس؟ وهل نكتب عن زيارتنا الأسبوعية إلى الأهل في الجنوب أو الشمال؟ أم عن سير الحياة، وطريقة الولادة، والتربية البيتية، والحارات؟ وماذا تفيد كل هذه الكتابات؟أم نكتب عن أمانة عمان والبلديات والشوارع غير المعبدة؟ هل هذه صحافة القرن الحادي والعشرين؟ إننا نحتاج إلى شجاعة في مواجهة كل الأوصياء على الفكر وحرية التعبير، ويجب طردهم من المدينة.
إن دعواتا كثيرة، تظهر بين الحين والآخر ، تحاول إلغاء دور الكتاب والمفكرين في حياتنا الروحية والفكرية ، وبقائهم في الخدمة كتابعين للشخصيات السياسية، أو خدما لأغراض الدولة ، لا كدعامة لجوهر الحياة وتقدم الإنسان.وحجة هؤلاء أن هذا النوع من الكتاب، يثيرون البلبلة الفكرية،ولمصلحة الدولة أن يكونوا بعيدين !. ولكن النتيجة كانت عكسية تماما ، إذ تبين أن هؤلاء الكتاب المجهدين، والمتعبين، سلموا أمرهم لغير أهله، فتنازلوا عن علميتهم، وحرية تفكيرهم معا، ولا يعمر مثل هذا الحل قليلا، أو كثيرا .
إن كثيرا من المفكرين لا يستطيعون الجهر بما يتوصلون إليه من حقائق علمية ، لان الأوصياء يترصدون لهم بالحكم والتصنيف، فيضطر أن يكتم حديثه في نفسه، أو يرضى بالنبذ بلا رحمة . إن شروط التقدم تفرضان مواجهة هذه المعضلة كمعاناة واقعية ، لا كتدريب عقلي شائق، أو مناقشات فكرية مبهجة . فلماذا تنتاب المفكرين رعدة الخوف من الأوصياء وأهل الربط، وليس الحل، إذا ما اقترب المفكر من عرينهم؟
لقد لجأ بعض المخلصين المجتهدين، ممن وجدوا أنفسهم في هذا المأزق، إلى حلول أقنعت بعض الشباب الضائع، ولكنها ويا للأسف شوهت الحقيقة الأعمق، واعني بذلك تزوير الحقائق، ونشر الأفكار المضللة .فرفضها العقلاء وأهل الخبرة والدراية جميعا .وقد واكب هذا الحل التلفيقي حلولا هروبية وتسكينية متنوعة، منها تحريم الكتابة في المسائل الدينية، والقضايا الفكرية، والسياسية، رغم السماح بالحديث عنها، أو حتى تعلمها ، ومنها الاقتصار على الأفكار النصائحية والسلوكية، ليدع الناس القلق، ويحسنون النفاق. فهل هذا دور الصحافة في القرن الحادي والعشرين؟!وماذا أبقيتم لأصحاب الدكاكين؟
فالموقف الآن يحتاج إلى أكثر من شجاعة ، إذ على من يريد أن يخرج من هذا المأزق، أن يواصل سعيه إلى التغيير بكل ما أوتي من وسائل فكرية، وأمانة ذاتية، ورؤية موضوعية ، لا يحده عنها وصاية مهما بدت ساحقة أو مفزعة . وهنا أتساءل : إلى أي مدى يستطيع الكاتب في مجتمعنا، أن يطلق لفكره العنان ، وان يعطي لحدسه الأمان ، وان يثق في يقين موضوعيته النابعة من معاناة الباحث عن الحقيقة، لا يرده عنها مقولة مسبقة ولا معرفة جزئية ؟هل من سبيل إلى تحرير الفكر، دون وصاية إرهابية فكرية، سواء كانت مادية متشنجة، أو تفسيرية محدودة، بعدد الحروف والكلمات، وبشكل الألفاظ ؟هل من سبيل إلى قياس فكر الكاتب، اعتمادا على ما يقدمه من أطروحات جديدة، دون انصياع للتسليم برأي محرر، يعتقد انه يصنع التاريخ والحضارة ؟هل من طريقة للنشر إذا ما اختلف الكاتب مع المحرر،واستبعاد نبذه من مجتمع الكتابة، إذا ما اختلف مع رئيس التحرير، احتراما لعقله وتكريما لوجدانه وحدسه ؟
في تصوري أن حرية التفكير والكتابة، والمنبر الحر، ووجودها داخل الجدل الدائر، حول كيفية خروج المجتمع من أزمته الحالية. ظاهرة حضارية متكررة عبر العصور، وفي جميع الحضارات الإنسانية.ولكن ما يسترعي النظر هنا أن حرية الكتابة في بلادنا، تستخدم استخداما شخصيا للمنفعة الشخصية، وأحيانا أخرى استخداما طبقيا، من جانب بعض الفئات، والنتيجة تكون في الغالب الأعم، سلبية.
إن التحجر التفافي أو ما يعرف بالقطيعة المعرفية، أصبح ألسمة الضاغطة على العقل والوجدان والحدس في بلادنا. هناك أكثر من تسعين بالمئة من المؤلفات الموجودة في المكتبات ، يعود إنتاجها إلى المدى الزمني الممتد من القرن الثامن إلى السادس عشر، وتعاد طباعتها مئات المرات . أما مضمون هذه المؤلفات، فيمكن استقراؤه من خلال ما احتوته بعض المكتبات، ثلثاه ذو طابع ديني صرف، وربع الثلث الأخر أدبي، وما تبقى ليس أكثر من منقولات زهيدة في الفلسفة، والطب، والتاريخ، والتصوف . هذا مقابل الثقافة التركيبية الابتكارية ونمط مثقفها المطلع، والممارس، والمنتج، الذي حول الثقافة إلى ديناميت معرفية ، إلى ثقافة حضارة. تبرز هنا ثقافة الشروح على الشروح، والنقل على النقل، ويطغى نمط المثقفين التقليديين ، علماء الدين الرسميين ، الذين يعيشون على ثمار إنتاج سابقيهم، ويجعلون للثقافة وظيفة وحيدة : إعادة تكرار القديم . فهل يمكن اعتبار تكرار القديم مدا معرفيا ؟لماذا أكثر المثقفين العرب كانوا مبهورين أمام الغرب؟
إنني أميل إلى وقف نشر هذه الكتب ،أي أن يكون نشر الكتب القديمة في نطاق المحدود وبعد فحص دقيق، ذلك أن كثيراً منها لا يخلو من إسفاف، يترك أثراً في أخلاق شبابنا، ومنها دواوين الشعراء ذوي الأسماء الطنانة، على حين أن الواحد منهم لا يساوي عشرة قروش. إنا ورثنا من العرب ألفاظهم فقط، ولا أقول لغتهم بل لا أقول كل ألفاظهم، فإننا ورثنا عنهم هذه اللغة العربية، وهي لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء، إذا تعرضت لحالة مدنية راقية، كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن. واللغة العربية مع ذلك لغة شاقة تكد الذهن في حفظ قواعدها التي لا تنتهي، كأنه ليس في العالم شيء جدير بالدرس غير قواعدها.
لست أنتقص الأدب. وإنما أنتقص اللعب واللهو بالألفاظ ،كما يفعل معظم أدبائنا، يجيزون لعبهم ولهوهم على الناس كأنه أدب. نحن في حاجة إلى أدب علمي، يستغل جميع النظريات العلمية الحديثة. أما درس العرب، فهو في نظري نوع من الآثار.
إني عندما أعرض تاريخ الثقافة الحديثة، لا أتردد في الحكم، بأن الصحفيين قد أدوا للثقافة من الخدمة أكثر مما أداه لها من يسمون أنفسهم أدباء، أو أساتذة الجامعات. فإن أفضل الكتب الحديثة، هي من الصحفيين القدماء، وليست من بهاجر الأدباء المضحكة. واعتقادي أن الصحفيين سيحملون عبء الثقافة في المستقبل مدة غير قليلة، حتى ينسى أدباؤنا ألاعيبهم، وما حفظوه عن ظهر قلب من لغة الجاحظ، والجرجاني، وأشعار النابغة وابن الرومي.
نحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الغيبيات، ولا بأس من أن نعتمد على الترجمة إلى حد كبير.في مرحلة النهضة، ظهر نوع أخر من المثقفين، اقرب ما يكون للصحافي الذي يمتلك معارف شتى في أي ميدان من الميادين، والشكل الأمثل لهذا المثقف العمومي، الذي يكتفي بالنقل، ويترجم، ويجمع عن المصادر الأجنبية، ويروج المعرفة لدى القراء، دون إن يعرف بشكل دقيق العلم الذي يتناوله، ودون تحديد موضوعاته، واختبار أدواته، مكتفيا بتيني جميع أطروحاته، وبإدارة ظهره للواقع .إذا انتقلنا إلى المرحلة الراهنة نجد فيها الاهتمامات نقسها التي صبغت المثقفين التقليديين. فالموضوعات التي عالجها الدارسون في الجامعات تنتظم حول قطب مركزي أدبي – ديني ولا تشكل الأبحاث العلمية داخلها سوى النذر القليل.ومما يزيد الأمور تعقيدا في كنف هذه الثقافة التكرارية، أن بحاثتنا يتخذون في أبحاثهم التي يدعون علميتها، موقفا قبليا، أو طائفيا، أو مذهبيا، أو إيديولوجيا، لا يكون في الغالب منصفا .فالبحث العلمي يصيح كغيره خطابا إيديولوجيا ينطلق منه الباحث ليوظف الواقع لمصلحة ما، ليعتقد وليبرهن على صحته ،وليجد في النهاية ما كان قد انطلق منه في البداية. بعبارة أخرى أنا إمام نمط أخر من المثقفين. النمط المذهبي الجديد .ولكي يستقر لنا علم خاص ومعرفة أصيلة وثقافة معاصرة، لا بد أن تولد ويتأصل إنتاجها في قلب الأزمة المعاصرة، والبحث فيها والرد عليها بشكل ملموس.والأزمة وان تباينت من مجتمع إلى آخر فإنها تكون شاملة عندنا كما في الغرب . إن دراسة الأزمات سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، لا تكمن أولا في الغوص بحثا عن مصادرها، وليس في اجتزائها بشكل تعسفي، حسب تسلسل أسبابها بصورة مرسومة مسبقا. لكن يتوجب معالجتها باعتبارها حالة نوعية للمنظومات الاجتماعية . وهذا يعني على ارض الواقع انه إذا أريد فهم الأزمات، فإنما ينبغي وضعها ضمن سياقها الاجتماعي، بكل ما تحتويه من تشوش للرؤية، وعدم تحديد الوجه الأخر لهذا الفهم ،هو انه يتوجب إخراج الأزمات من مقولات القوالب الإيديولوجية الجامدة . فالبحث عن علاقة النتائج بمسبباتها، مع أهمية هذا البحث، يجب أن لا ينسينا أهدافا أساسية، وهي مراقبة وفهم ما يجري على ارض الواقع. إن قيمة جميع الحالات المرضية تكمن فيما تظهره عبر عدسة مكبرة، من شروط وظروف من الصعب رؤيتها في الحالة الطبيعية، مع أنها شروط وظروف عادية .هذا يعني وجوب عدم تبني ما يظهر على السطح من وقائع، عند دراسة أية أزمة سياسية، وبالتالي محاولة الولوج بعيدا في الأعماق لاستكشاف العوامل الحقيقية الفاعلة فيها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأزمات التي تعني بنفس الوقت دوائر اجتماعية مختلفة، لنفس المجتمع . لكن هل تسمح الظروف السياسية الراهنة بتناول القضايا والمسائل الهامة حتى نهاياتها المنطقية .؟ هل نجرؤ على اتخاذ مواقف نقدية صريحة تجاه التراث العربي الإسلامي والنقولات الغربية .إن انتهاج هذا الموقف يسمح بولادة علم خاصا وثقافة معاصرة، ويسهل علينا ربط المعرفة بالأطر الاجتماعية. إن هذا لا يقلل من أهميتها، لكنه يدعونا إلى إعادة تأهيلها بما يجعلها قادرة على النفاذ إلى واقعنا القائم، واستخدامها لفهمه وتفسيره.
يجب أن لا نغفل عن قدر كبير من التخلف والبدائية على صعيد المعارف والثقافة . حيث كان وما يزال للخرافات قوة كبيرة في توجيه سلوك الكثير من البشر، ولا يمكن للمرء إلا أن يبتسم بمرارة عندما نعدد الممارسات الخاطئة، على الرغم من ذلك القدر من الحماس والحب، الذي تتسم به كتاباتنا عن عالمنا الساحر.ثم انه مع ضعف روح الكشف والإبداع وتدهورها، والإهمال في البحث وراء الحقيقة، والسعي لحل الغاز الكون وقوانينه ونظامه، وطلب المألوف الشائع، أصبح التقليد الأعمى تجارة رابحة، والمجاراة والإتباع رائد الكتاب والمؤلفين السطحيين، كما هو الواقع في كثير من الأحوال في عصرنا الحاضر، مع بعض الفروق. وبسبب هذا الاتجاه الاجتماعي، خبت الأذهان المتوقدة، وجمدت العقول النيرة، وتقيدت حرية الفكر، وحسب الإبداع بدعة، والبحث لفهم أسرار الكون، خروجا عن العرف.
وقد وجدنا الناس، كثيرا ما يخلطون بين حصيلة الحقائق العلمية، التي يحصلها الدارسون من ميادين العلوم المختلفة، وبين المنهج الذي بواسطته استطاع الإنسان أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق. فيظنون أن من ظفر بأحدهما فقد ظفر بالآخر. لكن حقيقة الأمر على خلاف ذلك، فقد يحدث أن يخرج الدارس بشيء من الحقائق العلمية قد حفظها حفظا، دون أن يصبح المنهج العلمي طريقا ينتهجه في حياته العلمية، وذلك ما نلحظه في الكثرة الغالبة من دارسي العلوم في جامعاتنا، وكذلك قد يحدث أن يدرس الدارس منهج البحث العلمي، دون أن يكون قد الم بشيء من نتائج العلم، كما هي في طلاب الفلسفة والعلوم السياسية من جامعاتنا. هذا الانفصام بين العلم من جهة، ومنهجه من جهة أخرى، تولد لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل حياتنا اللاعقلية. فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع . فلو أخرجنا من جامعاتنا دارسي علوم يأبون النظر بغير المنهج العلم، وأخرجنا من ناحية أخرى دارسي مهج البحث العلمي مصحوبا بمضمون حي من العلم، لكان لنا من دمج العلم ومنهجه في حياتنا، شان أخر .
إن العلم لم يجاوز مجاله الأكاديمي في حياة الناس العملية. فمن الجائز في بلادنا أن ترى الرجل الواحد نابغا في علم، أو في أدب وفن، ثم تراه في الوقت نفسه خارج حدود علمه، أو فنه وأدبه، مؤمنا بالخرافة، كأي إنسان أخر ممن لم يهبهم الله حظا من نبوغ .فقد يحدث أن تنتشر شائعة، عن مرض، أو حدث طبيعي، فيجتمع مجلس النواب لينظر في سر هذا الغضب الذي انزله الله تعالى بالناس، ولا تجد من يفكر بالعقل، بل يحزم الناس حقائبهم إلى الموت، دون أن نجد من يحاول الوقوف على ما ظنوه علة الغضب الإلهي. وانظر إلى ما يصدقه الناس من خرافات، فهذه تدمع عيونها زجاجا ، وهذا يستطيع أن يجعلك ثريا، وانظر كيف يخرف الناس في علاج مرض السرطان القاتل، حتى الصلعان، فإنهم يجلسون تحت الجمل ليبول على رؤوسهم، ويخضعون طواعية لتجارب العطارين.وقل مثل ذلك في الطقوس الدينية وما ينسبونه إلى السنة.وانظر إلى ما يفعله الحجابون، وكيف يجعلون المرأة العاقر تحمل بقوة السحر!.فانظر إلى هذا التخريف يصدر من صفوه ممتازة في شعبها ومتى يحدث كل ذلك ؟ في عصر تزداد فيه فرص التعلم والتعليم، وبعد مئات السنين من عصر نيوتن العظيم. وهكذا كان العلم في ناحية ومنهج العلم في ناحية أخرى. إنني ازعم بان مثل هذا الخلط، يوشك إن يكون هو النبرة السائدة في حياتنا الثقافية بكل إبعادها، ومن هنا تضيع معالم الطريق أمام أبصارنا، حتى لترانا نتجه إلى وراء، ونظن أننا نسير إلى إمام.لقد ضاعت الحقيقة، وأصبح من المتعذر بوجودكم، إن لم يكن مستحيلا، اكتشاف الحقيقة ، أو الدفاع عنها.
ولأننا نجهل العلم، نجد ناساً فارغين يتحدثون عن الأدب، كما لو كان شعوذة ولهواء. بل إن منهم من يجد العلم في تصغير "محطة" إلى محيطة، وقلب الواو إلى ياء، ووصف الخادمة بأنها خادم فقط بلا تاء. وكأن هذه الشعوذة، هي رسالة حياتهم في هذه المدنية.ويطلقون على أنفسهم لقب"العلماء". أما صنع طائرة تستولي على السماء، أو الاستعداد لغزو القمر، أو إطالة عمر الإنسان إلى مائتي سنة، أو إلغاء حرارة الصيف وبرودة الشتاء، أو زراعة البحار، أو صنع اللحم من الخشب: كل هذا عندهم هراء، وإنما الجد الخطير في حياتنا، أن نعرف أن تصغير محطة هو محيطة.ومثل هؤلاء الشعراء الحمقى والمغفلين. إنني أشعر أن المتنبي وكل الشعراء والأدباء، سواء في نظم الأكاذيب.بل إن الله تعالى هو الذي يقول ذلك، إنهم أغبياء" في كل واد يهيمون"و"يقولون ما لا يفعلون"فكيف نصدقهم، ونوليهم زمام عقولنا.إن أفلاطون طردهم من المدينة. ونابليون قال: إن جيشا من الأسود، إذا وضعت بينهم شاعرا، تحول إلى جيش من الأرانب. ومع ذلك كل الصفحات للشعراء، وأهل القصة والرواية. إنني أقول، إن الشعر والقصة والرواية، ليست ثقافة.إنها أكاذيب للتسلية.
إن قيم الأدب مثل كل القيم، تتغير كلما تغيرت الظروف، وإذا كان الجمال يتسلط على الأديب، ويشغل ذهنه حتى يتوهم أنه خالد، فإن هناك ما هو أخلد منه، وهو الإنسانية. إن الأدب للحياة والإنسانية والمجتمع، وإنه ليس نكتة بديعة، أو بيتاً رائعاً، وإنما هو ارتقاء، وتطور، وكفاح لقيم الخير، والشرف، والإخاء، والحب.
إن مهمة الكاتب أن يحمل القارئ على أن يأبى أن يحيا حياة الحشرة بهموم شخصية وضيعة: أكل وشرب ومسكن. وأن يكسب هموماً بشرية عظيمة، كالحرية، والثقافة، والحضارة، والفن، والثورة.
إن الإنسانيين نوعان نوع يحيى حياة الداعية المكافح، الذي يحاول تغيير المجتمع البشري، فهو يكتب ويؤلف ويعمل ويغير. والأنبياء من هذا الصنف. ولكن هناك إنسانيين من غير الأنبياء، أو بالأحرى هم طراز جديد من الأنبياء، حاولوا تغيير المجتمع. مثل كارل ماركس، جان جاك روسو، وأفلاطون، ولا نكاد نسأل عن حياتهم الشخصية، لأننا نقنع بمذهبهم الاجتماعي. ونوع آخر يحيى حياة القديسين، أو ما نفهمه من معنى القداسة. منهم ينصبون أنفسهم للخير، ويجعل كل منهم شخصيته، مثالاً وقدوة لهذا الخير. ليس لهم برنامج لتغيير المجتمع، أو إذا كان لهم ذلك، فهو يتضاءل خلف حياتهم العظيمة. ومن هؤلاء "تولستوي" و"جوته" و"أفنانون". وغيرهم.إذ رفض الإيمان بالآلهة. وأعلن استقلاله الروحي وحطم الأصنام وآمن بإله واحد. وأرجو أن لا يفهم احد أني أعجب به لأنه آمن بإله واحد. وإنما لأنه رفض الخضوع للتقاليد والعادات. واستقل وفكر، وجابه، وأعلن، وجهر، ولم يبال الكهنة، ولم يبال الخاصة أو العامة.
إن التفكير لا يبدأ إلا بوجود مشكلة. الأفكار تولدها الظروف. إن المعرفة كلها مستمدة من التجربة. وتوجد كما تدرك في التجربة. إن الإنسان يفكر ابتغاء أن يعيش، ويبقى في قيد الحياة، ويحسن أحواله المعيشية.فالتفكير يتبع الكفاح، والفعل يتبع التفكير، ذلك لأن الإنسان لا يفكر، إلا إذا كانت لديه مشكلة يحاول التغلب عليها. ولو لم تكن لديه مشاكل، لكانت حياته عارية عن التفكير. إن التفكير لا يبدأ إلا حيث توجد مشكلة، أو اختلاط أو شك، ويراد حلها. فالتفكير ليس مجرد عملية احتراق تلقائي، أنه لا يوجد إلا حيث تكون هناك حاجة ومناسبة تدعو إليه.
إن التفكير ليس أمراً عشوائياً، وبلا هدف. فالتأمل لا يمر فقط من مجرد الحاجة أو الإشكال، بل يميل دائماً إلى الأشكال والحاجة. والحاجة إلى حل مشكل هو العامل المرشد دائماً في عملية التفكير. وما يساعدنا على التفكير ليس هو الهدوء والسكون، بل التحرك نحو الهدف، وتركيز العقل على موضوع، يشبه التحكم في السفينة، كي تتخذ طريقاً معيناً. وهذا يقتضي تغييراً مستمراً للوضع مع وحدة التوجيه.
إن الوظيفة الأولى للتفكير هي حل المشكلة التي نواجهها، وإيضاح الغموض والاختلاف، والإجابة عن السؤال الماثل في ذهننا، ونحن نتوقف عن التفكير إذا ما حلت هذه المشكلة. ولن نفكر بعد أو نستأنف التفكير، إلا إذا عرضت مشكلة جديدة، أو ظهر موقف محير جديد.
وما دام الأمر كذلك، فإن الأفكار هي أدوات تنجز بها معطى النتائج المرغوب فيها، إنها تساعدنا على أن نعمل شيئاً، أو نفعل على وجه أفضل، أو أكثر ذكاء، أو أقرب إلى النجاح خيراً مما لو كنا نعتمد على الغريزة أو الاندفاع وحدهما. إذا كان المقصود بالكتابة، الشعر والقصة والرواية، كما تسمونها أنتهم ثقافة، يكون الأمر لا خطورة له. إنما الحادث ألان، أن الفكر يستغل كأداة للشهرة الزائفة .فقد صنعت الجريدة أشخاصا لا يدرون من أمور الدنيا شيئا ، وقدمتهم للجلوس في الصفوف الأولى من مقاعد السلطة،ليفكروا نيابة عن الأمة، وتعرفون انتم بقية القصة. بعض الكتاب يرى استخدام القلم كنوع من تكريس الذات المغاير للفكر .ويفرز هذا التيار تيارا أو قطبا ينادي بشيء غريب على الحضارة والتقدم والمدنية، وهو التكسب، على الرغم من انه لا يمتلك من أدوات المعرفة، سوى ما يغطي به عورته.. ومن بعض الكتاب من يرى استخدام القلم في خصومة ضد الغرب، ضد الحضارة الغربية بكل معطياتها، باعتبار أن ما نعانيه الآن سببه الحضارة الغربية ، وهذا غير صحيح.بل سبب ذلك هو الجهل، وعدم القدرة على استيعاب الحياة.. وهكذا .
ولقد أكسبتني الثقافة النظرة الشاملة للحياة والكون. واعتقادي أنه لا يمكن للإنسان أن تتكون له شخصية سامية ما لم يكن مثقفاً، قد حقق النظرة الاستيعابية للكون، فنظم عقله وقلبه، بحيث ينسجمان في حركة الحياة الكونية، والآمال الإنسانية، ووصل في كل ذلك إلى رأيه الخاص، أو قلقه الخاص.
إننا يجب أن نمارس الكتابة ممارسة حرة باحترام الحياة أياً كانت، والتعرف إلى أشكالها وحمايتها من الأمين المستهترين بتجليات الفكر،فهم يخافون أن يكشفوا عن جهلهم، فتصغر أحجامهم.أنهم في الحقيقة أقزام على أكتاف الوظيفة. لست أحب أن يقرأ الشباب أن أحد قواد العرب وهو يزيد بن المهلب عجن الدقيق بدماء أعدائه وخبز منه الخبز وأكله، وكذلك ليس من مصلحة بلادنا الدستورية أن يمدح هارون الرشيد أو المأمون مع أن كلاً منهما كان حاكماً مستبداً لا يختلف أي اختلاف عن عبد الحميد الذي خلعه الأتراك عن عرشه.
فالحكومات العربية كانت في أرقى وأحسن أوقاتها، امتدادا لتلك العصور البائدة، ، ولا عبرة لما يقال بأن الإسلام يأمر بالشورى. فإن عمراً بن الخطاب نفسه، لم يكن يستشير أحداً فيما يراه خيراً لرعيته. دع عنك أنه ليس في الشورى معنى الالتزام. وجميع خطب الخلفاء تثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابوياً، قبل البابا نفسه، إذا قيس إليهم في بعض الأشياء يعد دستورياً.
ونتعلم من العظماء، الشيء الكثير، فغالبا ما يكونون اشد الناس حذلقة ومبالغة في الدقة. وهم يغرفون من تجربتهم الخاصة ، وهي تجربة لا شك مريرة , فنتعلم منهم الكيفية التي يتحقق بها إظهار الحقيقة ، عن طريق الكتابة ، والفن ، والشعر، والفكر . ولا بد للمرء أن يتمتع بإلمام عميق بأعمال الشعراء والمفكرين، إلى جانب المقدرة على المعرفة الجامعة الشاملة للتيارات الفكرية. وهذا هو ما سعيت إليه، وحين أردت أن أغرف من تجربتي في ثلاثين عاما من القراءة والبحث، تعثرت أقدامي بأقزام في الطريق لم ترهم عيناي.
أما السياسة، فان الكتاب الصحفيين،وبخاصة رؤوسا تحرير الصحف، يفخرون بأنهم يجيدون تعليمها للناس بكتاباتهم اليومية،وتعليقاتهم الساخرة، ولكنه ولا واحد منهم ينجح في الصف الأول الابتدائي من تجربتها،والدليل على ذلك أن الحكومات استخدمت عددا منهم في الحقائب الوزارية،وانتم تعرفون بقية القصة . إنها فن مختلف، وهي مقصورة على رجال السياسة الذين يظهر أنهم يزاولونها بضرب من القوة الطبيعية، ويعالجونها بالتجربة، أكثر مما يعالجونها بالتدبر. لكنهم في كل الأحوال يحتاجون إلى المفكرين، ولا أحسب أن زعيما سياسيا ناجحا،لم يرتكز على الفكر الحر في صعوده السياسي.وهذا هو الفرق بين الكتابة الصحفية الجادة النابعة من الفكر الموضوعي، وبين الكتابة الإنشائية، التي ترحب بها الصحافة، لان النقد لا سبيل له إليها.
إن للتجربة فائدة كبرى . وإلا لما صار السياسيون بعادة الحكم الطويلة، رجال سياسة ماهرين في الحكم. على هذا إذن متى أريد التعلم في علم السياسة، احتيج فيما يظهر إلى إضافة العمل إلى النظرية التي يصنعها المفكرون الذين يحسنون الحكم على الأشياء، وهؤلاء تكون الصحافة منبرهم، وبوساطتهم تظهر الشخصيات السياسية القادرة على القيادة وصنع القرار.
لم يقل أحد أن غاندي انه كان أديباً. ولم يقل هو نفسه ذلك. ولكن حياته كانت أدباً عظيماً إذا فهمنا أن العظمة الإنسانية هي الموضوع الأول للأدب. وبرهان ذلك أننا نستطيع أن نؤلف قصة رائعة أو قصيدة سماوية عن حياته، يكون هو بطلها الذي يقسم الأفكار، ويبني الإنسانية، ويلهم الأمم، ويخلق من الضعف قوة تحطم الأستعمار.
ولا بد أن نستفيد من تجربة أوروبا وأمريكا. فهاتان هما البيئتان اللتان عمل فيهما الفكر الإنساني الحديث ‘ واخذ يحفر في وجه الزمان أنفاقا تخرج به من ظلام الدهور ‘ إلى حيث تسطع الشمس بالنور. وحياة الأمم تجري في مستويات شتى . فالمستوى السياسي . والمستوى الحربي ‘ والمستوى الثقافي ‘ والمستوى الاقتصادي. والمستوى الاجتماعي. ومن المستوى الاجتماعي إلى المستوى المنزلي العائلي . والأمم تجري في هذه المستويات جميعا في آن واحد. وإذن فهي مستويات متفاعلة ‘ ومناشط متعاونة ، وحصيلتها جميعا هي ما نسميها الحضارة، في كسب لها أو خسارة . فهل نستطيع مقارنة مستوى ما تقدمه صحافتنا، بمستوى ما كانت تقدمه الصحافة الغربية في العصور الوسطى، التي شهدت ولادة الحضارة الإنسانية الحديثة؟
إن كل ما تقدمه الصحافة الآن، ينم عن تواضع معرفة القائمين عليها. فبينما يعمل أعداء الإصلاح والتنوير فيما يزيد من قوتهم وسيطرتهم، يحرصون على إبقاء أعضاء المجتمع في شغلهم خاضعين أكثريتهم عن طيب خاطر لحالة بؤسهم وجهلهم وقلة معرفتهم، دون مراعاة من الوصوليين ومرتزقة الفكر والوظيفة . لكن هذا الوضع لن يدوم طويلا. ففي هذه الفترة التي تحولت الدولة فيها إلى ما يمكن أن نطلق عليه دولة المؤسسات الحديثة . فإن الكثير من دعاة التنوير يعتقدون الآن الفكر الحر، وليس العبثية والتحايل، هو الذي يستطيع إن ينفذ الإصلاحات التي يرمون إليها، فلا بد أن تتغلب القوى التنويرية في النهاية، على الزيف وفوضى المعرفة،حيث الكاتب ليس كاتبا، والسياسي ليس سياسيا، والمفكر ليس مفكرا، والصحفي ليس صحفيا
سيزداد الشعب سلطانا وقوة، وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق الذي يفرض على الفرد إن يحيا من اجل دولة، وان يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا، إن الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، وان كان هذا هكذا، فلا يجوز أن تضحي الحياة من اجل العمل، بل يجب إن يكون العمل أداة تستغلها الحياة، في تحقيق السعادة
لقد كنت احسب أن شخصكم الكريم، جاء لمثل هذه المهمة الجليلة.ولكنه جاء وكأن بينه وبين المفكرين ثأر. إن هذه المحاكمة ليست رديئة، لان غالبية الرجال يتحملون السلطة على مضض، لكن يمارسونها بفرح. إن أكثر المحكومين مقاومة، يصبح أكثر المسئولين صلابة . إن أفضل الناس، هو ذاك الذي يعتمد كثيرا على نفسه، وليس فاضلا من ترفعه الوظيفة، أو تمنحه لقبا هو يشعر بأنه أصغر منه.
0 comments:
إرسال تعليق