الصحـــوة القبطيـــة: ثالثا : الخـــوف/ أنطـــونـــي ولســـن


 الخوف هو عدو الإنسان الأول ، إذا تمكن من أمة قضى عليها وأذلها وجعلها مثل النعاج التي تساق للذبح بيد قصابها كل حاكم مستبدَ ظالم .
وهي حالة تصيب الإنسان نتيجة ظروف قهر وإضطهاد يمر بها عبر السنين فيخاف من كل ما يحيط به ولا يشعر بالأمان أو الإطمئنان داخل وطنه ، ويشعر دائما بالغربة . ولا أعتقد أن غريزة الخوف متوارثة من ناحية الجينات البيلوجية الجسدية . إنما هي حالة نفسية تنتقل مثل الوباء من شخص الى أخر حتى تشمل المجتمع بأكمله ولا يصاب به إلا قلة قليلة قد لا تكون قد مرت بما مرَ به الآخرون من عذابات وإضطهادات بدنية أو معنوية . وأيضا قد يكونوا قد مروا بنفس التجربة ولكن تمسكهم بما يؤمنون به ويعذبون من أجله يعطيهم الشجاعة الكافية للمقاومة وطرد شبح الخوف من قلوبهم .
يمنع الخوف الإنسان من الإفصاح بمكنون نفسه والتعبير عن شعوره ورغباته ويجعله يعيش دائما في دائرة الشك . يشك فيمن حوله على مستوى الأسرة . وفيمن حوله على مستوى المجتمع . ويستطيع الحاكم في هذه الحالة أن يزيد من قبضته على الشعب الذي يسرع بتلبية طلباته والتقرب إليه ولو على حساب أخيه وعائلته ووطنه أيضا .
نعم يبيع الإنسان نفسه في سبيل الحياة التي كان يتمنى أو يظن أنه سيعيشها بعد بيع نفسه . وتتكرر المأساة مع فرد ثم أفراد ، حتى تصيب المجتمع والبلد بأكمله .
مرت عصور ظلام كئيبة على الإنسانية والإنسان . طغى الحاكم بأسم الأديان تارة وبأسم الدولة تارة أخرى . وفي النهاية كل شيء بيد رجل السلطة سواء رجل دين أو دنيا . سواء متخذاً من الدين حيلة ووسيلة وحجة للوصول إلى مأربه ، أو مستخدما السيف والتنكيل والتعذيب للوصول إلى ما يريد .
جاء عصر النهضة في الغرب ، ونفض الإنسان عن كاهله غبار التخلف والرجعية ، وكسر قيود الظلم والإستعباد ، وحطم في فرنسا أسوار سجن الباستيل العتيد أكبر معقل لكبت الحريات . تلته ثورة الشعب الفرنسي وإنتشرت أراء وفلسفات الثورة إلى كل أنحاء العالم فتقبلها من تقبل ومات من أجل تحقيقها في بلده من مات . تبع بعد ذلك نهوض دول من كبوتها ونفضت عنها غبار الماضي وتسلحت بسلاح العلم والمعرفة ، وعرفت شعوب تلك الدول طريقها وتبوأت مكانتها بين الأمم وحاربت كل ديكتاتورية حاكمة حاولت إعادةالعبودية والخوف إلى قلوب الشعوب مهما إتخذ الديكتاتور من شعارات رنانة ظاهرها حكم الشعب ورعاية مصالحه وباطنها ظلم الحاكم وجبروته .
أما منطقتنا الشرق أوسطية فعاشت وتعيش عصور الظلام إلى الأن . كلما بزغت شمس الحرية في مكان ما في المنطقة أسرع زبانية الظلام بتشكيل سحاب أسود قاتم من الذل والظلم والقمع والإرهاب على عقول وأجساد كل من يحاول أن يستنير من نور شمس الحرية ، فتعود الدول تتخبط فيما كانت تتخبط فيه من قبل . ويعم الظلام ويخاف الناس في بعض المناطق ، ويستمر خوف بعض الناس في مناطق أخرى .
نأتي إلى خوف الأقباط في مصر . أيام البطالمة لم يشعر مصري بالخوف من الحاكم الجديد . لأن الإسكندر الأكبر كما أوضحنا سابقا أعلن نفسه إبناً لآلهة مصر . بل أنه أوصى بطليموس الأول أن ينعامل مع المصريين معاملة الفرعون ويتحلى بصفات فرعون ، ويرتدي في المناسبات والمحافل الرسمية الزي الفرعوني إلى أن تم الإندماج اللغوي بين اللغتين . ثم العادات والتقاليد وتمسك المصري بحاكمه الجديد ودافع معه عن مصر . وتخطت طموحاته حاجز العجز الذي كان يعيشه إبان تدهور الأسرة الفرعونية الحاكمة وأخذ يتطلع إلى أيام أ مجاد مصر الفرعونية وإمبراطوريتها اللامتناهية والحضارة العظيمة التي سبق بها العالم في ذلك الزمان . بل نجد المصري يحارب جنبا إلى جنب مع الملكة كليوباترا التي وجد في شخصيتها ما يحقق له أحلامه وطموحاته ، الإمبراطورية الفتية الجديدة ... أمبراطورية رومـا .
لم يكن الحظ حليف كليوباترا . فلم يتحقق حلمها الكبير بأن تكون ملكة روما ومصر . ملكة الشرق والغرب معاً . ولم تتخطَ طموحات الشعب المصري منتصف البحر الكبير ( البحر المتوسط ) . وإنطفأت شمعة الأمل ، وحكم إكتافيوس مصر بالحديد والنار . فهرب المصريون إلى الجبال وتركوا الأرض بوراً وخراباً دون زراعتها .
إنقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية ، وإعتنقتا الديانة المسيحية . وأعتنق المسيحيون نفس الديانة . وذهب مار مرقس الرسول إلى الإسكندرية منارة العلم والثقافة والحضارة والتي لم يستطع ظلم وقهر الرومان من طمسها لإحترامهم للعلم والثقافة ، لأنهما مصباح الحضارة وزينتها .
لأول مرة يزحف الخوف إلى قلوب المصريين . ويزداد ظلم الحاكم الروماني الذي إعتنق المسيحية كما إعتنقها المصريون . لكنه إختلف معهم وإضطهدهم وأذاقهم العذاب ألواناً متخذاً منهم مصابيح إنارة حية ينير بأجسادهم المشتعلة طريق الحاكم . يصلبهم ويقطع رؤؤسهم ويبتر بطون نسائهم وأطفالهم وشيوخهم . ومع ذلك الفرح كان يملأ قلوبهم ، والإيمان يعمرها ، والسماء مع المسيح والقديسين أمل كل مؤمن . قدمت مصر أكبر عدد من الشهداء والمؤمنين . أكبرمن أي دولة في العالم إعتنقت وأمنت بالدين الجديد وتعاليم الدين الجديد ، وفلسفة الدين الجديد .
بدأ في الأفق مولد دين جديد ودولة جديدة . الدين الإسلامي في الجزيرة العربية وقيام الدولة العربية الإسلامية . في نفس الوقت بدأت الدولة البيزنطية في الضعف . ومع ضعفها إزدادت من إضطهادها لمسيحي مصر . ومع شدة الإضطهاد نظرالمصريون إلى الدولة الجديدة كمخلص لهم من ظلم الرومان ، فأرسل المقوقس يستنجد بالجيوش العربية . ووجد عمرو بن العاص الفرصة السانحة لدخول مصر وضمها إلى الفتوحات التي بدأ جيشه ينتصر فيها بحد السيف .
" في رأي أن إستنجاد المقوقس لم يكن إستنجاداً لحماية الأقباط ودينهم المسيحي .. بل من أجل مصر والأحتلال البيزنطي . لأن الإيمان المسيحي لا يستنجد إلا بالمسيح الإله الحي القادر "
كان الخليفة عمر بن الخطاب يخشى على جنود المسلمين وتردد في غزوها . لذا أرسل بخطاب إلى قائد جيوشه فهم فحواه القائد فأخذ يؤجل في قراءته حتى وصل إلى حدود مصر الشرقية فقرأ الخطاب وصدق حسه ، لأن الخليفة كان يطلب منه إن لم يكن قد وصل حدود مصر عليه أن يرجع بجيوش المسلمين . أما إذا كانت قد وصلت بالفعل فليتوكل على الله .
وتم الفتح الإسلامي لمصر ووقف رهبان وقساوسة وشعب مصر القبطي إلى جانب القائد العربي المسلم الذي إنتصر على المستعمر الروماني المسيحي الظالم معتقدين أن القائد المسلم سيعود أدراجه وجيوشه تاركين البلاد لأهلها .
لكن تحولت من مستعمرة رومانية بيزنطية إلى إحدى توابع الأمبراطورية العربية الأسلامية . وتولى عمرو بن العاص ولاية مصر . وبدأ تطبيق الشروط العُمرية .
توالى الحكام الجدد على مصر العرب منهم وغير العرب . وتمكن الخوف منهم حتى أيامنا هذه ونحن الأن في شهر يوليو / تموز 1998 ، نسمع كثيرا من يقول لنا نحن أقباط المهجر أن لا نكتب أو نتحدث في أمور الأقباط في مصر وأنتم في الخارج لأن هذا سينعكس سلبا على الأقباط في مصر .
وفي مصر هناك من ينادي بنفس النغمة والصوت . وهذا أكبر دليل على مدى تملك الخوف وتغلغله في قلوب وأفئدة المواطن القبطي وأخيه المسلم المتعاطف معه .
لكن لابد من كسر حاجز الخوف وإختراقه . فلا يخاف قبطي من المطالبة بحقوقه بعد أن يكون قد أدى واجباته كاملة . ولا أخاف أنا هنا أو غيري خارج مصر من المخابرات أو من البوليس السياسي . فلنحارب الخوف ونقاومه ونتغلب عليه لكي نتمكن من المطالبة بحقوقنا .
" يـتبـــع "

" الهيرالد " .. رسالة لبنان والشرق الأوسط
10/7 /1998

والأن ، وبعد مرور ثماني أيام على مذبحة ماسبيرو التي حدثت في يوم الأحد التاسع من شهر أكتوبر لهذا العام 2011 نسأل ونتساءل .. هل ما قام به الأقباط المسيحيون بمشاركة ولو قليلة من أشقاءهم من الأقباط المسلمين في ذلك اليوم هو كسر لحاجز الخوف الذي سيطر عليهم لعقود وعهود ؟؟!!
لا شك أن الإجابة بنعم وإلا ما خرجوا بهذه الأعداد على شكل أفراد وجماعات وعائلات بأطفالهم ونسائهم وأولادهم وبناتهم ، بل كانت تتقدم المسيرة إمرأة حامل . وإن دل هذا على شيء إنما يدل على التصميم على كسر حاجز الخوف الذي دفعوا فيه ثمنا باهظا غاليا من دمائهم النفيسة والذي بلغ عددهم لأخر خبر 27 شهيدا حتى اليوم .
ونعود ونسأل ونتساءل .. بعد ما تعرض إليه الأقباط المسيحيون من إستشهاد وإصابات عدى عددها الثلاثمائة مصاب سيعود إليهم الخوف ويعودون إلى تقوقعهم إلى داخل أسوار الكاتدرائية عندما يريدون عرض مطالبهم ؟؟!!
أعتقد هذا يتوقف على أسلوب وطرق ما سيقوم به السلطة الحاكمة حاليا وهي المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، والسلطة الحاكمة بعد عودة المجلس إلى ثكناته بعد الإنتخابات البرلمانية والإنتهاء من وضع دستور جديد يرضى عنه الشعب وإنتخاب رئيسا للبلاد ، هذا إذا عاد المجلس إلى ثكناته بالفعل !
لكن الأمور كلها تشير إلى أن الساحة الإنتخابية ملغمة بألغام قد تنفجر لتصارع القوى الدينية ضد القوى اليبرالية والعلمانية والتي غالبيتها حديثة التكوين وليس لها مساحة شعبية في الشارع المصري مثلما للأحزاب الدينية إن كان الأخوان الذين سلمهم الرئيس السابق مبارك الشارع المصري يتحكمون فيه إلى درجة إفساده . وما يحدث من السلفيين الذين قوية شوكتهم بإحتضان المسؤلين لإدارة البلاد وهذا شيء لا يمكن إنكاره ولهم وقفات تقاعسية فيما يفعله السلفيون على أرض الواقع .
وهنا مكمن الخطر والخوف من تفجيرات قد تؤدي إلى إراقت المزيد من الدماء ، دماء مصرية مسلمة ومسيحية ونوبية وبدوية ومن الممكن أن تكون من بينهم دماء بهائية .
ومن المسئول هل هو المجلس العسكري ، أم الأحزاب الدينية ، أم الأحزاب غير الدينية ، أماذا ؟؟!!
أخشى ما أخشاه هو تدخل ما يطلقون عليه فلول النظام السابق كما قالوا عن مذبحة ماسبيرو أن لهم اليد العليا فيما حدث . وقد نفاجأ بأحد رموز النظام السابق أو عددا منهم يبرزون على الساحة الإنتخابية وهم أثرياء دون شك فيمكنهم السيطرة وإعادة ما كانت عليه مصر قبل ما يطلق عليه ثورة 25 يناير هذا العام 2011 .
معنى هذا أنك تعتقد بوجود قوة النظام السابق في تحريك كل ما يحدث من أحداث على أرض الواقع في مصر ، وعدم إعترافك بثورة الشباب !!
ثورة الشباب كانت ثورة شعبية تضامن معها كل أطياف الشعب المصري . بل أنها كانت ملحمة تحدث عنها العالم الحر . لكن دون شك قد تم الإلتفاف حولها وتهميشها ولا أظن أن المستقبل السياسي في مصر ( برلمان أو تكوين وزاري ) سيتواجد منهم " شباب الثورة " ، ولا من الأقباط المسيحيين ، ولا المرأة بالطبع .هذا في حال تولي الأحزاب الدينية أمور إدارة البلاد ورئاسة الجمهورية . أما فلول أو بعضا من رموز النظام السابق الحكم فسيختلف الوضع ولا أحد يستطيع التكهن بما يمكن أن يكون عليه الحال في مصر .
الأيام القادمة حبلى بأجنة منها الحرام ومنها مجهول الأب ، ومنها المعروف الأب ولكنه غير شرعي لإغتصابه للأم مصر !
لم تذكر شيئا عن الحال في تولي القوة اليبرالية والعلمانية أمور إدارة شئون البلاد .
كان ذلك لسبب بسيط وهو سيطرة الخوف على الكثيرين من أبناء مصر . المرأة تخاف من سطوة وجبروت القوى الدينية التى تريدها فقط كما قال زميل الدراسة ناحوم شقيق زوجتى في العام 1951 عندما كنا في سنة أـولى ثانوى بمدرسة الأمير فاروق بالترعة البولاقية بشبرا مصر . طلب منا مدرس اللغة العربية بالقيام بمناظرة بيننا حول عمل المرأة وكنت قد إخترت الموافقة على العمل وهو عكس ذلك . إحتم الحوار بيننا ختمه هو بجملة أضحكتنا جميعا إن كان المدرس أو الطلبة بما فيهم أنا نفسي . والجملة هي " ولقد جعلنا النساء متعة للذكور ولتربية الدواجن والطيور " ولكم أن تتخيلوا تذكري لهذا القول حرفيا على الرغم من مرور 60 ستون عام بالتمام والكمال عليه . ولم يتغير الحال .. إلا إذا خلعت المرأة ثوب الخوف وأستطاعت أن تقف في وجه كل التيارات رافعة رأسها سواء بالحجاب أو بدونه ولكن من غير النقاب . وهنا فقط يمكن أن يعود الأمل في تولي المرأة مكانتها اللائقة بها في المجتمع فهي تقريبا أكثر من نصف عدد السكان .
وهذا سيساعد التيارات والأحزاب الليبرالية والعلمانية ويمكن أن يكون عملا مساعدا قويا لتوليهم شئون إدارة البلاد .
زد على ذلك إذا نزل من يُطلق عليهم حزب " الكنبة " من فوقها . وأيضا خلعوا ثوب الخوف وأصبحوا فاعلين متفاعلين مع الأحداث ولهم تطلعات لوطن ديمقراطي حر .
هنا أقول .. يمكن للأحزاب الليبرالية والعلمانية أن تفوز بالأغلبية لتشكيل الحكومة .
وهنا لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل الأقباط المسيحيين إذا كانوا بالفعل قد كسروا حاجز الخوف ونزلوا بصقلهم العددي مؤيدين للأحزاب الليبرالية والعلمانية سواء بها مرشحون مسيحيون أو لا . بالفعل سيتم تحجيم القوات الأخرى التي يُخشى منها على مستقبل مصر .
لأن الخوف هو عدو الإنسان الأول ، إذا تمكن من أمة قضى عليها وأذلها وجعلها مثل النعاج التي تساق للذبح بيد قصابها كل حاكم مستبد ظالم .
فلنتمسك بما يقوله رب المجد :
** لا تخف لأني أنا معك ..
** لا تخف فإني أسمعك ..
** أنا ممسك بيمينك إلى الأبد ..
** جفف مدمعك من البكاء ..
** أمل مسمعك نحو السماء ..
** لا تدع عمرك يمضي هباء ..
** وليكن حبي هو رجاء ..
أمين

CONVERSATION

0 comments: