" ...ألا وإنّ في الجسد مُضْغة، إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسَد الجسدُ كله، ألا وهي القلب ". حديث شريف. رواه البخاري ومسلم.
-------------
يعطي المفكّر الفرنسي فرانسوا لغوشفوكولد للصدق تعريفا جميلا، فيه من بساطة التصوير وعمقه ما يثير الاهتمام ويستحق وقفة تأمل : " يمكن اعتبار الصدق نوعا من انفتاح القلب "(1) . ويعقب مباشرة : " وهذه الخصلة لا نجدها إلا في القليل من الناس" 2))، ليُشدّدَ على المبدإ القائل بأنّ جمال الشيء يكمن في ندرة وجوده وقلة انتشاره ، حسب اعتقاد الشاعر الفرنسي بودلير في معرض دراساته النقدية لمعايير الجمال. الصادقون، بهذا المفهوم، هم كائنات جميلة لها شخصية فيها من الحسن ما يجعل منهم " نخبة " وقع الاختيار عليها.
لكن كيف يمكن للصدق أن يجعل من صاحبه إنسانا جميلا، وقع الاختيار عليه فأصبح من " النخبة الأخلاقية" ؟ الصدق حالة من أحوال القلب لما يكون في شكل خاص من الانفتاح. هذا الانفتاح هو، على ما يبدو، مجازي. ويمكن التعبير عنه بالشكل الذي تتخذه دقات القلب الصادق، التي يمكن تصورها كعملية انفتاح البراعم التي تستقبل أشعة الشمس ونور الكون، وتندفع نحو الخارج، زهورًا وورودًا وثماراً, عارضة ألوانها البهيّة وأشكالها العجيبة لتسرَّ الناظرين، وناشرة عطورها وروائحها الزكية لتشمّها الحياة وتنتعش بها. والعكس يحصل مع الكذب، لأن القلب يجد نفسه في حالة اختناق تامة، وضيق عميق يمنعه من التخلص من آثار تلك النقطة السوداء التي تسكن في مركزه، وتعمل بشكل مستمر على جذبه إليها وتقليصه بما يجعله ينكمش على نفسه من الداخل ويتآكل تحت ضغط السواد.وهكذا، فإذا كان الصدق نورا، فإن الكذب ظلام. وإذا كان الصدق انفتاحا، فإن الكذب انغلاق. وإذا كان الصدق تعبيراً للقلب عن شوقه لاعتناق الحياة، فإن الكذب هو منع القلب من تلبية نداء هذه الحياة.
وهذا الانفتاح ما هو إلا الشرْح الذي يعني أنّ القلب مرّ بمرحلة غسل وتطهير حتى أصبح، في بياض ما فوقه بياض، ناصعا أي نقيا صافيا. ومن دلالات هذا الشرح وآثاره أن يتخلص القلب من كل شيء له علاقة من بعيد أو قريب بالكذب، فيشعر بالانشراح. وما الانشراح هنا إلا تلك الحالة التي تعتري الروح حين تتذكر السماء فتشعر أنها خفيفة وقادرة على التحليق في أجوائها. وحين يكون القلب بعيدا عن الكذب ومنشرحا، يصبح بمقدور الجسد كله أن يتحرّر من القيود التي تفسد حواسه ورؤاه وأفكاره، بحيث تكون مشاعره وتصرفاته وأقواله كلها صدقا. وهذا معناه، بوجه من الوجوه، أن الصدق نضال من أجل استرجاع حرية الانسان التي ضاعت منه لما خضع في عبودية ميكانيكية لماديات المدنِيّة، واستسلم لحضارة الاستهلاك الذي لا يستثني من محيطه المنتوجات الفكرية والثقافية.
إرادة الصدق والنزعة إلى الحرية ظاهرتان متلازمتان، تكمن خصوصية علاقتهما في كون الواحدة منهما تشترط وجود الأخرى. ومن اللافت هنا أيضا أنّ من آثار الصدق على القلب أن يصبح هذا الأخير قادرا على تنظيم أعضاء الجسم التي تتّحِد في أشغالها وتنسجم في وظائفها، فتقوم بدورها بممارسة تأثير على الخيال والتفكير(3). فتنتج عن هذا سلامة في الأفكار، وقوةٌ في العقل. (4)
فإذا حدث للانسان أن يعيش هذه التجربة - أي شرح وانشراح الصدر، وتناغم بين أدوار أعضاء الجسد، وما يترتب عن هذا من تحرر للروح وسلامة في الفكر - فإن هذا يكون له بمثابة علامة على تأهيله للدخول في مرحلة الهداية (5) واستعداده لأن يصبح وعاءً لحمل رسالة " المعنى"، وأداة لتحمّل مسؤولية تأسيسه والحرص على تنظيمه وتطويره ، والسهر على حمايته من غدر الماكرين وخيانة العابثين بالحياة والإنسان.
ما هي علاقة الصدق بالمعنى؟ هي علاقة الحياة بالحق : هذا ما تجيب عنه الأشياء ، وتنطق به الوقائع والتجارب ، ويشهد به الوجود. هل يُفهَمُ من هذا أن الكذب ظاهرة ليست لها علاقة بالمعنى ؟ كل خطاب مبني على بلاغة النفاق، كل هروب من الواقع، كل تزوير للحقيقة، كل شكل من أشكال الظلم أو شيء من هذا القبيل...، هو في العمق مشروع ضدّ المعنى. لماذا ؟ لأن المعنى هو كل أثر إيجابي، مباشر أو غير مباشر، ينتج عن علاقة بين الأشياء، أو بين الأشياء والانسان، أو بين البشر. وهذه العلاقة هي بالضرورة قائمة على أسس ومبادىء طبيعية أو علمية أو اجتماعية أو قانونية أو روحية أو لغوية أو ثقافية...، سليمة وأصيلة أي غير ملفقة وغير قابلة بالمطلق للابطال لأنها تصهر على تنظيم حياة الانسان وتصب في مصلحته. ومن أمثلة المعنى ( الأثر الايجابي ) تحقيقُ التوازن والانسجامُ بين العناصر المختلفة والظواهر المتنوعة بل وحتى المتناقضة أحيانا ، مما يضمن استمرار الحياة وتجدّدها.
وحين يريد الانسان أن يكون صادقا وتصدر منه علامات ( نزعته في أن يظهر كما هو، دون افتعال وتصنع، ونفوره من حمل الأقنعة، واعترافه بنقائصه ورغبته في الابتعاد عنها... )، فإنّه يعبّر عن رغبته في الدخول في معركة المعنى ضدّ أنظمة العدم وقوى الظلام وجيوش العبث. كل هذا من أجل الحقيقة وحبّاً في الحقيقة .(6) صحيح أن الصدق ليس هو الحقيقة ، ولكن الجميع متفق على أنّ سلامة الطويّة والوفاء بالوعود واحترام الالتزامات وقول ما نفعل وفعل ما نقول كلها من دلالات الصدق وبراهين على تعلق الصادق بالحقيقة. 7)) وإذا لم تُراع هذه المبادىء ، خصوصا من طرف جهات مسؤولة ، على المستوى التربوي والتعليمي والإداري والإعلامي والأمني والسياسي، أتعلق الأمر بأفراد أو جماعات ، بمؤسسات أو منظمات أو حكومات... كان من حق مواطني دولة أو شعب مجتمع أو طلاب مؤسسة تعليمية أو أفراد أسرة مثلا أن يسحبوا ثقتهم من حكامهم وولاة أمورهم وأساتذتهم وأباءهم. ومن هنا أيضا هذا السؤال الثقافي والحضاري الكبير : إذا لم يحترم المسؤولون التزاماتهم وتنّكروا نظريا وعمليا لأمانة " الأسوة " و " المثال " الذي يُحتذى به ، كيف يمكن إقناع الشباب والصغار وكلّ الرعية بالتزام الصدق وتجنب الكذب ؟
ومن المفيد في هذا السياق أن يكون معنى كلمة صادق في اللاتينية يأتي من sine-cirus التي تعني بدون شمْع sans cire . وكانت هذه الصفة في الأصل تعني العسل الصافي الذي لم يخلطه مُرَبّي النحل بالشمْع. ثم أصبحت فيما بعد تُطبّق على النحال نفسه. وفي الأخير، عُمِّمَ هذا المعنى على كل إنسان واعٍ ، نقي ومخلص ولا يكذب. (8) ومن الأهميّة بمكان أن لا ننسى أنّ للصدق في اللغة العربية علاقات، من الناحية الاشتقاقية والمعنوية، بكلمات مثل التصديق والصداقة والصدقة. ونعتقد، بهذا الصدد، أنّ من تجَمّعت فيه، من الصحابة، الخصالُ الكاملة للصدق هو أبو بكر رضي الله عنه. فقد كان، في تعامله مع الحقيقة ووعاءها المُرْسَل محمّد عليه الصلاة والسلام، مُصَدِّقا وصِدّيقا وصَديقا، ومُتصَدِّقا بكل ما يملك. وتجلى صدقُه أيضاً – أو توِّج في الأخير- في الحرب التي قادها ضدّ الكذب ومحاولات التحريف التي تجرأت، مع حركة مسيلمة الكذاب، على دين الحق وأرادت أن تطفأ نور الحقيقة... ولقد كان من الأنسب لمؤرّخي الإسلام أن ينعتوا ما سموه بحروب الردة بحروب المعنى أي وقوف الحق والحقيقة في وجه مشاريع اللامعنى أي الكذب والتزوير والتلفيق.
ما هي الحالة التي عليها قلب نتنياهو وليبرمان وأمثالهما من رؤساء الأحزاب وكبار الشخصيات اليمينية واليسارية الإسرائيلية ياترى ؟ وما هو حال قلوب الذين يتواطؤون مع الاحتلال ويوفرون له غطاءات ويبحثون له عن مبرّرات كما هو حال أوباما والإدارة الأمريكية ( ومن قبل بوش وديك شيني ورامسفيلد ورايز وآخرون كثيرون...) ، ويغضون نظرهم عن سياسته التهويدية لكل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية والعربية والاسلامية، ولا يجدون حرجا في أن يتابع المستوطنون مشاريعهم ؟ لماذا هذا العنت الكبير ضدّ الحقيقة ، والتمسك المستميت بالكذب وتزوير الحقائق وقلب الأشياء ، والتصرف بكبرياء وتجبر ، والاستهزاء بحياة الناس واللعب بالقيم والمقامرة بالمبادىء والاخلاق والدين والتاريخ ؟
لقد وضعوا كلّ ثقتهم في آلهة ( القوّة ومشتقاتها من حبّ الذات والأنانية والغطرسة والتجبّر... ) تصوّروها بخيالهم القصير وفصّلوها على حسب حاجاتهم وتسلطهم وجشعهم ، وتقييماتهم القاصرة لواقع العلاقات بين البشر، فأعطوها أسماءً وأوصافا ( المال ، والسلاح والتصنيع العسكري ، ووسائل الإعلام ، والتحايل على القوانين والالتفاف عليها بتعديلات وإضافات جديدة ، ظرفية وبراجماتية وعشوائية لبسط النفوذ ... ) احتكرت اللغة السياسية والاقتصادية والإخبارية والثقافية والخلقية ومنعتها من فتح أبوابها أمام الحقيقة وأخواتها ( كلّ الحقوق الانسانية الشرعية والقانونية الدولية من حرية وعدالة ومساواة وكرامة... ). فأصيبوا ب " العمى " الذي استحوذ على قلوبهم ووضع بينهم وبين الحقيقة حواجز تمنعهم من رؤيتها . إنهم لم يوظفوا القلب بطريقة تسمح له بأن يكون منفتحا ومنشرحا فعجزوا عن مشاهدة الحياة في وجهها الحقيقي ، بل وإنهم لعاجزون اليوم عن فهم معنى تنطق به كل الكائنات وتشهد به جميع المخلوقات ، ألا وأنّ كل شيء موجود بإرادة الصدق وقائم على أساس الحق : " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق...".
وما عدا الصدق والحق فهو لهو ولعب وزور وبهتان. والذي يبقى هو الصدق ، والذي يدوم هوالحق ، أما الكذب والتلفيق والتزوير فكلها أشياء مآلها الزوال والفناء : "... وجادَلوا بالباطل لِيدْحَضوا به الحقَّ فأخذتُهم...".
هل تستطيع مشاريع حكام إسرائيل الاحتلالية والتهويدية والأبارطادية - القائمة على الكذب والتزوير والتلفيق والتفرقة والعنصرية والقمع والظلم والتشريد والتجويع والتقتيل، وبتواطئ أصدقاءها في الغرب وخيانة بعض الأنظمة العربية - أن تصمد في وجه "المعنى" أي حقوق الفلسطينيين وحقائق الحياة وتطلعات كل القلوب الصادقة ، عربيّة كانت أم لا، مسلمة أو غير مسلمة، إلى شموس العدل والحرية والسلام ؟
إنّ أوّل من يعرف الجوابَ الحقيقي الواقعي عن هذا السؤال لهي دولة إسرائيل وأتباعها من أمريكيّين وغيرهم ، وهم يعرفون جيداً ويعترفون في قرارات أنفسهم باستحالة انتصار قوى الكذب والعبث والموت في وجه الصدق والمعنى والحياة ، لكنّهم ، كما يقول القرآن الكريم في خطاب موجه لمحمّد علية الصلاة والسلام ، : " ... لا يُكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون " ، ومعنى جحد في اللغة العربية " عرف الحق ثم أنكره " تكبّرا وعميانا وطغيانا...
ويبقى واضحا لمن يعرف التاريخَ أنّ حالات المواجهة التي عرفتها المجتمعات الإنسانية بين أنصار الحقيقة والصدق والحرية ، وجيوش التكذيب والخداع والجحود والعبثية... قد انتهت كلها لفائدة قيم العدل والعدالة والحبّ والخير... وهذه هي " الكلمة الكبرى اليقينية " أو الكلمات التي لا يمكن تغييرها لأنها من مصدر نوراني إلهي : " ... حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ... ".
------------------------------------
(1) LA ROCHEFOUCAULD François, Maximes et réflexions, Gallimard, Paris, 1965, p. 36 et 141
(2) أنظر نفس المرجع ، ص. 36
(3) فيما يخصّ دور الخيال في البحث عن الحقيقة، أحيل القارىء إلى ما كتبه الفيلسوف الفرنسي مالبغانش بهذا الصدد. أنظر MALEBRANCHE, De l’imagination ; de la recherche de la vérité, Livre II, Pocket, Paris, éd. 2006.
(4) LA ROCHEFOUCAULD, Maximes et réflexions, p.32 : « La force et la faiblesse de l’esprit sont mal nommées : elles ne sont en effet que la bonne ou la mauvaise disposition des organes du corps ».
(5) أنظر ما تقوله عائشة عبدالرحمن بنت الشاطىء، التفسير البياني للقرآن الكريم، الجزء الأول، دار المعارف، القاهرة 1982، ص 58 وما بعدها، بصدد شرح الآية الكريمة : " ألم نشرح لك صدرك". من ذلك مثلا قولها في معنى الشرح، هو " هدى الايمان ونور الحق وراحة اليقين والسلام النفسي" ، " كونه طمأنينة نفس ، وهدى إيمان، وارتياحا إلى اليقين " ص 60.
(6) أنظر لغوشفوكولد ، ص141.
(7) FIZE Michel, Les menteurs : pourquoi ont-ils peur de la vérité ?, les éditions de l’homme, Montréal, Québec, 2007.p. 137.
(8) نفس المرجع ، ص 136.
0 comments:
إرسال تعليق