بكل البهجة والفرح والابتهاج يودع سكان قطاع غزة والشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية كلها الجندي الإسرائيلي الأسير جيلعاد شاليط، يودعونه بالأغاني والأهازيج والزغاريد وكأنه يوم عيد أو ليلةً من ليالي عرسٍ مهيب، خرجوا فيه جميعاً في جوف الليل إلى الشوارع والطرقات والميادين العامة، يهتفون ويكبرون ويهللون، يتعانقون ويتصافحون ويهنئون بعضهم بعضاً، يوزعون الحلوى والسكاكر، ويزورون بيوت الأسرى وأمهات المعتقلين، وكأنهم في مزارٍ أو موسمٍ أو مهرجان، فعمرت الأفراح البيوت الفلسطينية، وأشرقت البهجة على الوجوه، وارتسمت البسمة على الشفاه، فقد أزف يوم رحيل شاليط وحانت ساعة عودته إلى بيته، فقد كانوا في شوقٍ ولهفة لهذا اليوم الذي يودعونه فيه عائداً إلى بيته وأسرته الذين ينتظرونه منذ خمس سنواتٍ في خيمةٍ أمام مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي وعد قبل أن يتسلم رئاسة الحكومة الإسرائيلية بالتعجيل في استعادته وتحريره، وإعادته إلى بيته وأهله، مؤكداً عودته دون تنازلاتٍ يقدمها لآسريه، ومن غير شروطٍ يخضع لها، ودون الإفراج عن عديد الأسرى والمعتقلين الذين تصنفهم أجهزته الأمنية بأن أيديهم ملوثة بدماء الإسرائيليين.
كان وداع شاليط بالنسبة لسكان قطاع غزة خصوصاً والفلسطينيين عموماً حلماً يراود مخيلاتهم، ويتراءى كالخيال أمام ناظريهم، فكم تمنوا ألا تطول فترة وجوده أسيراً بأيديهم، ومحتجزاً عندهم، فما كان أحدٌ يرغب في استبقائه، أو الاحتفاظ به بينهم طويلاً، ولكن وداعه كان يبتعد كلما اقترب، ويتعقد كلما ظن الفلسطينيون أن شروطه قد تحققت، وتنقلب حكومته على أي اتفاقٍ قبل أن يوقع، وتتنكر لأي وسيطٍ إذا نجح، ولكنه اليوم أضحى حقيقةً لا خيالاً، وواقعاً لا أحلاماً، فعما قريب سيتحرر الأسرى، وسيعود المعتقلون الفلسطينيون إلى بيوتهم أحراراً، أعزةً كراماً، رؤوسهم عالية، وقامتهم ممشوقة، وهامتهم منتصبة، وخطاهم سريعة، فقد أطلقت المقاومة سراحهم، وحققت حلمهم بالحرية، وتمكن المقاومون من فرض شروطهم، وإكراه العدو على القبول بما كان يرفضه، والإذعان لما كان يظنه مستحيلاً، ويراه خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه، ولا ينبغي لأحدٍ التفكير فيه، أو الاعتقاد بأنه يستطيع أن يفرضه عليهم، ولكنه خضع في النهاية واستسلم، وعاد ليبتلع بصاقه، ويتراجع في كلامه، ويسلم لمفاوضيه بقوة إرادتهم، وصلابة مواقفهم، وقدرتهم الكبيرة على الصبر والاحتمال والصمود وفرض الرأي والموقف، فأعلن العدو بلسان رئيس حكومته أنه لن يستطيع أن يحقق أكثر من ذلك، وأنه لا يمكن استعادة شاليط بغير هذا الثمن، وأن آسريه يملكون من القوة ما يستطيعون فرض شروطاً أقسى، وأسماءاً أخرى، وأماكن غير مرغوبة.
وداعاً شاليط بلسان كل طفلٍ فلسطيني طال انتظاره لأبيه، وحال الأسر بينه وبين والده، فلم يراه سنينَ طويلة، ولم ينعم بأحضانه طيلة عمره، ولم يتمكن من تقبيله خلال الزيارات المحدودة إليه في سجنه، فقد حالت القضبان الحديدية والشباك الضيقة، والحراس الغلاظ الأشداء، وأخيراً العوازل البلاستيكية والزجاجية من معانقة الأسير لولده، ومنعته من تقبيل يد أمه، ومصافحة إخوته وأحبته، والاستمتاع باستقبالهم ساعةً في الشهر وربما ساعةً في السنة، فاليوم يودع الأطفال الفلسطينيين وأمهاتهم وأخواتهم وكل الشعب الفلسطيني شاليط، ويلوحون له بأيديهم مودعين ليستقبلوا برحيله آباءهم وإخوانهم وأحبتهم، ففي وداعة حرية، وفي رحيله اجتماع شمل، وفي عودته استعادة للبسمة والأمل، وفي غيابه يعود الأمن لغزة، والسلامة لأبنائها، والطمأنينة لأهلها، وتنفك عرى الكثير من مشاكلها وهمومها، وتبطل دعاوى الاحتلال، وتسقط معاذيره، ويصبح عليه لزاماً أن يرفع الحصار عن غزة، ويوقف العقاب الجماعي لأهلها، ويمتنع عن الإساءة لسكانها ويتركهم وشأنهم مع أنفسهم ومع جيرانهم في مصر، يتدبرون أمرهم، وينظمون شؤونهم، ويتفقون على آليات التعاون والعمل المشترك، ويكون قرارهم المستقل في فتح المعبر، وتسهيل انتقال المواطنين وعبورهم على جانبي الأرض العربية، واستعادة العلاقات التاريخية الحميمة بين الشعبين المصري والفلسطيني.
شاليط كان ضيفاً ثقيل الدم فما أحببناه، وكان شخصاً مكروهاً من على دبابته أنزلناه، ومن يده أخذنا البندقية، وجردناه من ثيابه العسكرية، وعلمناه أننا شعبٌ حرٌ يسعى لاستعادة حريته ونيل استقلاله، والتخلص من استعمار جيشه، ولكنه كان نزيلاً متعباً لم نكن نتمنى استمرار وجوده، فقد أرهقنا بقاؤه، وأتعبنا وجوده، ونال من حياة المئات من أهلنا الاحتفاظ به، وكان سبباً في معاناتنا وفرض الحصار علينا، ومنع اتصالنا بأهلنا وشعبنا، وبسببه وعلى أمل استعادته شن جيش كيانه حرباً دموية على غزة، فقتل بسببه المئات من شعبنا، ودمر قطاعنا، وأحال حياتنا إلى معاناةٍ شديدة وكربٍ عظيم، ولكن شعبنا عض على جرحه، وصبر على ألمه، وشد المئزر والحزام على بطنه، وحافظ على شاليط في أسره، أملاً في أن يستعيد به حرية أبنائه، ويطلق سراح من قد مكث في سجون الاحتلال أكثر من ثلاثة عقود، ويحرر من ظن الاحتلال أنه سيقضي بقية عمره في السجن، ومنه سينقل جثمانه إلى أهله ليدفن.
نودع شاليط اليوم وكلنا أمل أن نستقبل كل أسرانا، وأن نحرر كل معتقلينا، وأن ننهي عهدهم مع الأسر والاحتلال، وأن نحول دون اعتقال المزيد أو العودة من جديد إلى القيود والأسر، ولكننا إذ نودع شاليط فإننا نتمنى أن نستقبل ضيفاً آخر، وأن نأسر جندياً جديداً، وأن ننال من العدو بما يذله ويخزيه، فننزل جنوده من دباباتهم، بل نسقط طائراتهم، وندمر آلياتهم، ونقودهم أسرى إلى سجوننا، ونضع الأغلال في أيديهم لنحرر بهم من تبقى من أسرانا، ونعيد الحرية لمن استبقاهم العدو في سجنه، ورفض أن يفرج عنهم لأنهم أدموه وأذلوه، وقتلوا خيرة جنوده، ومرغوا بالتراب أنوف النخبة من وحداته العسكرية المختارة، وأجبروا قادته على الخضوع لشروطهم والنزول عند إرادتهم، وداعاً شاليط وأهلاً وسهلاً بمن سيأتي من بعدك أسيراً نذل به جيشك وقيادتك، فإننا لن نستسلم ولن نستكين، ولن نيأس ولن نهين، حتى يعود إلينا آخر أسيراً، ونهدم في أرضنا كل معتقل بناه عدونا، لنخرج منه كل سجين من شعبنا.
0 comments:
إرسال تعليق