استيقظوا يا أبطال ميدان التحرير
منذ اليوم الأول لبدء الانتفاضات العربية كنت على قناعة أن إسقاط أنظمة الحكم الفاسدة، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، هو مسألة وقت. صحيح أن انجاز الأهداف التي أخرجت الجماهير الغاضبة إلى الشارع، كانت بمعظمها ارتجالية، أو طارئة، وأشبه بكومة قش جافة تنتظر عودا من الكبريت ليشعلها.وهذا ما حدث فعلا..ولكن ما هي الآفاق العملية للمستقبل؟
من هنا رأيت أن الثورات العربية هي أقرب شيء إلى انتفاضة الباستيل (ثورة الباستيل الفرنسية).. أي بكلمات أخرى، غابت عن الثورات العربية، الرؤية الاجتماعية الواضحة للمجتمع المنشود بعد الانتصار. غابت القيادات المؤهلة لقيادة المجتمع المدني المنتفض.ظل كل شيء معلقا في الهواء. في مصر وجدت القيادة العسكرية للقوات المسلحة نفسها التنظيم الوحيد الذي حافظ على ترابطه من جهاز الدولة القديم ، وبغياب أي قوة سياسية منظمة في الشارع ، وجد المجلس العسكري، الذي ضغط على مبارك للاستقالة، نفسه كقوة مصرية وحيدة قادرة على إدارة شؤون مصر لمرحلة انتقالية، حسب تعبيرهم، ولكن لا شيء نهائي بعد، وكل الاحتمالات واردة.
الشعارات التي طرحتها الثورات العربية بما فيها المصرية، عبرت عن الحلم العربي، الحلم بالحرية والمساواة والتقدم. الحلم بإخراج الدول العربية من واقعها المتردي في قاع سلم التطور. الحلم بان يأخذ العالم العربي مكانته بين الشعوب التي تصنع التاريخ الحضاري لشعوبها أولا، ولشعوب العالم ثانيا. الحلم بأن يقف العالم العربي على مستوى واحد مع الدول الراقية،في الرقي العلمي والتعليمي، في تطوير الأبحاث وفتح مجالات العمل لمئات آلاف العقول العربية المهاجرة. في جعل الجامعات العربية في مكانة متقدمة في المقاييس الدولية للجامعات، وليس مجرد مؤسسات تُخرج عاطلين عن العمل، وبلا خبرات علمية أو تقنية متطورة بسبب غياب الميزانيات المستثمرة في تطوير العلوم والأبحاث. الحلم بالخلاص من البطالة وإيجاد عمل ، الحلم برفع مستوى الحياة ، الحلم بضمانات اجتماعية وصحية ، الحلم بضمان حق التعددية السياسية والثقافية وحرية الرأي.
الثورات العربية ما زالت مشتعلة، هناك فروقات بسيطة بين ثورة وأخرى . ولكن ما يوحد بينها هو طابعها الباستيلي ، أي انفجار غاضب على واقع لم يعد من الممكن تحمله. وقد تكون الثورة السورية أكثر حظا بما رافقها من إنشاء قيادة مشتركة من شخصيات تملك رؤية اجتماعية واضحة للمجتمع السوري المنشود بعد الثورة. وتقوم بمهمة توجيه للثورة.
الثورة المصرية أنجزت إحدى المهام الكبيرة. أسقطت مبارك وزبانيته . ولكني لا أرى نتائج هذا الانتصار تنعكس على الواقع الاجتماعي والسياسي المصري. ويبدو أن سيطرة التنظيم العسكري، هو ردة معادية للثورة، نتائجها لم تنجلي بكامل خطورتها حتى اليوم.
الجهاز العسكري هو جهاز السلطة السابقة. وأعطى الضمانات الكاملة للنظام الفاسد، ولسياسته المتخاذلة على المستوى الاجتماعي أيضا. ولا يمكن أن يكون مؤتمنا على التغيير المنشود.
ماذا تغير في مصر بعد الثورة؟
المحاكمات للشخصيات السابقة لا تعني شيئا. هي ربما تلهي الجماهير عن القضايا الأكثر أهمية. تغيير تركيبة النظام، نسف كل القاعدة القانونية للنظام السابق، وطرح بديل يتمشى مع المرحلة الجديدة التي فرضها ثوار ميادين التحرير.
إن تحكم الجهاز العسكري ، يشكل خطرا على مصير الثورة. وأخطر ما فيه أن الجهاز العسكري بصفته القوة الأكثر تنظيما في الدولة ، بات قادرا على فرض عقليته التي تخاف من التغيير، خوفا من فقدان المكانة والتميز والمصالح والحفاظ على حق الحسم السياسي والقانوني ، بدون رقابة،أو تدخل من أي قوة سياسية أخرى. ولا تتردد المؤسسة العسكرية، في خلق خلافات وقلاقل بين الفئات الاجتماعية المختلفة، من أجل ضمان استمرار سطوتها.
هذا عمليا ما يدور اليوم في المجتمع المصري. ويجب النظر لمشكلة الأقلية القبطية في مصر من هذه الزاوية.
الثورة المصرية لم تكن فعلا دينيا. بل حركة اجتماعية مدنية. وكل محاولات تديينها، هو تضليل للأوساط الشعبية، ونسف لنتائج الثورة.وارى انه قد يتمشى مع مخططات المجلس العسكري ، في هذه المرحلة على الأقل.. وستكون بالغة الخطورة على المدى البعيد.
لن تكون مصر حرة ديمقراطية إلا بنظام يفصل بين مؤسسات السلطة، وفصل الدين عن الدولة، وينفذ رقابة وحكم بشفافية كاملة، ومراقبة قانونية. أما بظل نظام يحكم أقلية أثنية أو دينية مثل الأقلية القبطية ( 8 – 10مليون مواطن) بقوانين عثمانية متخلفة موروثة من فكر بائد لم يكن أصلا ملائما حتى في وقت إقراره قبل مئات السنين، ولكنه باقي في مصر ودول عربية أخرى وكأن التاريخ قد توقف عن الحركة.
هذه القوانين التي تعتمدها مصر ولم تتغير حتى بعد ثورة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر، تعتمد فيه الحكومة المصرية على الشريعة الإسلامية ونص الوثيقة العمرية، في عرقلة بناء الكنائس ( اقرأ الحقوق المساوية للأقباط) التي جاء بنصها : " إلا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجدِّدوا ما خُرِّب "
وأيضا من نصوص هذه الوثيقة نصاً يقول: " ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين " ونصاً آخر يقول: " ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين". أما الشرط الذي يصعب على الأقباط كتمانه فهو عاطفتهم في حزنهم على موتاهم وبكائهم عليهم فقد حرمت الوثيقة إظهار عاطفة الأقباط في الشرط التالي: " ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم ". فهل صار بكاء المسيحيين على امواتهم طعنا بالإسلام؟
هل يمكن بناء نظام عقلاني ، ديمقراطي شرطا ، وحسب الديمقراطيات الوحيدة المعروفة في عالمنا، نظام مساواة، نظام تطور علمي واقتصادي، نظام عقول منفتحة، بلا حجاب على العقل الذكوري والوجه النسوي؟ واقامة نظام حضاري ينشد التقدم والرقي الإنساني، بقوانين من المستحيل قبولها وتتناقض مع بنود أخرى في نفس الدستور المصري التي تتحدث عن المساواة مثلا؟
رغم مرور ستين سنة على قيام النظام الجمهوري في مصر وإطلاق شعارات التحرر والديمقراطية والاشتراكية والثورة والعدالة الاجتماعية. الخ، إلا انه في موضوع بناء الكنائس ( أو بوضوح في التعامل مع الأقلية القبطية) لم يتحقق التحرر من عقلية العصر البائد، عصر الاحتلال العثماني في مصر، وظلت شروط بناء الكنائس وترميمها في مصر مستمدة من العثمانيين حسب الوثيقة العمرية .. وما زال هذا الواقع يجول في قلب المجتمع المصري ويشوه عقول المواطنين ، ويخضع الأقباط وغيرهم من الأقليات (البهائيين مثلا) إلى استبداد مستمد من عقليات القرون الوسطى יو ما هو أسوأ من ذلك.
لقد كان قرار إصدار ترخيص بناء كنيسة في يد السلطة العليا العثمانية واليوم حدث "تطور" إنتقل إصدار الترخيص إلى رئيس الجمهورية في مصر. هل من فرق كبير؟
إذن مضمون القانون العثماني وروحه ونهجه التعسفي لم يختف بعد تحرر مصر من سيطرة العثمانيين وظل قانونهم سارياً على أقباط مصر. ولكنه غير بعيد عن فقدان الأكثرية المصرية (المسلمين) لحقوقهم المدنية أيضا. إن التمييز ضد فئة، هو معيار لعقلية سائدة لا ترى بالمواطن إنسانا له حقوق مواطنة أو حقوق إنسان حسب المعايير الدولية السائدة.وبغض النظر عن كونه مسيحيا قبطيا أو مسلما حسب الواقع المصري مثلا. إن اضطهاد الأقباط هو نهج لاضطهاد كل مواطن مصري مهما كان دينه، وهذا ما كان في مصر!!
المذبحة البشعة الأخيرة بحق المواطنين الأقباط ليست وليد الصدفة، وليست مؤامرة، وليست فقدان سيطرة للمجلس العسكري، إنما هي نتيجة لتربية وأخلاقيات ومناهج حكم سائدة.. ولها علاقة بمستقبل الثورة المصرية. علاقة أن تكون مصر كما أرادها ثوار ميادين التحرير من المسلمين والمسيحيين، دولة مواطنيها ، دولة مساواة وحريات وتطور لمصلحة الجميع، أو دولة عسكرتارية ، تواصل الحفاظ على نفس النهج المتخلف الذي يحكم الشعب المصري ، ولا أقول يحكم الأقباط فقط.
ليس من الضروري أن يكون الإنسان منتميا لدين ما أو قومية لينتقد ما يجري مع أقباط مصر. ولينتقد ما يجري مع الأقليات الاثنية في العالم العربي ، ولينتقد ما يجري مع الأقليات الدينية في العالم العربي.ولينتقد الخرافات والغيبيات التي صارت جزءا من الدين الرسمي.
لن يكون عالما عربيا متحررا ديمقراطيا متطورا حضاريا بالحفاظ على عقليات القرون الوسطى الدينية . لا بد من التشديد على بناء مجتمع عربي مدني، مجتمع يفصل بين الدين والدولة، مجتمع يعاقب بلا رحمة كل من يحرض على المختلف دينا أو قومية أو جنسا.
هذه أكبر وأخطر مهمة أمام الثورات العربية، وأمام مصر بالتحديد!!.
ثورة مصر امتحانها هنا. إما أن تكون ، وتنجز حلم الشباب بميادين التحرير، والمساواة بالمكان الأول، أو تتحول إلى نظام قمعي كل ما أنجزته أنها أسقطت ديكتاتورا ونظاما فاسدا، لتستبدله بديكتاتور آخر ( يسمونه مجلس عسكري) يحافظ على نفس النظام ونفس النهج بتسميات جديدة.
أقباط مصر يدفعون ثمنا رهيبا لمصلحة أن يستيقظ كل شرفاء مصر.
الموضوع ليس كنيسة، وليس قبطيا أو مسلما. إنما أن تكون مصر دولة حضارية، أو أن تكون دولة قرون وسطى، دولة غيبيات وهرطقات دينية لا تمت بصلة للمنطق العلمي والانساني.
لا تظنوا أن الدم القبطي سقط على قضية كنيسة. بل على حقوق إنسانية أساسية يضمنها أي قانون في أي دولة حضارية متنورة.
لا أعرف من أطلق النار، ولكني أعرف أن المجلس العسكري قاصر في حماية الأقلية القبطية، وعليه أن يتحمل قصوره ويحل نفسه، وينقل السلطة لمجلس مدني مؤقت مشكل من كل القوى التي أنجزت الثورة.. والإسلاميون ( كمنظمات) لم يكونوا منهم!!
يجب إيقاف سرقة الثورة اليوم. الوقت ليس متأخرا. غدا سيكون متأخر جدا!!
ميرا جميل (بروفسور) كاتبة وباحثة فلسطينية
( محاضرة زائرة في جامعة McGill University- Montreal, Quebec)
0 comments:
إرسال تعليق