بروتوكولات الهدايـا الدبلوماسية/ صبحة بغورة

العمل الدبلوماسي حقل شاسع من ألغام الكلمات والابتسامات والمصافحات لا يمكن لأحد أن يضمن بعض صدقها أو تمام زيفها ، وينصرف الأمر نفسه إلى الصور التذكارية الجميلة أو تلك الملتقطة خلسة لجمع من الدبلوماسيين خلال مناسبة ما ويكون قد ظهر فيها مسؤولين من بلدين بينها عداوة فهذا الظهور يثير شهية الكثيرين من المتابعين لمحاولة تفسيره بما يخالف حقيقته كما قد يجري تضخيمه بأكثر مما يحتمل ، والعمل الدبلوماسي كذلك مساحة مترامية الأطراف من الأفعال و ردود الأفعال التي قد تكون تارة متوافقة ومنسجمة فتحيل هذه المساحة جنة وذلك إلى حين ، أو قد تكون تارة أخرى متعارضة ومتنافرة فتجعل من هذه الساحة حلبة صراع لفظي جهنمي قد يحمل ما يحمله من عوامل التوتر الدولي و ذلك إلى حين أيضا ، وفي الحالتين سنلمس ما يمكن أن يكون معبرا أصدق التعبير عن ما بلغه مستوى الفكر الإنساني من خلال طبيعة نظرته إلى قضايا عصره ومدى ما اكتسبه من مهارات التعامل معها بين اللين والشدة سواء مع المتغير من الظروف أوالمستجد من المعطيات وفي الحالين أيضا سيكون كل شيء مقدر بحساب دقيق فلا إفراط في إظهار جانب الليونة دون مبرر يستدعيها والتي معها قد تضيع الحقوق والمصالح وسط زحمة المجاملات ، وكذلك لا مجال ينبغي أن يكون للمبالغة في إظهار جوانب من الغلظة المنفرة غير المستندة لسند يقتضيها التي ليس من شأنها سوى غرس مشاعر العداوة وخلق أجواء القلق والاضطراب ، إذن لا شيء متروك للنوايا فقط أو مرتبط بحسن الظن المسبق الذي يعكس عمى البصر و البصيرة عن حقائق الأمور أو العيش دوما تحت وطأة هاجس التخوف والبقاء باستمرار في دائرة عقدة المؤامرة .
تعد طبيعة مواضيع لقاء دبلوماسي معين و الأفكار الرئيسية التي سيتناولها محددا أساسيا لمستوى النقاش الدائر حولها وهذا المستوى سيحدد إطارا سميكا حول مجال الحوار بما يتضمنه من عبارات و ألفاظ مرتبطة بتحديد موقف وبما يكتنفه من أحاسيس و مشاعر منها ما يسمح بالتعبير عنها ومنها ما لا يجوز إظهارها لتجنب الوقوع في فخ فرحة تغري الآخر على التصرف بشكل انتهازي أو على الأقل يعقبها مسعى استغلالي ، أو لتفادي السقوط في هوة غضبة قد تفسد ما كان يمكن معالجته بقليل من الصبر والتأني أي بشيء من الحكمة والمهارة في إخفاء المشاعر.
إن إخفاء حقيقة المشاعر مهارة أساسية يتطلبها العمل الدبلوماسي ولا يعني هذا " نفاقا " فليس المطلوب الابتسام أمام العدو و إظهار علامات الغيظ أمام الصديق ، والمعنى المباشر لها هو التحكم في الأعصاب و المشاعر في حالات الغضب و الفرح ، ويعتبر الاتصال الدبلوماسي المباشر في مختلف المحافل و المناسبات هو المحك الميداني لهذا الامتحان النفسي ، وعلى قدر السنين الطوال من التجارب تكون الخبرة وتكون القدرة التي قد تبلغ حد التحكم في رعشة مقلتي العين أمام المواقف المحرجة وتعبيرات الوجه أمام التصرفات الطارئة ، فضلا عن الوقفة التي تعني عشرات المعاني و أيضا حركة اليدين أثناء الحديث ...
ولعل من دواعي تلطيف أجواء اللقاءات الدبلوماسية ما يدعي بتبادل" الهدايا الدبلوماسية " التي من شأنها تعميق مشاعر المحبة والتقدير ، فالتهادي سلوك إنساني راق ، ونوع من التعبير عن الشعور الايجابي تجاه الآخرين فيؤلف بين القلوب ، وللهدية أكثر من معنى ، وتعكس أكثر من مغزى وتحمل ما تحمل من رمز ، والهدية تربط بين الأشخاص بروابط المحبة و السلام لأنها تحمل في مضمونها مشاعر المودة و الاحترام ، ويعتبر تبادل الهدايا في المناسبات السعيدة تقليدا اجتماعيا راقيا يقوي أواصر الصداقة بين الأصدقاء كما تقوى بالقدر نفسه روابط الأخوة و الانتماء بين أفراد العائلة الواحدة ، ويراعى أن يكون للهدايا الدبلوماسية مناسبات تبررها حتى يكون لها الوقع المأمول منها ، فمن المعلوم أن تحديد نوع الهدية والتوقيت المناسب لتقديمها فن له أصول ، ولما كانت الهدية وسيلة من وسائل إفشاء المحبة و توثيق الصلات الاجتماعية بين الناس عموما فهي مستحبة في كل الأحوال ، و الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام كان لا يقبل الصدقات ولا الهبات أو الزكاة لكنه كان يقبل الهدية لأن التهادي يولد آثارا طيبة سواء في نفس مقدمها الذي تغمره مشاعر الانشراح حال تقبل الطرف الآخر هديته لأنه معناه تقبل أحاسيسه ومشاعره فيما تكون مشاعر المهدى إليه عظيمة لأنها تعني إكرام وتقدير من أهداه ، ولعظم مكانة الهدية في الإسلام يجوز تبادلها بيم المسلم وغير المسلم وفي هذا ترجمة عملية على محاسن الإسلام و سماحته ، وللهدية بعدها المادي و المعنوي ، ولها بشكل عام معاني كثيرة في العلاقات الإنسانية وهي أفضل مختزل للمشاعر والأحاسيس لأنها تعكس أحاسيس مهديها أو وجهة نظره ، ولضمان أفضل ترجمة عن الأحاسيس كانت مسألة اختيار شكل الهدية أو حجمها وقيمتها أو لونها أو طريقة تقديمها ، والمتفق عليه أن الهدية رمز يثير مشاعر في نفوس الناس على حساب حالتهم المزاجية و النفسية لذلك فمن الضروري تحين الوقت المناسب للتهادي مع مراعاة نوع الهدية التي تليق بالشخص و تتفق مع المناسبة .
من الطبيعي أنه بحسب طبيعة المناسبة يكون مستوى الهدايا ، فالتحاق سفير دولة لدى دولة أخرى هو مدعاة لمبادرة هذا السفير بعد اعتماده إلى إجراء اتصالات بكبار المسؤولين في الحكومة و الدولة وبرؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدة ، ويحدث أن يتقدم هذا السفير أو ذاك للبعض منهم بهدايا رفيعة في شكل منتج رمزي صناعي أو غذائي يكون خير معبر عن ما بلغته أيادي أبناء بلده من مهارة وذوق وإتقان ، ويحبذ الكثيرون أن يبادروا بذلك كلما كان ذلك ممكنا بالتزامن مع حلول مناسبة وطنية أو دينية أو حتى شخصية تكون مقترنة بذكرى ما جمعتهما في الماضي الدراسي البعيد أو أثناء مسيرتهما المهنية حيث يتم تجديد التأكيد على عمق علاقتهما من خلالها على طابع المجاملة التي تبررها المناسبة أكثر من أي اعتبار آخر قد يتبادر للذهن حين يتخيل صاحبه بأن ثمة محاولة لشراء ذمة أو مناورة لإيقاعه في فخ الشعور المزمن بالامتنان ..ومع ذلك فمثل هذا النوع من الهدايا بالنظر إلى توقيتها هي هدايا استباقية لا يسع المرء إلا قبولها بوافر الثناء و جزيل الشكر لأن العمل خير، و الخير خير في ذاته و في وسيلته ، ومن الأمور التي يحبذ القيام بها قبل تقديم الهدية أن تتم الإشارة إليها في وقت سابق عليها وتتطلب هذه الإشارة قدر كبير من الذكاء ، فهي أولا تأتي في سياق حديث مباشر سواء شخصيا أو عن طريق الهاتف يتم من خلاله التيقن من تواجد الشخص المعني الذي ستقدم له الهدية أي التأكد من عدم غيابه لأي سبب عن مكان عمله أو إقامته .. ثم تلمس حاجته لنوع الهدية المقررة سلفا للوقوف على مدى قبوله لها و ترحيبه بها .. وغالبا لا تقدم الهدية يدا بيد إنما ترسل مع مرسول خاص يسلمها إلى السكرتارية الخاصة للمسؤول التي تقوم بتوصيلها إليه فورا مرفوقة بعبارات محبوكة صياغتها تربط بين المناسبة و نوع الهدية التي تليق بمقامها، وكما يبدو فالأمر هنا شخصي وتقديري تجاه من لا تمانع السلطات الشخص المهدي من تحسين العلاقات مع المهدى إليهم أو تلقيه هداياهم ، وكثير ما فتح هذا السلوك مغاليق الأمور بفضل ما قد ترسخ في وجدان كل الأطراف من مودة وثقة و احترام ، فالحرص على بقاء هذه العلاقات الطيبة القائمة يدفع إلى تقديم يد المساعدة وعدم التأخر عن منح بعض التسهيلات لتجاوز الكثير من العراقيل البيروقراطية التي قد تعترض إتمام عمل ما وتسريعه بالوتيرة التي يقتضيها الظرف ، وكم هي المواقف الطارئة التي تعرض لها ممثلي هذه الدولة أو تلك بمناسبة زيارة مثلا سيجريها المسؤول في أعلى هرم السلطة تم اتخاذ القرار بشأنها بشكل مفاجئ و سريع ، أنها مواقف حرجة تؤرق المضاجع ولا يخفف من حدة توترها سوى ما كان من خير سابق متبادل جرى تحت شعار " تهادوا تحابوا.. " ، وعلى مستوى آخر قد يحدث أن يتم تقديم هدايا عينية أو مالية عقب محادثات سياسية بين طرفين أو أكثر حول قضايا هامة سواء تحققت فيها مصلحة الطرف مقدم الهدية أو تم الاتفاق على ما يهم المصلحة المشتركة للطرفين ، وقد تقرأ حينها مثل هذه الهدايا كشكل من أشكال الدعم المباشر والعلني لنظام قائم ، أو تأكيد مساندة من قبيل الاعتراف بنظام جديد ناشئ يكون الجزء المعلن منها عادة أقل من المستتر وهي في الحالتين خير معبر عن نجاح المحادثات ، أي أن الطابع الرسمي هنا يطغى على الحدث ليمثل إرادة دولة بمعنى .. هدية بقرار سياسي .

CONVERSATION

0 comments: