العلم بمعناه الصحيح، لا يخرج عن نوعين اثنين، وهما العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية. وما عدا ذلك من صنوف الكلام، فمقبول للتعبير عن دخيلة النفس، كحالة انفعالية، تشبه القصيدة من الشعر، أو الضحكة، أو التألم، كالحالة التي وجدتني بها، وأنا أشاهد إشهار رابطة العلماء الأردنيين. ولكن هذه الهرطقة، والوجدانيات التعبة، والأسلوب البارد المتحجر، لا يكون، بأي حال من الأحوال، علما، يستحق صاحبه لقب "العالم". ومتى كان الشعر، والأدب، والمعرفة بالدين علما؟!
إن الإيمان، موضوعه الكتابات المقدسة. أما العقل، فموضوعه المعرفة العلمية الدقيقة. فالله على كل شيء قدير، هذا أمر إيماني. ولكن هل يستطيع الله أن يجعل واحد زائد واحد لا يساوي اثنان؟ هل يستطيع الله أن يجعل المربع دائرة، والمثلث مستطيلا؟!.
إن الكون محكوم بقوانين ثابتة، لا يتدخل فيه شيء من خارجه، وكل ما يجري من أحداث، مهما تكن غرابتها، لا بد لها من تفسير علمي. وما هو طبيعي هو وحده العلمي. أما العلم الذي يقوم على الخوارق والمعجزات، فليس من العلم في شيء. إن مجرد قبول الخوارق والمعجزات، معناه الخروج على العلم. إن الدين لا يمكن أن يقوم مقام العلم. والعلم وحده ثقافة العقل، والمصنع هو القادر على حشرنا في زمرة العلماء، وهو القادر على تغيير حياتنا، والأنبياء بغير سلاح لا ينتصرون.
لقد مني مجتمعنا بتقاليد زائفة، كان من شانها السماح للمخدرات الفكرية، بالذيوع في مناهج المعرفة عندنا، وهروبها من العلم والحقائق العلمية. فالشعراء في بلادنا علماء، والأدباء من جماعة أهل القصة، والرواية، والمسرح، علماء، ورجال الدين، وخطباء المساجد، علماء. إن أصوات هؤلاء وأبواقهم، تزعق في أذهان الناس صباح مساء، دون أن نجد من يلجمهم، ويمنعهم من إفساد الحياة. كما أن الدولة، وعلى نحو من تواضع معرفة رجالها، وقعت في فخاخ هذا الوهم القاتل، وحسبتهم من العلماء، وأولتهم المناصب العلياء، وقدمت لهم كل التسهيلات الممكنة، حتى صاروا في الصفوف الأولى من مواقع السلطة والنفوذ، يقررون ما هو علم، وما هو غير علم. فقضوا على كل أشكال المنهج العلمي، والتفكير السليم.
ومن المحتمل أن يكون العلم والتنوير في بلادنا، قد اعترضتهما مواقف مضادة. فأصبح من الصعب التمييز بين العلم والهرطقة والحماقة. ولكن من الصعب تقبل استمرار هذا الخطأ في كل الأجيال، دون أن نجد من يساهم في تصحيح مفهوم العلم والعلماء. ألا يكمن السبب في صعوبة فهمنا للعلم، في كونه يرتكز في غالب الأحيان، إلى تفكير عميق متأصل، بينما نميل في بلادنا إلى الكسل وراحة العقل، أو ما نسميه هدوء البال؟!. إن العلم يتجاوز حدود المعرفة بالدين، والقيم الاجتماعية، والعادات، والتقاليد. وقد منعتنا الضوابط الاجتماعية، والمعايير الأخلاقية الزائفة، وإيمان العوام، وما ورثناه من كتب أصحاب الدكاكين، كلها منعتنا من التفكير الحر، وأصبحنا نخشى التعرض لمشاعر الآخرين من الشعراء والأدباء، وأصحاب الألقاب العلمية الكاذبة، بالاستخفاف، حتى عم الناس التبلد والجمود الفكري.
وكنت آمل لو أن هؤلاء، أعضاء رابطة العلماء الأردنيين، نهضوا لوقف حركة التزييف المثيرة لضحك العالم، والتي تنبع للأسف الشديد، من أقدس معابد العلم في بلادنا، من الجامعات والمعاهد، ومراكز البحث العلمي، وبمباركة من هؤلاء الأعضاء. ولكننا كعادتنا، ندعي العلم والحماقة بادية في طرائق تفكيرنا.
إنني لا أريد أن التفت إلى كتابات هؤلاء، الذين هم ليسوا إلا جنوداً، خلف واجهات يمتد بريقها من القديم وهو يلفظ أنفاسه. وقد ارتاحوا إلى أحكام التقاليد والدين، واستمدوا موازينهم من بلاغة القرآن، والأحاديث، والكتب القديمة، دون بحث أو تعليل، وهم هنا يشبهون أدباء القرون الوسطى، ورجال الدين.
ولكني أتساءل: هل تحتوي كتب هؤلاء العلماء، على تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود الفعلي، لكي يستحقوا لقب "عالم" ؟ أم أنه لا يوجد غير الوهم، واللغو، وكثرة الكلام؟ إن الكاتب إذا ما نسج خيوطه في الفراغ، منعزلا عن دنيا النشاط والعمل، أصبح خطرا على نفسه وعلى الناس، لأنه ينهك قواه ويشغل الناس بما لا يفيد. ويحدث لهم مثلما يحدث للذراع، حين تمتد لتمسك بشيء، ثم يفلت ذلك الشيء، وتضرب الذراع في الهواء. "زي الهو".
إنك لن تبيع الهواء!. انظر إلى الناس في بلادنا، فهم ينهمكون في تأدية الفرائض والطقوس، ويبنون كل يوم مسجدا، وتتلوى بطونهم جوعاً!. بينما نجد أحد من يطلقون عليه لقب "عالم جليل" يضع للناس كتاب الطهارة في عشرين مجلدا فخما، ويعلم الناس، أن السباحة في الماء كل صباح، تغني عن قراءة كتب الطهارة وتفاصيلها . فلماذا لا نلقي بمثل هذه الكتب في النار؟ ولماذا لا نحاكم أصحابها على ما أنفقوا فيها من مال، الناس أحق به؟! وإذن فهذه هي العلاقة بين الأساطير الرجعية والتخلف الاجتماعي، لا بد من محوها أولاً، والتغيير الاجتماعي ثانياً. وهذا واجب من يدعي العلم ويسعى في سبيله.
إننا نتمزق بين القيم المتهرئة التي تشيع في حياتنا الثقافية. فهؤلاء الكتاب، والشعراء، ورجال الدين، ليسوا على وعي بحقيقة ما يكتبون، وهم يخدروننا عن واقعنا، فلا نفكر في تغييره. إن المعارف الدينية، والآداب العربية، نشأت في مجتمعات بدوية ورعوية وقبلية، ولهذا ينبغي أن نحيد عن تقليدها إلى احتذاء المعارف والآداب المستنيرة بالعلم.
فلنول وجوهنا شطر أوروبا، وندع هؤلاء في كهوفهم، يقتاتون على فضلات القدماء، فهم لا يمتلكون بصيرة علمية، يضعون بواسطتها يدهم على نواميس تطور الحياة، والكون، والإنسان، تحسبهم أيقاظا في العالم المتحرك، وهو رقود. وهذا أمر نجد تفسيره في علم النفس الاجتماعي، فعندما تخمد الحياة في المجتمع، فهي تثير ذكرياته في اشتياق، كما لو كان يشتاق إلى الموت، لان في الماضي كثيرا من سمات الموت، بل هو الموت، وهذا الماضي يشيع في نفوس أبنائه عقائده، في حين أن المستقبل يطالب بالمنطق، والعقل، والالتزام.
لقد حذفت الثقافة التقليدية عصارة الإبداع الفكري، لدى فريق من هؤلاء الكتاب. والحل هو تغيير المناخ الذهني، بالفرار من العقلية البدائية، إلى حضارة أوروبا، وهي رغبة ملحة، من أجل تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية، وتحويل الثقافة إلى ضرورة أساسية للناس.
إنني أرى أنه يجب أن تكون هناك محاولة لتطهير الدين الشعبي من التصورات الحسية والتهاويل الشعبية. إن استبعاد الأساطير والخرافات أمر لا مفر منه، بعد كل هذا التقدم العلمي، الذي لا تتفق نتائجه أبدا مع المعجزات والخوارق التي تحفل بها الكتب الدينية. إننا نعيش واقعا فكريا مترديا، فالمدارس المدنية قاصرة على دراسة المعارف الدينية القديمة، والأدب العربي القديم، و كهوف المعارف، والأدب القديم، في المعاهد الدينية، قانعة بدراسة العالم الآخر. وكلها تقف في وجه التقدم. فأين دور هؤلاء في إصلاح هذا الفكر المتعفن، الذي تنغل فيه ديدان التقاليد، وإصلاح هذا الجهل لهؤلاء الرجعيين، الذين يعارضون العلم والحضارة، وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات.
إن القيم الرجعية الكامنة في التقاليد، والعادات، والغيبيات، هي التي تخدر حواسنا عن واقعنا المر، فلا نرى أية هاوية تنحدر إليها أقدامنا المغلولة بقيود الغيبيات، والضوابط الاجتماعية. فلا بد من تبصير الفئات المطحونة في أسفل السلم الاجتماعي، بحقها في الحياة، بشرط أن تتحرر من العبودية الأولى، عبودية الوهم والخرافة، وسوف تتحرر عندئذ من العبودية الثانية، عبودية الاستغلال الطبقي.
وأهم من كل ذلك ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي للفئات المسحوقة، دون أن تخلع عن نفسها ثياب الدين مرة واحدة. إن كل ما فعله هؤلاء، بناء حضارة تتهالك أعمدتها على أسس واهية، من القيم، والتقاليد، والعادات، يغذوها أهل الدين بسموم الخرافات والأساطير، وكان الدين أداة من أدوات الاضطهاد. إن روابط العلماء جميعها، لا تغفر ما فعله الغزالي نفسه، حين وصف كل من فهم فلسفة أرسطو" يجب تكفيره" ولا تغفر ما فعله الآخرون بابن رشد في الأندلس، والسهروري في حلب، وابن حزم بعد أن اخذ عليه بعض الفقهاء ما يقوله في حرية الحب، والمرأة، والحياة.
إن هذا الفهم الجديد لمعنى العلم، هو ما نسميه المنهج العلمي والعقلية العلمية. والعقلية العلمية، هي بصيرة واعية مدركة، نستضيء بها في رؤية الحياة، والكون، والإنسان، والمجتمع. هي عقلية تؤمن بالواقع الحي المتحرك، وأنه – أي الواقع – قابل للفهم والإدراك. وهي عقليه نقدية لا تقديرية، وهي عقلية تقدمية مستقبلية، تنظر إلى الماضي بعين النقد والتشريع. إن أحسن العمارات في بلادنا، هو ما بني على الطراز القديم، وإن كرامتنا لتأبى أن تكون بلادنا متحفاً للسياحيين، إذا أرادوا أن يدرسوا ما لنا من فنون، رجعوا إلى الماضي – كأن الموتى هم الأحياء، والأحياء هم الموتى. فلماذا كل هذه العناية المفرطة بالأكفان؟ إنه لا بد أن نشهد ثورة عارمة ضد القيم المتخلفة. سواء كانت كامنة في التقاليد، أو الغيبيات، أو القيم القديمة. إنني ضد أن نجعل من بلادنا متحفاً للسياح، يستيقظ فيه الأموات، ويموت فيه الأحياء. فلا بد أن نلتفت إلى حاضرنا وإلى مستقبلنا. ولا بد أن ندرك بأن العالم يسعى إلى ثقافة عالمية، ولغة عالمية، وديانة بشرية عالمية، وحكومة عالمية. فينبغي أن ندرس العلوم، وأن نتشبع بالعقلية العلمية. إن الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن الحادي والعشرين، ولو كان عبقرياً. إن العلم ينبغي أن يحل محل الكهانة والدين، في العالم القديم. أما الأدب والشعر، فهما ثقافة غيبية زراعية، لسنا بحاجة إليهما. إن سقراط العظيم، وهو شهيد العقل الأول، رفض قبل نحو من ألفين وأربعمئة سنة، قبول الشعراء، والأدباء في الدولة. ومن بعده جاء أفلاطون، وقرر أن الشعر، والأدب، لا يمكنان من تأسيس دولة، تعتمد على المفاهيم العقلانية، إذ أن هذه المعارف، لا تلتقي في شيء مع العقل.
وقد ظل المعارف الدينية المنقولة عن السلف، والأدب العربي بكل أشكاله وأنواعه، تدفعنا في اتجاه الأوهام والأكاذيب الاجتماعية ،وتطوف بنا في عالم لا علاقة له إطلاقا بالعقل أو الفكر أو الثقافة، إن لم تكن سببا في هدمها، فهي تدفع الإنسان إلى الغوص في الأحاسيس السخيفة، وهي يتعارض مع الحياة ، وتفرغها من محتواها الحقيقي، لتحولها بعد ذلك إلى مشهد سخيف. وباختصار، فان مستهلك معارف النقل، ومستهلك الشعر، ومستهلك الأدب العربي القديم ، فارغ وتائه، وبعيد عن ذاته وعن المجتمع، وعاجز عن الفعل ، وهو رمز للبؤس والحرمان. فيجب إخضاع الأدب للعقل، ودفع القارئ إلى التفكير والتأمل، ويجب إخضاع وسائل الترفيه، في الشعر، والمسرح، والقصة، والرواية، لحركة الفكر، حتى ولو كانت هذه الحركة، خفيفة وبطيئة.
وقصارى القول، أن الأدب العربي القديم، أدب تافه، كان يؤلفه الكتاب والشعراء لأجل الخلفاء والأمراء والفقهاء، لأن هؤلاء كانوا" الدولة". وكان أدب الخلفاء، والأمراء، نوادر، وقصصا، وأشعارا، تسلي وتذهب بالسأم، أي سأم البطالة، بطالة المترفين. وكان أدب الخلفاء تواريخ تؤيد دولتهم، وتثبت حقوقهم في تبوء الحكم. وكان أدب الفقهاء شروحا وتعقيبات على الدين والمذاهب . ثم ظهر أدب يكاد يكون شعبيا، في قصص الرحلات. وظهر أدب الجنس، والمتع الحسية، في كتاب ألف ليلة وليلة، لكن الفكر كان مغيبا، والإنسانية كانت مغيبة، والعلم كان مغيبا.
ولو أننا أولينا العلم، ما أوليناه للدين، وللغة والأدب، من عناية واهتمام، وسخاء في دفع الأموال، لكنا في مصاف الدول المتطورة. ولكن خدعتنا الألقاب، وأثارتنا حماسة الناس، في الإقبال على الكتب الإنشائية، في الدين، واللغة، والشعر، وأخبار السلف الصالح، ومعارك القبائل،وأمراء الجيش، وصحيح الأنساب، وأخبار النساء، حتى عم الجمهور التبلد، وأصابته الهستيريا، والكل يكتب، ويؤلف، ويحصل على درجة الماجستير والدكتوراة، في تاريخ العرب وأمجادهم، مما جعل الناس يعيشون في عزلة عن العالم المتحضر، كأنهم في برج عاجي، غفلوا عن التطور البشري، ونحوا سبلا قديمة، تغمض بصائر الناس عن حياتهم وواقعهم.
إن الإيمان، موضوعه الكتابات المقدسة. أما العقل، فموضوعه المعرفة العلمية الدقيقة. فالله على كل شيء قدير، هذا أمر إيماني. ولكن هل يستطيع الله أن يجعل واحد زائد واحد لا يساوي اثنان؟ هل يستطيع الله أن يجعل المربع دائرة، والمثلث مستطيلا؟!.
إن الكون محكوم بقوانين ثابتة، لا يتدخل فيه شيء من خارجه، وكل ما يجري من أحداث، مهما تكن غرابتها، لا بد لها من تفسير علمي. وما هو طبيعي هو وحده العلمي. أما العلم الذي يقوم على الخوارق والمعجزات، فليس من العلم في شيء. إن مجرد قبول الخوارق والمعجزات، معناه الخروج على العلم. إن الدين لا يمكن أن يقوم مقام العلم. والعلم وحده ثقافة العقل، والمصنع هو القادر على حشرنا في زمرة العلماء، وهو القادر على تغيير حياتنا، والأنبياء بغير سلاح لا ينتصرون.
لقد مني مجتمعنا بتقاليد زائفة، كان من شانها السماح للمخدرات الفكرية، بالذيوع في مناهج المعرفة عندنا، وهروبها من العلم والحقائق العلمية. فالشعراء في بلادنا علماء، والأدباء من جماعة أهل القصة، والرواية، والمسرح، علماء، ورجال الدين، وخطباء المساجد، علماء. إن أصوات هؤلاء وأبواقهم، تزعق في أذهان الناس صباح مساء، دون أن نجد من يلجمهم، ويمنعهم من إفساد الحياة. كما أن الدولة، وعلى نحو من تواضع معرفة رجالها، وقعت في فخاخ هذا الوهم القاتل، وحسبتهم من العلماء، وأولتهم المناصب العلياء، وقدمت لهم كل التسهيلات الممكنة، حتى صاروا في الصفوف الأولى من مواقع السلطة والنفوذ، يقررون ما هو علم، وما هو غير علم. فقضوا على كل أشكال المنهج العلمي، والتفكير السليم.
ومن المحتمل أن يكون العلم والتنوير في بلادنا، قد اعترضتهما مواقف مضادة. فأصبح من الصعب التمييز بين العلم والهرطقة والحماقة. ولكن من الصعب تقبل استمرار هذا الخطأ في كل الأجيال، دون أن نجد من يساهم في تصحيح مفهوم العلم والعلماء. ألا يكمن السبب في صعوبة فهمنا للعلم، في كونه يرتكز في غالب الأحيان، إلى تفكير عميق متأصل، بينما نميل في بلادنا إلى الكسل وراحة العقل، أو ما نسميه هدوء البال؟!. إن العلم يتجاوز حدود المعرفة بالدين، والقيم الاجتماعية، والعادات، والتقاليد. وقد منعتنا الضوابط الاجتماعية، والمعايير الأخلاقية الزائفة، وإيمان العوام، وما ورثناه من كتب أصحاب الدكاكين، كلها منعتنا من التفكير الحر، وأصبحنا نخشى التعرض لمشاعر الآخرين من الشعراء والأدباء، وأصحاب الألقاب العلمية الكاذبة، بالاستخفاف، حتى عم الناس التبلد والجمود الفكري.
وكنت آمل لو أن هؤلاء، أعضاء رابطة العلماء الأردنيين، نهضوا لوقف حركة التزييف المثيرة لضحك العالم، والتي تنبع للأسف الشديد، من أقدس معابد العلم في بلادنا، من الجامعات والمعاهد، ومراكز البحث العلمي، وبمباركة من هؤلاء الأعضاء. ولكننا كعادتنا، ندعي العلم والحماقة بادية في طرائق تفكيرنا.
إنني لا أريد أن التفت إلى كتابات هؤلاء، الذين هم ليسوا إلا جنوداً، خلف واجهات يمتد بريقها من القديم وهو يلفظ أنفاسه. وقد ارتاحوا إلى أحكام التقاليد والدين، واستمدوا موازينهم من بلاغة القرآن، والأحاديث، والكتب القديمة، دون بحث أو تعليل، وهم هنا يشبهون أدباء القرون الوسطى، ورجال الدين.
ولكني أتساءل: هل تحتوي كتب هؤلاء العلماء، على تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود الفعلي، لكي يستحقوا لقب "عالم" ؟ أم أنه لا يوجد غير الوهم، واللغو، وكثرة الكلام؟ إن الكاتب إذا ما نسج خيوطه في الفراغ، منعزلا عن دنيا النشاط والعمل، أصبح خطرا على نفسه وعلى الناس، لأنه ينهك قواه ويشغل الناس بما لا يفيد. ويحدث لهم مثلما يحدث للذراع، حين تمتد لتمسك بشيء، ثم يفلت ذلك الشيء، وتضرب الذراع في الهواء. "زي الهو".
إنك لن تبيع الهواء!. انظر إلى الناس في بلادنا، فهم ينهمكون في تأدية الفرائض والطقوس، ويبنون كل يوم مسجدا، وتتلوى بطونهم جوعاً!. بينما نجد أحد من يطلقون عليه لقب "عالم جليل" يضع للناس كتاب الطهارة في عشرين مجلدا فخما، ويعلم الناس، أن السباحة في الماء كل صباح، تغني عن قراءة كتب الطهارة وتفاصيلها . فلماذا لا نلقي بمثل هذه الكتب في النار؟ ولماذا لا نحاكم أصحابها على ما أنفقوا فيها من مال، الناس أحق به؟! وإذن فهذه هي العلاقة بين الأساطير الرجعية والتخلف الاجتماعي، لا بد من محوها أولاً، والتغيير الاجتماعي ثانياً. وهذا واجب من يدعي العلم ويسعى في سبيله.
إننا نتمزق بين القيم المتهرئة التي تشيع في حياتنا الثقافية. فهؤلاء الكتاب، والشعراء، ورجال الدين، ليسوا على وعي بحقيقة ما يكتبون، وهم يخدروننا عن واقعنا، فلا نفكر في تغييره. إن المعارف الدينية، والآداب العربية، نشأت في مجتمعات بدوية ورعوية وقبلية، ولهذا ينبغي أن نحيد عن تقليدها إلى احتذاء المعارف والآداب المستنيرة بالعلم.
فلنول وجوهنا شطر أوروبا، وندع هؤلاء في كهوفهم، يقتاتون على فضلات القدماء، فهم لا يمتلكون بصيرة علمية، يضعون بواسطتها يدهم على نواميس تطور الحياة، والكون، والإنسان، تحسبهم أيقاظا في العالم المتحرك، وهو رقود. وهذا أمر نجد تفسيره في علم النفس الاجتماعي، فعندما تخمد الحياة في المجتمع، فهي تثير ذكرياته في اشتياق، كما لو كان يشتاق إلى الموت، لان في الماضي كثيرا من سمات الموت، بل هو الموت، وهذا الماضي يشيع في نفوس أبنائه عقائده، في حين أن المستقبل يطالب بالمنطق، والعقل، والالتزام.
لقد حذفت الثقافة التقليدية عصارة الإبداع الفكري، لدى فريق من هؤلاء الكتاب. والحل هو تغيير المناخ الذهني، بالفرار من العقلية البدائية، إلى حضارة أوروبا، وهي رغبة ملحة، من أجل تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية، وتحويل الثقافة إلى ضرورة أساسية للناس.
إنني أرى أنه يجب أن تكون هناك محاولة لتطهير الدين الشعبي من التصورات الحسية والتهاويل الشعبية. إن استبعاد الأساطير والخرافات أمر لا مفر منه، بعد كل هذا التقدم العلمي، الذي لا تتفق نتائجه أبدا مع المعجزات والخوارق التي تحفل بها الكتب الدينية. إننا نعيش واقعا فكريا مترديا، فالمدارس المدنية قاصرة على دراسة المعارف الدينية القديمة، والأدب العربي القديم، و كهوف المعارف، والأدب القديم، في المعاهد الدينية، قانعة بدراسة العالم الآخر. وكلها تقف في وجه التقدم. فأين دور هؤلاء في إصلاح هذا الفكر المتعفن، الذي تنغل فيه ديدان التقاليد، وإصلاح هذا الجهل لهؤلاء الرجعيين، الذين يعارضون العلم والحضارة، وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات.
إن القيم الرجعية الكامنة في التقاليد، والعادات، والغيبيات، هي التي تخدر حواسنا عن واقعنا المر، فلا نرى أية هاوية تنحدر إليها أقدامنا المغلولة بقيود الغيبيات، والضوابط الاجتماعية. فلا بد من تبصير الفئات المطحونة في أسفل السلم الاجتماعي، بحقها في الحياة، بشرط أن تتحرر من العبودية الأولى، عبودية الوهم والخرافة، وسوف تتحرر عندئذ من العبودية الثانية، عبودية الاستغلال الطبقي.
وأهم من كل ذلك ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي للفئات المسحوقة، دون أن تخلع عن نفسها ثياب الدين مرة واحدة. إن كل ما فعله هؤلاء، بناء حضارة تتهالك أعمدتها على أسس واهية، من القيم، والتقاليد، والعادات، يغذوها أهل الدين بسموم الخرافات والأساطير، وكان الدين أداة من أدوات الاضطهاد. إن روابط العلماء جميعها، لا تغفر ما فعله الغزالي نفسه، حين وصف كل من فهم فلسفة أرسطو" يجب تكفيره" ولا تغفر ما فعله الآخرون بابن رشد في الأندلس، والسهروري في حلب، وابن حزم بعد أن اخذ عليه بعض الفقهاء ما يقوله في حرية الحب، والمرأة، والحياة.
إن هذا الفهم الجديد لمعنى العلم، هو ما نسميه المنهج العلمي والعقلية العلمية. والعقلية العلمية، هي بصيرة واعية مدركة، نستضيء بها في رؤية الحياة، والكون، والإنسان، والمجتمع. هي عقلية تؤمن بالواقع الحي المتحرك، وأنه – أي الواقع – قابل للفهم والإدراك. وهي عقليه نقدية لا تقديرية، وهي عقلية تقدمية مستقبلية، تنظر إلى الماضي بعين النقد والتشريع. إن أحسن العمارات في بلادنا، هو ما بني على الطراز القديم، وإن كرامتنا لتأبى أن تكون بلادنا متحفاً للسياحيين، إذا أرادوا أن يدرسوا ما لنا من فنون، رجعوا إلى الماضي – كأن الموتى هم الأحياء، والأحياء هم الموتى. فلماذا كل هذه العناية المفرطة بالأكفان؟ إنه لا بد أن نشهد ثورة عارمة ضد القيم المتخلفة. سواء كانت كامنة في التقاليد، أو الغيبيات، أو القيم القديمة. إنني ضد أن نجعل من بلادنا متحفاً للسياح، يستيقظ فيه الأموات، ويموت فيه الأحياء. فلا بد أن نلتفت إلى حاضرنا وإلى مستقبلنا. ولا بد أن ندرك بأن العالم يسعى إلى ثقافة عالمية، ولغة عالمية، وديانة بشرية عالمية، وحكومة عالمية. فينبغي أن ندرس العلوم، وأن نتشبع بالعقلية العلمية. إن الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن الحادي والعشرين، ولو كان عبقرياً. إن العلم ينبغي أن يحل محل الكهانة والدين، في العالم القديم. أما الأدب والشعر، فهما ثقافة غيبية زراعية، لسنا بحاجة إليهما. إن سقراط العظيم، وهو شهيد العقل الأول، رفض قبل نحو من ألفين وأربعمئة سنة، قبول الشعراء، والأدباء في الدولة. ومن بعده جاء أفلاطون، وقرر أن الشعر، والأدب، لا يمكنان من تأسيس دولة، تعتمد على المفاهيم العقلانية، إذ أن هذه المعارف، لا تلتقي في شيء مع العقل.
وقد ظل المعارف الدينية المنقولة عن السلف، والأدب العربي بكل أشكاله وأنواعه، تدفعنا في اتجاه الأوهام والأكاذيب الاجتماعية ،وتطوف بنا في عالم لا علاقة له إطلاقا بالعقل أو الفكر أو الثقافة، إن لم تكن سببا في هدمها، فهي تدفع الإنسان إلى الغوص في الأحاسيس السخيفة، وهي يتعارض مع الحياة ، وتفرغها من محتواها الحقيقي، لتحولها بعد ذلك إلى مشهد سخيف. وباختصار، فان مستهلك معارف النقل، ومستهلك الشعر، ومستهلك الأدب العربي القديم ، فارغ وتائه، وبعيد عن ذاته وعن المجتمع، وعاجز عن الفعل ، وهو رمز للبؤس والحرمان. فيجب إخضاع الأدب للعقل، ودفع القارئ إلى التفكير والتأمل، ويجب إخضاع وسائل الترفيه، في الشعر، والمسرح، والقصة، والرواية، لحركة الفكر، حتى ولو كانت هذه الحركة، خفيفة وبطيئة.
وقصارى القول، أن الأدب العربي القديم، أدب تافه، كان يؤلفه الكتاب والشعراء لأجل الخلفاء والأمراء والفقهاء، لأن هؤلاء كانوا" الدولة". وكان أدب الخلفاء، والأمراء، نوادر، وقصصا، وأشعارا، تسلي وتذهب بالسأم، أي سأم البطالة، بطالة المترفين. وكان أدب الخلفاء تواريخ تؤيد دولتهم، وتثبت حقوقهم في تبوء الحكم. وكان أدب الفقهاء شروحا وتعقيبات على الدين والمذاهب . ثم ظهر أدب يكاد يكون شعبيا، في قصص الرحلات. وظهر أدب الجنس، والمتع الحسية، في كتاب ألف ليلة وليلة، لكن الفكر كان مغيبا، والإنسانية كانت مغيبة، والعلم كان مغيبا.
ولو أننا أولينا العلم، ما أوليناه للدين، وللغة والأدب، من عناية واهتمام، وسخاء في دفع الأموال، لكنا في مصاف الدول المتطورة. ولكن خدعتنا الألقاب، وأثارتنا حماسة الناس، في الإقبال على الكتب الإنشائية، في الدين، واللغة، والشعر، وأخبار السلف الصالح، ومعارك القبائل،وأمراء الجيش، وصحيح الأنساب، وأخبار النساء، حتى عم الجمهور التبلد، وأصابته الهستيريا، والكل يكتب، ويؤلف، ويحصل على درجة الماجستير والدكتوراة، في تاريخ العرب وأمجادهم، مما جعل الناس يعيشون في عزلة عن العالم المتحضر، كأنهم في برج عاجي، غفلوا عن التطور البشري، ونحوا سبلا قديمة، تغمض بصائر الناس عن حياتهم وواقعهم.
1 comments:
صدق الله وأخطأ صالح خريسات .. الله يقول (ولكن أكثرهم لايعلمون ، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) وصف الله علوم الدنيا دون عقيدة ودين بأنها جهل .. وسمى الله المتخصصين في الدين علماء (إنما يخشى الله من عباده العلماء) لن تنفعنا حضارتنا المادية مالم تستند على أعظم أساس .. العقيدة والمبادئ والأخلاق.
إرسال تعليق