التاريخ ليس هو تاريخ الملوك والأمراء، وإنما هو قصة الشعوب بكل مستوياتها، قصة الفقراء والمساكين، وقصة الضعفاء والمتروكين، وقصة العمال، والجند، والحراثين. فهؤلاء هم صناع الحياة، يصنعون أشياء كثيرة، يمتلكها الآخرون، ولكن التاريخ العربي والإسلامي لم يحفل بذكرهم، ولم يذكر لنا كيف عاشوا؟ وكيف نهضوا وقاوموا قسوة الحياة وشظف العيش؟ وكيف بنوا المدن وشيد الأسوار؟ وكيف أصلحوا الأرض واستنبتوها، ووفروا أسباب الحياة؟
فالتاريخ هو قصة الإنسان بكاملها، في مسعاه من أجل تحقيق الانتصار، وفي الأمور التي نجح فيها أو خاب، والقوانين التي سنها، والحروب التي دخل فيها، والأديان التي أنتجها أو اعتنقها، وما وصل إليه من رقي العلوم، والآداب، والفنون، والاختراعات، والاكتشافات. وبهذه الطريقة فقط، أصبح العلماء، وقادة الفكر، والمخترعون، والمكتشفون، وزعماء الشعوب، هم من رجال التاريخ الأولون، وإن كانت الحروب وتفاصيل معاركها، وأعمال الملوك وحياتهم الخاصة، تحتل المكان الأول.
إننا حين نطالب بحرية التفكير، لا نستهدف إيجاد مفكرين أحرار، بقدر ما نريد شعبا حر الفكر. فحرية الفكر تتضمن تلقائيا حرية التعبير. والدولة لا تستطيع أن تتعرف على رغبات رعاياها، إلا بواسطة هذه الحرية، التي جرى قمعها في كل العصور السالفة.
لكن، هل تنحصر المشكلة في الدولة نفسها، وفي القوانين التي تضعها؟ إن المشكلة في الفكر الجاهز، الذي ورثناه عن الآباء والأجداد، ومنحناه صفة القداسة، فلا نكاد نغير فيه شيئا، أو نطوره. إنه لا شك، يحتاج إلى تصحيح، فليس من المعقول أن يستمر الخطأ في كل الأجيال. ومن الخطأ الجسيم أن ينحصر مفهومنا للفكر والأدب، في تأليف القصص، وكتابة القصائد، كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء، والتصدق عليهم. وإنما يجب أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية، من موقف الشعب نفسه، أي من الموقف الإنساني، وليس من موقف الأثرياء، فلا نطلب التصدق، وإنما نكافح للعدل والمساواة.
إن أدبنا العربي، وفكرنا الذي ورثناه، وكل مصادر معرفتنا، هو أدب الخلفاء وفكرهم، وهو في مجمله تواريخ تؤيد دولتهم، وتثبت حقوقهم في تبوء الحكم، فكان أدب الفقهاء، فيما أرى، شروحا وتعقيبات، على الدين والمذاهب، أسأت للتاريخ ومزقت وحدة الأمة، وعمقت الخلافات.
وقد ساهم الأدب العربي القديم، في زيادة في حجم الكارثة، التي ألغت تاريخ الشعوب العربية. فهو أدب كان يؤلفه الكتاب والشعراء، لأجل الخلفاء، والأمراء، والفقهاء، لأن جميع هؤلاء كانوا الدولة، ولم يكن للشعب وجود في أذهان الكتاب . وكان أدب الخلفاء والأمراء، نوادر، وقصصا وأشعارا، تسلي وتذهب بالسام، أي سأم البطالة، بطالة المترفين. وليس فيه علم يؤخذ، أو يفيد.
وكما وقع للأدب والفكر، من خلط وتزوير، وقع للتاريخ أيضا. فتاريخنا العربي والإسلامي، هو تاريخ الجواري، والغواني، والقيان. وهو تاريخ الطرب، والسمر، العشق، والتمتع، والتلذذ، ولهو المجان والفساق، ولهو القضاة ورجال الدين. وكانت قصور الخلفاء مراكز ممتازة للهو. فيها الغناء والترف، وفيها النساء والغلمان، وفيها أطيب الشراب وأهنأ المآكل. أما الشعب فلا ذكر له.
إنني أشك، في أن كلمة شعب، ذكرت في أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم، وهذه الأجزاء العشرون، أو أكثر، من الأغاني، هي قصص السادة، ملوكا، وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم، من رجال الدين، والحرب، والسياسة، ولهذا السبب، فإن الأدب العربي كان ملوكيا، يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها.
ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني، عن القصور، والخمور، والمغنيات، والموائد المطهمة، والفروسية الحربية. أما الشعب فلا وجود له عنده. بل إن في كتاب الأغاني، شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يدعى علي بن احمد، حاول أن يحرر العبيد، ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن المؤلف، الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية، والروح الديمقراطية، كان يصفه بكلمات الخبيث، الفاسق، واللعين . هذا الرجل هتف به الشرف، فحمي قلبه، وارتفع روحه، وصلى، وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويفحص عن أسنانه، وتدس الأيدي بين أفخاذه، ويجر، ثم يضربه البائع بالعصا، فيباع، ويسلم سلعة للمشتري. رأى علي بن أحمد، هذا الهوان، فانتصر لهم، وقال هذا لن يكون ! ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي، يريد تغيير المجتمع، ولكن الخليفة العربي، هزمه بجيوش أجنبية . فهذا الرجل الرائد للحرية، لم يجد من أديب الأغاني، سوى أنه خبيث فاسق ولعين.
فالتاريخ هو قصة الإنسان بكاملها، في مسعاه من أجل تحقيق الانتصار، وفي الأمور التي نجح فيها أو خاب، والقوانين التي سنها، والحروب التي دخل فيها، والأديان التي أنتجها أو اعتنقها، وما وصل إليه من رقي العلوم، والآداب، والفنون، والاختراعات، والاكتشافات. وبهذه الطريقة فقط، أصبح العلماء، وقادة الفكر، والمخترعون، والمكتشفون، وزعماء الشعوب، هم من رجال التاريخ الأولون، وإن كانت الحروب وتفاصيل معاركها، وأعمال الملوك وحياتهم الخاصة، تحتل المكان الأول.
إننا حين نطالب بحرية التفكير، لا نستهدف إيجاد مفكرين أحرار، بقدر ما نريد شعبا حر الفكر. فحرية الفكر تتضمن تلقائيا حرية التعبير. والدولة لا تستطيع أن تتعرف على رغبات رعاياها، إلا بواسطة هذه الحرية، التي جرى قمعها في كل العصور السالفة.
لكن، هل تنحصر المشكلة في الدولة نفسها، وفي القوانين التي تضعها؟ إن المشكلة في الفكر الجاهز، الذي ورثناه عن الآباء والأجداد، ومنحناه صفة القداسة، فلا نكاد نغير فيه شيئا، أو نطوره. إنه لا شك، يحتاج إلى تصحيح، فليس من المعقول أن يستمر الخطأ في كل الأجيال. ومن الخطأ الجسيم أن ينحصر مفهومنا للفكر والأدب، في تأليف القصص، وكتابة القصائد، كي نبعث في الأثرياء العطف على الفقراء، والتصدق عليهم. وإنما يجب أن ننظر بالعين الفنية للمشكلات الإنسانية والاجتماعية، من موقف الشعب نفسه، أي من الموقف الإنساني، وليس من موقف الأثرياء، فلا نطلب التصدق، وإنما نكافح للعدل والمساواة.
إن أدبنا العربي، وفكرنا الذي ورثناه، وكل مصادر معرفتنا، هو أدب الخلفاء وفكرهم، وهو في مجمله تواريخ تؤيد دولتهم، وتثبت حقوقهم في تبوء الحكم، فكان أدب الفقهاء، فيما أرى، شروحا وتعقيبات، على الدين والمذاهب، أسأت للتاريخ ومزقت وحدة الأمة، وعمقت الخلافات.
وقد ساهم الأدب العربي القديم، في زيادة في حجم الكارثة، التي ألغت تاريخ الشعوب العربية. فهو أدب كان يؤلفه الكتاب والشعراء، لأجل الخلفاء، والأمراء، والفقهاء، لأن جميع هؤلاء كانوا الدولة، ولم يكن للشعب وجود في أذهان الكتاب . وكان أدب الخلفاء والأمراء، نوادر، وقصصا وأشعارا، تسلي وتذهب بالسام، أي سأم البطالة، بطالة المترفين. وليس فيه علم يؤخذ، أو يفيد.
وكما وقع للأدب والفكر، من خلط وتزوير، وقع للتاريخ أيضا. فتاريخنا العربي والإسلامي، هو تاريخ الجواري، والغواني، والقيان. وهو تاريخ الطرب، والسمر، العشق، والتمتع، والتلذذ، ولهو المجان والفساق، ولهو القضاة ورجال الدين. وكانت قصور الخلفاء مراكز ممتازة للهو. فيها الغناء والترف، وفيها النساء والغلمان، وفيها أطيب الشراب وأهنأ المآكل. أما الشعب فلا ذكر له.
إنني أشك، في أن كلمة شعب، ذكرت في أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم، وهذه الأجزاء العشرون، أو أكثر، من الأغاني، هي قصص السادة، ملوكا، وأمراء، ومن كان يرتفع إلى مستواهم، من رجال الدين، والحرب، والسياسة، ولهذا السبب، فإن الأدب العربي كان ملوكيا، يحافظ على التقاليد، ويؤيد مذهب الدولة، ويكره الثورة، بل لا يعرفها.
ولذلك يحدثنا مؤلف الأغاني، عن القصور، والخمور، والمغنيات، والموائد المطهمة، والفروسية الحربية. أما الشعب فلا وجود له عنده. بل إن في كتاب الأغاني، شخصية واحدة، شخصية عظيم من عظماء العرب، يدعى علي بن احمد، حاول أن يحرر العبيد، ويرفعهم إلى مقام البشر، ولكن المؤلف، الذي كان يجهل الأهداف الإنسانية، والروح الديمقراطية، كان يصفه بكلمات الخبيث، الفاسق، واللعين . هذا الرجل هتف به الشرف، فحمي قلبه، وارتفع روحه، وصلى، وركع للإنسانية، فوجد الإنسان يباع بالدرهم والدينار، ويوضع في السوق، ويفحص عن أسنانه، وتدس الأيدي بين أفخاذه، ويجر، ثم يضربه البائع بالعصا، فيباع، ويسلم سلعة للمشتري. رأى علي بن أحمد، هذا الهوان، فانتصر لهم، وقال هذا لن يكون ! ثم جمع العبيد في البصرة، وثار على الخليفة العباسي، يريد تغيير المجتمع، ولكن الخليفة العربي، هزمه بجيوش أجنبية . فهذا الرجل الرائد للحرية، لم يجد من أديب الأغاني، سوى أنه خبيث فاسق ولعين.
0 comments:
إرسال تعليق