المرأة التي سحقت شيوعيي الهند/ د. عبدالله المدني
في الإنتخابات التشريعية الإقليمية التي جرت في الهند في منتصف مايو الجاري، حدثت المفاجأة التي لم تكن متوقعة. فقد تمكن إئتلاف اليسار – الوسط الحاكم في نيودلهي بقيادة حزب المؤتمر العريق (تأسس قبل 125 عاما) من إلحاق هزيمة موجعة بالحزب الشيوعي الماركسي الهندي (سي بي إم) الحاكم في ولاية "البنغال الغربية" (حيث يبلغ عدد من يحق لهم الإقتراع نحو 140 مليون مقترع)، واضعا بذلك حدا لحكم الشيوعيين لهذه الولاية الكبيرة والمستمر من دون إنقطاع منذ 34 عاما، أما الشخصية التي لعبت دورا محوريا في هذا الإنتصار الذي حوّل "سي بي إم" إلى كيان سياسي منهار، خصوصا مع سقوط زعيمه وكبار قادته في دوائرهم الإنتخابية، فهي السيدة "ماماتا بنيرجي" (56 عاما) زعيمة حزب "المؤتمر/ترينامول" الذي لم يمض على إنشائه سوى 13 عاما مقابل 71 عاما على ظهور الحزب الشيوعي الهندي، و47 عاما على إنشقاق "سي بي إم" عن الأخير.
وبطبيعة الحال توقف المراقبون طويلا أمام هذا الحدث لأسباب كثيرة: فهو أولا أعطى الحكومة المركزية في نيودلهي بقيادة رئيس الوزراء "مانموهان سينغ" (78 عاما) فرصة لإلتقاط الأنفاس من بعد سلسلة من فضائح الفساد التي تورط فيها بعض وزرائه، وكادت أن تحجب الثقة عنها في البرلمان. وهو ثانيا أعطى المرأة الهندية ثقة مضاعفة بالنفس من بعد الثقة التي تولدت لديهن من بروز "صونيا غاندي" كزعيمة لأكبر وأعرق أحزاب البلاد، ومن وصول السيدة "براتيبا باتيل" إلى منصب رئاسة الجمهورية، و من وجود سيدتين أخريين كرئيستين لحكومتي ولايتي "تاميل نادو" و "أوتار برايش" ناهيك عن أن الحدث برهن للعالم أن نساء الهند لم يعدن فقط مجرد ربات بيوت يطبخن "الكاري" و"الدال" ويحممن أطفالهن وينتظرن أزواجهن، بل صرن رقما صعبا في المعادلة السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وهو ثالثا عبــّد الطريق أمام حكومة "مانموهان سينع" للمضي قدما، ومن دون إعتراضات برلمانية، في تنفيذ إصلاحات إقتصادية طال إنتظارها مثل رفع أسعار الوقود، و قانون مصادرة الأراضي، ومنح المزيد من الحوافز للمستثمرين الأجانب، خصوصا مع حصول الشيوعيين على 72 مقعدا فقط من أصل 294 في برلمان ولاية "البنغال الغربية"، ناهيك عن أن هذا الإنتصار المدوي للإئتلاف الحاكم في نيودلهي جاء متلازما مع إنتصارات أخرى له ضد الأحزاب الشيوعية في ولايات آسام وكيرالا وبوندتشيري. وهو رابعا برهن مجددا على مدى متانة الديمقراطية الهندية وتقبل الجماهير الهندية لنتائج المعارك الإنتخابية برحابة صدر، بدليل أن مناصري الشيوعيين الماركسيين – وهم كثر، ومتنفذون – لم يعترضوا على خروج حزبهم من الحكم عبر اللجؤ إلى العنف والتخريب على نحو ما يحدث في دول أخرى في العالم الثالث. وهو رابعا برهن على أن أي فرد – بغض النظر إلى جنسه أو عرقه أو دينه – بإمكانه أن يصل إلى أعلى المناصب. فهاهي إمرأة من عامة الشعب، ترتدي الساري التقليدي الرخيص، وتنتعل خفا من البلاستيك، تتمكن بالإرادة الصلبة والعزيمة القوية من إزاحة شخصيات نافذة ذات جذور إقطاعية مترسخة.
ولعل الجزئية الأخيرة بحاجة إلى المزيد من تسليط الضؤ. فبنيرجي التي يناديها أنصار بإسم "ديدي" أو "الأخت الكبيرة" بدأت حياتها كإبنة لرجل معدم من الطبقة العاملة الكادحة. وعاشت في بيت خشبي متواضع على ضفاف أحد الأنهار المارة بمدينة "كلكتا"، وهو نفس البيت الذي لا تزال تعيش فيه إلى اليوم مع أمها، رافضة الزواج والإنجاب. وحينما كانت في سن الثالثة عشرة توفي والدها، فأصبحت المسئولة عن أسرتها المكونة من أمها وخمسة أطفال، الأمر الذي أثقل كاهلها و دفعها ألى النزول إلى سوق العمل في سن مبكرة، بل جعلها تعيش أوضاعا معيشية صعبة إلى الحد الذي كانت معه تتناوب النوم مع أخواتها وإخوانها فوق وتحت سرير واحد. غير أن سيرتها الذاتية تقول أنها تمكنت بإرادتها الصلبة وسعيها الدائب من التغلب على كل التحديات، بل ونيل عدد من الشهادات العالية في حقول مختلفة. فمن حصولها على ليسانس التاريخ من جامعة "جوغامافا ديفي" بجنوب كلكلتا إلى نيلها درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي من جامعة كلكتا، فحصولها على ليسانس التربية من جامعة "شيري شيكشافاتان" الذي أتبعته بحصولها على إجازة الحقوق من جامعة "جوزيف تشودري" في كلكتا.
وبهذه الحصيلة العلمية المتنوعة، معطوفة على سيرة حميدة تظللها صور الكفاح والصدق والأمانة والإستقامة، والخطاب المتسق مع علمانية النظام الهندي، خاضت "بنيرجي" العمل السياسي لأول مرة في السبيعينات المبكرة من خلال الإنخراط في حزب المؤتمر الذي برزت من خلاله كنجمة سياسية، وسكرتيرة عامه للحزب بولاية بنغال الغربية ما بين عامي 1976 و 1980 ، قبل أن تفوز في إنتخابات عام 1984 التشريعية وتدخل البرلمان كأصغر النواب سناً.
شغلت "بنيرجي" أيضا منصب الأمين العام لمؤتمر عموم شباب الهند حتى عام 1989 ، لتعود بعد ذلك إلى خوض الإنتخابات العامة من دائرة جنوب كلكتا بدءا من عام 1991، محققة الفوز في إنتخابات الأعوام 1996،1998، 1999،2004 ، 2009 . في جميع هذه الإستحقاقات رصد عنها أنها لم تستخدم قط المال أو الوعود الكاذبة أو اللعب على العواطف الدينية والثقافية والإثنية من أجل تحقيق طموحاتها.
في عام 1991 عــُينت "بنيرجي" كوزيرة إتحادية للدولة للتنمية والموارد البشرية وشئون الرياضة والشباب والمرأة والطفل، لكن شئون الرياضة والشباب سحبت منها في عام 1993 بعدما خرجت بنفسها لتتظاهر مع الرياضيين المطالبين بتحسين أوضاعهم وأوضاع الرياضة عموما. أما في عام 1996 فقد زعمت أن حزب المؤتمر تداهن الشيوعيين الحاكمين في ولاية البنغال الغربية وتتستر على خروقاتهم طمعا في تمرير بعض القوانين في البرلمان الإتحادي من دون إعتراض. ويـُقال أن هذه المزاعم كانت وراء إنفصالها عن حزب المؤتمر، وتحمسها لتأسيس حزبها الخاص في عام 1997 تحت إسم "حزب المؤتمر/ترينامول لعموم الهند"، ليصبح هذا الحزب سريعا قوة المعارضة الرئيسية للشيوعيين في ولاية البنغال الغربية.
وربما لهذا السبب إختارها التحالف الديمقراطي القومي بقيادة حزب "بهاراتيا جاناتا" في عام 1999 لشغل حقيبة السكك الحديدية، وهي الحقيبة الوزارية التي أثبتت "بنيرجي" من خلالها أنها صاحبة كفاءة ونزاهة. أما النزاهة فقد تجسدت من خلال تقديمها لميزانية خلت من الإنفاق على مشاريع للسكك الحديدية داخل ولايتها كيلا يقال أنها تفضل الإنفاق على مسقط رأسها من أجل دواع إنتخابية، مقابل تركيز الإنفاق على مد خطوط حديدية ما بين المدن الرئيسية وبلدات المنتجعات الجبلية في الشمال من أجل تشجيع السياحة، وبالتالي تعزيز الدخل القومي.
وأخيرا، يمكن القول أن "بنيرجي"، وكما كان حليفها (حزب المؤتمر) يتوقع، بدأت فور أدائها للقسم كرئيسة لحكومة ولاية البنغال الغربية، بتحرك سريع من أجل ترغيب كبريات الشركات الوطنية الهندية مثل "تاتا" للصناعات الثقيلة، وشركتي "ويبرو" و "إنفوسيس" لتكنولوجيا المعلومات بالإستثمار في ولايتها بعد إنتفاء العراقيل التي كان الشيوعيون يضعونها أمام كل مستثمر محلي أو أجنبي تحت شعارات يسارية وإشتراكية.
د. عبدالله المدني
*كاتب وباحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: مايو 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق