ما يميز الإنتخابات التشريعية السورية عن غيرها في كثير من دول العالم بأنها لا تجلب معها أية مفاجآت, لأن نتائجها معروفة سلفا, والجميع يعلم بأن ما يحصل من نشاطات ومناظرات وحملات إنتخابية وجدال ومشاكسات كلها تنضوي تحت عنوان "المسرحية الإنتخابية". أسماء أعضاء المجلس "التشريعي" الجديد هي معروفة للسلطة ولكثير من المهتمين والمراقبين وذلك قبل أن تبدأ عملية الإنتخابات. هذا يعني بأن الإنتخابات التشريعية في سورية حقا تحصل بشكل "توافقي" لأن السلطة عودت الشعب ومنذ خمسين عاما على أن لا يتجرأ أحدا على "إقتحام" عتبة مجلس الشعب إن لم توافق عليه "القيادة" مسبقا وهذا ما شاهدناه اليوم أثناء إنعقاد الجلسة الإفتتاحية لهذا المجلس.
ما يحصل في سورية من إنتخابات هو مسرحية جديدة-قديمة ومكررة, يعرفها الشعب وإعتاد عليها وهي هزلية ورديئة ومن كثرة ردائتها تظل الضحكة في الحلق محبوسة والبسمة تخاف من الظهور على الشفاه وأصبح المواطن السوري يستبدلها بدموع قد حفرت أخاديدا على مقلتيه. منذ زمن بعيد فقد المواطن السوري ضحكته الصافية النابعة من القلب وإستبدلها بأخرى صفراء أو ببسمة خجولة باهتة, بالرغم من أنه يبحث عن الفرحة ولو للحظات قليلة لأنه أصبح بأمس الحاجة إليها لكي ينفس عن همه وكربه بسبب ما يحصل في بلده من مآسي وويلات ومهازل. المواطن السوري كان يخاف من أن تدوم هذه "المسرحية الإنتخابية" طويلا مثل ما حصل في الإنتخابات العراقية الأخيرة والتي تم الإعلان عن نتائجها بعد مرور تسعة أشهر وكان السبب هو بأن في العراق الشقيق كذلك يوجد إنتخابات "توافقية".
الإنتخابات التشريعية السورية مبنية على قاعدة غير صحيحة وهي الدستور الذي تم التصويت عليه قبل أسابيع قليلة (26.02.2012) والذي تم تفصيله على مقاس السلطة الحاكمة وهو مليء بالثغرات والفجوات الكبيرة. منذ عقود طويلة وإلى يومنا هذا لا زالت ذات السلطة الحاكمة في سورية وحدها التي تخطط وتقرر وتنفذ وتمنع وتسمح وتوافق وترفض وتغير وتبدل كما تشاء.
تمت الإنتخابات الأخيرة تحت ظروف في غاية من الصعوبة. فوضع البلاد الآن يشبه بالحرب الأهلية. مع غروب شمس كل يوم يسقط في سورية العشرات من الشهداء ومدن البلاد مقطعة الأوصال والتنقل بينها محفوف بالمخاطر الكبيرة وعدم تمكن عدد كبير من مواطنيها من المشاركة فيها بسبب الأوضاع الراهنة وقسم كبير منهم أصبح من عداد المهجرين أوالنازحين أو المعتقلين وإضافة إلى ذلك مقاطعة بعض الأحزاب والقوميات السورية لهذه الإنتخابات وإنسحاب بعض الشخصيات منها وعدم وجود مراقبة دولية على الإنتخابات. هذه العوامل مجتمعة ترسم لنا الصورة الحقيقية للوضع الراهن في سورية وهي مؤشر خطير على عدم جريان العملية الإنتخابية بشكل نزيه. إضافة إلى ذلك هنالك عامل هام جدا وهو عدم جدية السلطة في العملية الإصلاحية التي تطبل وتزمر من أجل ترويجها ليلا نهارا, لأنها تريد بهذا أن تُلَبّسْ نظامها الديكتاتوري, والذي بواسطته تحكم البلاد منذ عشرات السنين, ثوبا ديمقراطيا له شكل إصلاحي وبدون أن تغير أي شيء في طريقة حكمها. وهي تلجأ إلى التلاعب والإلتفاف على الإنتخابات لكي تظهر للعالم بأن ما يحصل في سورية هو شيء طبيعي وأن الناخب هو صاحب القرار النهائي. كثير من البعثيين والمقربين من السلطة تم دسهم بين مرشحين قوائم أخرى غير بعثية. بهذه الطريقة وصل هؤلاء المندسون إلى سدة البرلمان تحت قوائم مختلفة وهكذا أدخلت السلطة جماعتها إلى مجلس الشعب وبنسبة كبيرة ربما تتجاوز ثلاثة أرباع أعضائه. على سبيل المثال أصدرت السلطة السورية قوائم إنتخابية مشتركة لمرشحين بعثيين ومستقلين في ثلاثة محافظات وهي حمص وإدلب وريف دمشق وكانت هذه القوائم كاملة ومغلقة وكل من كان إسمه على هذه القوائم تم إنتخابه كعضوا في مجلس الشعب وما حصل في المحافظات الأخرى ليس بعيدا عما حصل في هذه المحافظات الثلاثة والتي سكانها يعادل ثلث سكان سورية كاملة.
هذا التصرف من قبل السلطة في سورية هو دليل واضح بأن الفاسد لا يستطيع أن يصبح مصلحا بين عشية وضحاها مهما حاول لأن هذه السلطة ورجالاتها ترعرعت وكبرت على مدى عقود طويلة على ثقافة الفساد فأصبحت هي كذلك فاسدة ولا يمكنها أن تقوم بأي دور إصلاحي. وحتى لو أرادت أن تقوم بذلك فهي غير قادرة على هذه المهمة وأسهل لها بالف مرة من أن تخرج من الحنظل السكر أو أن تصنع العسل من البصل أو العمبر من الجزر.
المجتمع السوري يعلم بان هذه الإنتخابات ستنتج مجلسا مليء بالمصفقين والمتملقين وأغلبهم من مسيرين للمعاملات وطالبين للإستثناءات من الوزارات, أي يعني في النتيجة سيكون هنالك كالعادة مجلس منقوص السيادة وحتى في أكبر مهامه الأساسية وهي مهمة التشريع التي لرئيس البلاد صلاحيات تشريعية أكثر منه.
ربما حصل شيء من التغيير في شكل وطريقة الإنتخابات في سورية ولكن النتيجة لم تتغير وبقت كما كانت عليه سابقا وما حصل هو فقط عملية إستنساخ لمجالس الشعب السابقة ولكن بطريقة إخراج مسرحي مغايرة. حال مجلس الشعب هذا ستكون كحالة المجالس السابقة, لأنه في الحقيقة لم يتم تشكيله من أجل التشريع وسن القوانين بل من أجل تمرير كل ما يريده الحاكم ورجالاته من قرارات وأفكار إرتجالية.
الحال في سورية وصل إلى حد لا يطاق من الخطورة وأصبحت البلاد تمر بمحنة عصيبة للغاية ولا أحد يستطيع أن يتنبأ إلى إين ستصل بنا هذه الحالة في آخر المطاف لأن كل الإحتمالات واردة, من الحرب الأهلية والتي هي شبه دائرة الآن إلى حرب إقليمية ومن ثم إلى تقسيم البلاد وربما ستصل بنا هذه الحال إلى ظروف أشد مرارة وقسوة مما نستطيع أن نتصوره. السلطة الحاكمة تتحمل القسم الأعظم من المسؤولية إلى ما وصلت إليه البلاد لأنها لم تقتنع إلى يومنا هذا بأن التغيير أصبح لا بد منه وأن ما تقوم به من مناورات وتحايل وإستهتار بعقول الشعب السوري لا يمكن ان ينطلي على أحد وأن كل ألاعيبها وبهلوانياتها مكشوفة حتى على الأطفال الصغار.
سورية تحتاج إلى مرحلة إنتقالية لمدة عامين كما هو الحال الآن في اليمن, والتي خلالها يتم تشكيل لجنة دستورية مؤلفة من كل ألوان الطيف السياسي في البلاد ومن هذه اللجنة الدستورية تنبثق لجنة خاصة تضع قانونا للأحزاب وأخرى تضع قانونا للإنتخابات وبعدها يتم التصويت عليها جميعا. التكتلات السياسية والتنظيمات والأحزاب التي تتشكل خلال هذه المرحلة تكون قد نضجت وبرزت على الساحة بقوة وأصبح لديها خبرة وتجربة سياسية تستطيع من خلالها أن تخوض الإنتخابات التي ستتم بعد هذه المرحلة الإنتقالية. الشعب السوري تنقصه الخبرة السياسية لأنه كان محروم من كل أنواع النشاط السياسي الديمقراطي الحر لمدة عقود طويلة إلا ما توافق عليه السلطة الحاكمة.
كل ما يحصل الآن في سورية تحت مسمى "الخطوات الإصلاحية" ترفضه أغلبية المجتمع السوري لأنها تتم تحت هيمنة السلطة الحاكمة والتي هي الخصم والحكم بآن واحد وما قدمته هذه السلطة للشعب السوري من "إصلاحات" هو شيء مُفَصّلْ على مقاسها الخاص وأولها مجلس الشعب الذي تم إنتخابه قبل أيام قليلة وكذلك الدستور الذي تم الإستفتاء عليه مؤخرا.
الإنتخابات التشريعية التي حصلت في سورية هي مهزلة ومسرحية بائسة تدعو للشفقة على كل من ساهم بتنفيذها. لا أعلم هنا هل تحق التهنئة أم يحق العزاء للشعب السوري على هذه "الإنجازات العظيمة". في حقيقة الأمر ما حصل هو شيء مضحك جدا إلى حد أن الضحكة أصبحت تخجل على حالها وكاتب هذه الحروف لا زال يحاول أن يبتسم ولكن بدون جدوى.
تقف سورية الآن على بُعد أمتار قليلة من الهاوية وفرص إنقاذها تضمحل وبشكل متسارع. الوضع أصبح لا يحتمل كثيرا والمطلوب الآن من جميع الأطراف المتنازعة خطى شجاعة مليئة بروح التضحية والتسامح والتنازل والتوافق من أجل إنقاذ الوطن. إضافة إلى ذلك نأمل من كل الشعوب والحكومات المجاورة والصديقة للشعب السوري الوقوف إلى جانب هذا الشعب بصدق وإخلاص بعيدا عن المصالح الخاصة الضيقة وبعيدا عن عملية تصفية الحسابات مع دول أخرى على الأرض السورية. الجميع عليه أن يعلم بأن الكارثة الآتية لن يسلم أحدا منها لأن لهيب نارها ستصله أينما كان. فما علينا جميعا إلا أن لا نفوت هذه الفرصة الأخيرة لأن بعد ذلك لن يفيدنا لا التأسف ولا الندم. ولكن هيهات لمن يفتح قلبه وعقله ويسمع وآمل أن تكون هنالك حياة لمن ننادي.
نائب ألماني سابق من أصل سوري 24.05.2012
0 comments:
إرسال تعليق