الرجل الذي أزال عن وجه بورما السواد/ د. عبدالله المدني


في تاريخ الامم ثمة شخصيات قيادية تـُعزى إليها التحولات الكبيرة في مسار شعوبها نحو الأفضل بفضل رؤية ثاقبة، أو جرأة على تحدي الصعاب، أو نفس طويل في مقارعة الأعداء. من الأسماء التي لا بد أن يتوقف عندها قاريء التاريخ مليا ويتعلم منها الدروس والعبر، المهاتما غاندي في الهند، ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، ولي كوان يو في سنغافورة، ومهاتير محمد في ماليزيا، ومصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وغيرهم كثر. الآن يمكن إضافة إسم جديد إلى هؤلاء هو الجنرال المتقاعد "تين سين" (66 عاما) الذي تسلم السلطة في ميانمار (بورما) في عام 2011 خلفا لزميله المتعجرف ذي الملامح المتوحشة والقبضة القمعية الجنرال " تان شوي".
يعرف المتابعون للشأن البورمي أن "تين سين" كان ساعدا أيمن لـ "تان شوي"، ويعرفون أيضا أنه كان رئيسا للحكومة يوم أن قررت السلطة في عام 2007 قمع إنتفاضة الرهبان البوذيين بالقوة المفرطة، بل يعرفون فوق ذلك أنه كان شريكا في كل القرارات الجائرة التي إتخذها النظام العسكري ضد شعبه منذ قمعه لإنتفاضة عام 1988 الديمقراطية التي سقط فيها آلاف المدنيين، على إعتبار أنه كان عضوا منذ عام 1997 في ما عــُرف بـ "مجلس الدولة للسلام والتنمية"، وهو الإسم الرسمي للطغمة العسكرية الحاكمة الذي تحول الآن إلى حزب سياسي تحت إسم "حزب إتحاد التضامن من أجل السلام والتنمية". والجدير بالذكر في هذا السياق أن "تين سين" منذ تقاعده ومجموعة من زملائه العسكريين في عام 2010 ، ترأس هذا الحزب وخاض بإسمه إنتخابات برلمانية مثيرة للجدل، وخرج منها فائزا بنسبة 91 بالمئة من الأصوات.
لذا كان السؤال عن تحوله الفجائي إلى داعم للديمقراطية والمصالحة الوطنية، ومتخذ لقرارات جريئة بالإفراج عن زعيمة المعارضة، الفائزة بجائزة نوبل للسلام، وإبنة بطل الإستقلال السيدة "أونغ سان سوشي" مع السماح لها بإستعادة كامل حقوقها السياسية، سؤالا مشروعا وشاغلا للجميع ومثيرا لوجهات نظر متباينة في الداخل والخارج.
البعض رأى في تحول الرجل الذي صار يطلق عليه محليا "ميخائيل غورباشوف ميانمار" كناية عن دفع بلاده نحو التغيير على نسق ما فعله الزعيم السوفياتي/ الروسي السابق أمرا طبيعيا كونه كان على الدوام أقل زملائه العسكريين غلظة، وأكثرهم إنسانية وإعتدالا وإنفتاحا على المواطنين وإبتعادا عن شهوة السلطة ومغرياتها، ناهيك عن كونه قارئا نهما لأمهات الكتب، ومتابعا دقيقا لما يجري في العالم من تغيرات وحراك، وصاحب رؤية مستقلة.
البعض الآخر رأى في تحول هذا الزعيم النحيل ذو النظارات الطبية الأنيقة إتساقا مع مرحلة جديدة في تاريخ ميانمار هي مرحلة التخلي عن البزات العسكرية الكاكية ونياشينها لصالح البزات المدنية والملامح الناعمة، أملا في كسب قلوب الجماهير في الداخل، وقلوب الحكومات والمنظمات الأجنبية، وبالتالي الخروج من الحالة الخانقة التي وصل إليها الإقتصاد ومستويات المعيشة (وضعت الأمم المتحدة ميانمار في المرتبة 149 من أصل 185 كأسوأ البلدان لجهة مستويات المعيشة) ومعدلات البطالة في بلد لا ينقصه شيئا سوى الإصلاح والحريات والشفافية لينضـّم إلى ركب منظومة النمور الآسيوية الصاعدة كما قال المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ميانمار "فيجاي ناميبار"، حينما ذكــّر العالم بأن بورما بمساحتها الشاسعة التي تعادل مساحة إنجلترا وفرنسا، وعدد سكانها الذي يفوق 50.5 مليون نسمة، ومواردها الزراعية، وطبيعتها الساحرة، وطموح شعبها للعمل الخلاق، قادرة خلال فترة وجيزة على أن تصبح صنوا لجارتها تايلاند، خصوصا مع قرار طوكيو مؤخرا الإستثمار في تحديث البنى التحتية المهترئة في ميانمار، وإسقاط 3.7 مليار دولار من ديون الأخيرة المستحقة، وإعادة جدول الديون المتبقية، ناهيك عن قرار شركة "هوندا" لصناعة المركبات اليابانية إفتتاح مصانع للتجميع في ميانمار.
غير أن فريقا ثالثا راقب "تين سين" منذ تخرجه من أكاديمية الخدمات الدفاعية في عام 1968  وتدرجه في الرتب والوظائف العسكرية، وتابع تصريحاته ومقابلاته مع وسائل الإعلام، ونقب عن حياته الشخصية ومراحله العمرية منذ ولادته في قرية "كيونكو" الفقيرة النائية الواقعة في دلتا "إيراوادي"، له رأي آخر مفاده أن ما جعل "تين سين" يقود حركة التغيير والإنقاذ في بلاده هو خصائص ذاتية مثل عواطفه الجياشة تجاه المعدمين، وتواضعه الجم، وما تعلمه من ثقافة اللاعنف، وحب الخير، والنأي بالنفس عن الفساد والملذات وإستغلال السلطة التي لقنها إياه والده "يو موانغ" الذي لم يكن كغيره من ملاك الأرض، وإنما كان راهبا بوذيا مثقفا ومحبوبا، ويكسب قوته من صناعة السلع الخيزرانية ونقل الأمتعة بواسطة المراكب النهرية.
ويورد هذا الفريق عدة شواهد كدليل على صحة نظريته منها أن القرية التي تربى فيها "تين سين" ظلت مهملة ودون طرق معبدة أو مياه شرب نظيفة، رغم وجود إبنها في السلطة وقدرته على إستغلال موقعه الرسمي لتعديل أوضاعها مثلما كان يفعل زملاؤه تجاه مساقط رؤوسهم. وهذا دليل بطبيعة الحال على أمانته وكراهيته لإستغلال النفوذ الوظيفي. ومنها أيضا تفقده لمواطني قريته وتواصله معهم، على العكس من زملائه الذين حبسوا أنفسهم في قصورهم في العاصمة "يانغون"، وفي هذا دليل على تواضعه وحبه للناس. ومنها أيضا صرامته مع زوجته وإبنته للتخلي عن أي مظاهر من مظاهر التباهي الإجتماعية والتي غرقت فيها عائلات زملائه العسكريين إلى الدرجة التي جلبت لهم نقمة مضاعفة من لدن البورميين الفقراء.
أما الفريق الرابع فيعزي دوافع الرؤية الإصلاحية عند الرجل تحديدا إلى إنفطار قلبه وحزنه على مارآه بنفسه، أثناء جولة له بمروحية عسكرية، من دمار وضحايا وجثث طافحة فوق مياه الأنهار جراء إعصار "نرجس" الذي إجتاح أرياف ميانمار وتسبب في مقتل 13 ألف مواطن في عام 2008. ويضيف هذا الفريق قائلا أن "تين سين" شعر وقتها بالعار، خصوصا وأن حكومته لم تفعل شيئا إزاء الكارثة، بل ورفضت قبول المساعدات الأجنبية بحجة السيادة والكبرياء الكاذبة، فقرر لحظتئذ أنه لا بد من التغيير رحمة بالبلاد والعباد من قبضة جنرالات المؤسسة العسكرية الذين أمسكوا بخناق بورما منذ إنقلاب الجنرال "ني وين" المشؤوم في عام 1962 ضد الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطيا بقيادة "أونو" الذي برز في مؤتمر باندونغ في عام 1955 كأحد أقطاب حركة عدم الإنحياز إلى جانب نهرو وعبدالناصر وسوكارنو ونكروما ورئيس وزراء الصين وقتذاك "شو إن لاي".
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: إبريل 2012
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: