إتفاقية السلام في الفلبين.. هل ستصمد هذه المرة؟/ د.عبدالله المدني

يتخوف الكثيرون من حدوث إنتكاسة لإتفاقية السلام التي أبرمتها حكومة مانيلا مؤخرا مع "جبهة تحرير مورو الإسلامية" برعاية ماليزية ودعم من شركاء الفلبين في منظومة آسيان. ولمخاوف هؤلاء أسبابها المنطقية.
فهذه الإتفاقية التي جاءت كنتيجة لجهود 15 عاما من المفاوضات المضنية سبقتها إتفاقيات مماثلة كثيرة لم يكتب لها النجاح والصمود منذ زمن الرئيس الراحل "فرديناند ماركوس"، وذلك بسبب غياب الثقة ما بين طرفي النزاع، ناهيك عن الظاهرة المعروفة والمتكررة في مثل هذه الحالات وهي ولادة فئة راديكالية متشددة من رحم الحركة المقاتلة الأم، لتزايد على الأخيرة وتتهمها بالخيانة والإستسلام للخصم، وبيع القضية، وذلك من أجل تكوين فصيل ميليشاوي لمواصلة القتال وتخريب عملية السلام.
فمثلما حدث في السبعينات حينما إنشقت "جبهة تحرير مورو الإسلامية" بقيادة المتشدد "هاشم سلامات" على "جبهة تحرير مورو الوطنية" بزعامة الأستاذ الجامعي المعتدل "نور ميسواري" تحت ذريعة أن الأخير وافق على الحكم الذاتي للأقاليم الفلبينية الجنوبية ذات الغالبية المسلمة، بدلا من الأصرار على دولة مستقلة ذات سيادة، هناك ما يشير إلى وجود جماعات راديكالية لم تعجبها إتفاقية السلام الأخيرة، وصارت متأهبة ومصممة لتخريبها. من هذه الجماعات فئة منشقة على "مورو الإسلامية" تدعى " مقاتلو تحرير بانغسامورو الاسلاميون" بقيادة المتشدد "أميري أومبرا كاتو" (يعتقد البعض أنه يقود ميليشيات من ألف عنصر، بينما يقول البعض الآخر أنه منهك ومريض ولا يقوى حتى على السير) إضافة إلى من تبقى من مقاتلي حركة أبي سياف العنيفة المؤتمرة بأوامر تنظيم القاعدة في جنوب شرق آسيا. أما دليننا على صحة ما نقول فهو تنديد المتحدث الرسمي بإسم "مقاتلو تحرير بانغسامورو" المدعو "أبومصري ماما" بإتفاقية السلام ووصفه لها بالخيانة وتهديده بشن هجمات عسكرية ضد المنشآت العامة ومعسكرات الجيش الفلبيني في اقرب وقت.
والمعروف أن إتفاقية السلام الأخيرة التي وقعها زعيم "مورو الإسلامية" الحالي "مراد إبراهيم" والرئيس الفلبيني "بنينو أكينو الثالث" لم تلب المطلب الرئيس للمتمردين المسلمين في جنوب الفلبين وهو إنشاء دولة مستقلة لهم، وإكتفت بمنحهم حكما ذاتيا ضمن الكيان الفلبيني، أي إعتماد ما تم التوافق عليه في إتفاقية السلام لعام 1989، لكن مع بعض الإضافات مثل تمتع الحكومة المحلية بسلطات سياسية وتشريعية وقضائية أكبر وسيطرة أوسع على الموارد الطبيعية والمعدنية والنفطية مع السماح لها بتطبيق أحكام الشريعة على غير المسلمين.
الأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه في هذا السياق هو موافقة المتمردين على نزع سلاح ميليشياتهم المكونة من نحو 11 ألف عنصر مقابل إدماج من يريد في الشرطة الفلبينية، ومقابل تشكيل هيئة إنتقالية مكونة من 15 عضوا، تكون مهمتها صياغة تشريع جديد بحلول عام 2015 لتشكيل حكومة محلية إسلامية في "بانغسامورو" وهو الإسم الذي إختارته قبائل مورو لمنطقتها المفترض تمتعها بالحكم الذاتي. أما مساحة هذه المنطقة وشكلها فسوف يحددها إستفتاء شعبي لاحق، على الرغم من وجود مؤشرات على الأرض مفادها أن منطقة الحكم الذاتي لمسلمي "مندناو" سوف تكون مشابهة كثيرا لما أتفق عليه في إتفاقية العام 1989، وذلك بمعنى إشتمالها على أراضي مندناو، وماغوينداناو، ولاناو ديل سور، وسولو، وتاوي تاوي، مضافا إليها ست بلدات في لاناو ديل نورث، وست بلدات أخرى في شمال كوتاباتو، ومدن كوتاباتو وإيزابيل في جزيرة باسيلان. وهذا يعتبر،عند متابعي الشئون الفلبينية، أقل مما منحته حكومة الرئيسة السابقة "غلوريا ماكاباغال أرويو" لمسلمي الفلبين في إتفاقية عام 2008 والتي ضمنت لهم السيطرة على 700 مدينة وبلدة في مندناو، قبل أن تقضي المحكمة العليا بعدم دستورية الإتفاقية.
ويمكن القول أن كلا طرفي النزاع كانا بحاجة لمثل هذه الإتفاقية التاريخية. فالرئيس أكينو يريد أن يذكره التاريخ حينما تنتهي ولايته في عام 2016 ، أي في نفس العام الذي ستكتمل فيه تفاصيل الحكم الذاتي لمسلمي بلاده، ليس كرئيس سابق للفلبين، وإنما أيضا كصانع لسلام إستعصى تحقيقه على كل أسلافه، بمن فيهم والدته "كورازون أكينو" صاحبة إتفاقية 2008 . إلى ذلك يطمح أكينو أن توفر إتفاقية السلام من الآن وحتى موعد رحيله عن قصر "ملاقانيان" الرئاسي فرصة لمندناو خصوصا وللفلبين عموما للتغلب على الكثير من مشاكل البلاد الإقتصادية المزمنة، وذلك بفضل ما يختفي في باطن أراضي مندناو من ثروات معدنية (قدرت المصادر الإمريكية قيمتها بأكثر من تريلون دولار) من تلك التي حالت الحرب دون إستخراجها وإستغلالها تجاريا، هذا ناهيك عما تتمتع به أراضي مندناو من خصوبة، وبالتالي قدرة على جذب المستثمرين الأجانب المتطلعين للإستثمار في القطاع الزراعي، ولاسيما من دول الخليج العربية المعنية بالأمن الغذائي. من جهة أخرى فإن إتفاقية السلام ، إذا ما نفذت كما ينبغي وكتب لها النجاح، فإن جزءا كبيرا من موارد البلاد التي كانت تذهب إلى المؤسسة العسكرية لتعزيز قدراتها لمواجهة المتمردين، سوف توجه إلى مجالات أخرى مرتبطة بتحسين المستويات المتدنية لمعيشة الغالبية العظمى من الفلبينيين، الأمر الذي سينعكس إيجابا على شعبية أكينو.
أما "جبهة تحرير مورو الإسلامية" فقد كانت هي الأخرى بحاجة إلى الصفقة المبرمة، بعدما إستنهكت قواها في عمليات الكر والفر مع الجيش الفلبيني الأقوى عتادا والأكثر جاهزية، وجفت مصادرها المالية بفضل الحملة الدولية لمراقبة تحويلات الأموال والحصار المفروض على الجماعات المتهمة بالإرهاب. هذا ناهيك عن بعض التذمر داخل معقل الجبهة نفسها في مندناو بسبب عملياتها العسكرية الطائشة التي يدفع ثمنها المواطنون الأبرياء، وطول حقبة التمرد دون تحقيق الاهداف المرجوة.
إن في الفلبين الكثير من الأمور التي يستعصي فهمها على المراقب. أحد هذه الأمور ذات الصلة بما نتحدث عنه هو أن البروفسور "نور ميسواري" الذي كان أول من تفاوض مع مانيلا لتحقيق السلام في مندناو، صار يقف اليوم في صفوف المناوئين لإتفاقية السلام الأخيرة. ولا يـُعرف إن كان موقفه هذا نكاية بـ "جبهة تحرير مورو الإسلامية" التي تمردت عليه وخونته في عام 1976 حينما وقع مع مانيلا إتفاقية طرابلس لوقف إطلاق النار، أم أنه رغبة للعودة إلى المسرح السياسي بعدما خفت وهجه، وإنْ على حساب الإستقرار والسلام في ربوع الجنوب الفلبيني وجثث مواطنيه المسلمين.
ومن المخربين المحتملين للسلام، جماعة "أبوسياف" التي إشتهرت بعمليات خطف الأجانب كرهائن ومقايضتهم بالمال. وهذه الجماعة التي مارست أعمالها القذرة في جزيرة باسيلان، يمكنها العودة مجددا إلى أنشطتها بدعم قتالي من كل أو بعض المتذمرين من بنود الإتفاقية الجديدة، خصوصا وأن من قاتلوا في صفوفها في التسعينات كانوا من ضمن مــَن لم يوافقوا على إتفاقية مانيلا – مورو الوطنية. ويقول بعض المراقبين أن عودة جماعة "أبوسياف" سوف تكون تحت مسمى جديد مثل "الأخوة المجاهدين" أو "جماعة الجهاد في أرض الفلبين"، لاسيما وأن مثل هذه الأسماء بدأت تظهر في الآونة الأخيرة في بعض المواقع الالكترونية مرفقة بصور مقاتلين ملثمين يقفون امام علم تنظيم القاعدة الأسود والأبيض، ويقودهم شخص يكنى بـ "أبو عتيقة المهاجر".

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة : أكتوبر 2012
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: