من وحي تجربتي الذاتية في المدارس/ راسم عبيدات

...ألقيت العديد من المحاضرات في مدارس المطران ومارمتري وعمر بن الخطاب التابعة لرياض الأقصى،محاضرات طابعها توعوي وتثقيفي حول القدس والانتماء والوعي والحرية،وشملت تلك المحاضرات صفوف ابتدائية وإعدادية وثانوية،وكان الوضع بالنسبة لي صادماً إلى أبعد حد،حيث هناك ليس فقر ثقافي ومعلوماتي،بل هناك جدب وقحط،ومن هنا أدركت معنى وعمق كلمات المفكر والكاتب والأديب المصري الكبير الراحل يوسف ادريس في قراءاته النقدية لروايات الأديب،الكاتب،المناضل غسان كنفاني،حيث قال "يا شعب فلسطين،أقرؤا كتب غسان مرتين،مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور،قبور الثقافة بلا ثورة،والثورة بلا ثقافة"،نعم أصاب إدريس كبد الحقيقة،فالوضع التعليمي في مدارس القدس بمختلف مظلاتها التعليمية(بلدية ومعارف،خاصة وأهلية،أوقاف إسلامية،وكالة غوث ولاجئين،ومقاولات)وبنسب متفاوتة،وصل مرحلة الكارثة وتجاوز كل الخطوط الحمر،وهنا يجب التفكير جلياً وعميقاً من كل الجهات صاحبة العلاقة إدارات مدارس ومؤسسات وهيئات،وحركة وطنية وأحزاب وتنظيمات،وسلطة،بأنه لا يجوز ولا يحق لنا أن نستمر في اجترار نفس العبارات و"الكليشهات" والاسطوانات،بأن الاحتلال يعمل على نشر التخلف والتجهيل بين أبناء شعبنا وطلبتنا،فالاحتلال هذا دوره وهذه مهمته،ونحن بالمقابل على صعيد المجابهة والمواجهة والتصدي،ماذا أعددنا ؟؟ ما هي خططنا وبرامجنا،وما هي استراتيجياتنا؟، فمن خلال قراءاتي البسيطة أنا أتفق مع القائلين بعقم المنهاج التدريسي،أو أنه بحاجة لتطوير ومواكبة التطورات والتغيرات العلمية والتكنولوجية،ولكن قد يكون المنهاج واحد من الأسباب،ولكن هناك خلل آخر هو في الهيئات التدريسية نفسها،والتي يتوقف عليها الابتعاد عن العملية التلقينية والحفظ والنمطية في التدريس،والتركيز على التعليم القائم على الإبداع وتفجير الطاقات وترك مساحة واسعة للتفكير،والمسائل لا تقاس بحجم المادة المنجزة من المنهاج،بقدر الفائدة المتحققة من المادة،وكذلك هناك تساؤلات حول إدارات المدارس والهيئات التدريسية ودورها في هذا الجانب، فهل من المعقول أن تجد طلبة في المرحلة الإعدادية والثانوية لا يعرفون مدن الضفة الغربية؟،عدا عن عدم معرفة مساحتها،أو أن القدس مدينة محتلة عام 67،أو معرفة مخيمات الضفة الغربية ومواقعها،أو معرفة عام النكبة او يوم الاستقلال،ناهيك عن الفقر المدقع في كل ما له علاقة بالوطن والقضية والقدس،وهنا أرى ان مسؤولية الأهل والهيئات التدريسية هي الأساس في هذا الجانب،ولكن بالمقابل هناك غياب للمؤسسات واللجان الطلابية،ناهيك عن ان الحركة الوطنية غائبة عن هذا الدور والجانب،فهي تهتم في الاحتفالات والأنشطة الشكلية اكثر منها التي تركز على التوعية والتثقيف،ومن هنا نرى تراجع برامجها الثقافية والفكرية ودورها في التأطير والتنظيم.

إن هذه المحاضرات كشفت لي عن الكثير من العيوب والأخطار المحدقة بطلبتنا،وواضح أن الاحتلال يتقدم في خططه وبرامجه واستراتيجياته،ونحن نتراجع وننكفئ،وأيضا فان الاحتلال يحقق نجاحات واختراقات ليست بالقليلة في احتلال واختراق وعينا،وإذا ما تنبهنا إلى ذلك وأدركنا مخاطره،فنحن أمام كارثة حقيقية،كارثة تضرب العصب السياسي في المجتمع،تضرب وتستهدف الجيل الشاب والحي في هذا المجتمع،فأي جيل هذا الذي لا يعتز بانتمائه لوطنه ولقضيته وبلده ؟أي جيل هذا الذي يجهل الأساسيات والبديهيات عن هذا الوطن؟،يجب ان يعاد النظر في المنهاج بشكل جدي،ويجب كذلك ان يكون هناك دورات وتأهيل للمعلمين قبل غيرهم في القضايا المتعلقة بتاريخ فلسطين وجغرافيتها والهوية والوعي والانتماء،ويجب التركيز على الأبحاث وأوراق العمل،وكذلك الرحلات المدرسية،يجب أن يعاد النظر في أهدافها والغرض والغاية منها، وان يتم كذلك خلق حالة من التواصل والفعاليات بين طلبة الضفة الغربية والقدس،حالة من التواصل عبر لقاءات وبرامج ثقافية ورياضية وتراثية وتربوية،فهناك حالة من القطع والاغتراب والشعور بأن الطرفين ليسوا بأبناء شعب واحد،وهذه مخاوف لها ما يبررها على ارض الواقع وليست مجرد هواجس او وجهة نظر شخصية،وهناك من يغذي تلك الفكرة بقصد او بدونه.

أيضاً يجب أن يكون ذلك ناقوس خطر للحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف ألوان طيفها السياسي،فلا يعقل أن يتحدث طلبة في المرحلة الثانوية عن أن رفح أو غزة من مدن الضفة الغربية،أو يافا او حيفا من المدن المحتلة عام 1967 وهي جزء من الضفة الغربية،أو لا يعرفون عام النكبة أو يوم الأرض،وأين يعيش اللاجئين الفلسطينيين في الخارج؟،والانفضاح والانكشاف كان أكثر وضوحا في قضايا الأسرى في سجون الاحتلال،وبما يدلل أن قضية أسرانا في سجون الاحتلال لم تتحول الى قضية جماهيرية وشعبية،أو قضية كل بيت فلسطيني،فهناك جهل ليس فقط بمعرفة بإعداد الأسرى في سجون الاحتلال وأسماءهم،بل حتى الذين خاضوا وما زالوا يخوضون إضرابات مفتوحة عن الطعام وبشكل أسطوري مؤخراً خضر عدنان وهناء الشلبي،قلة قليلة عرفت أسماءهم او عرفت أو سمعت عن إضرابهم المفتوح عن الطعام،ولم يشارك أو يبادر أي مهم لمشاركة في أي فعالية تخصهم أو تخص الأسرى،ولذلك أرى ان يكون جزء من وقت حصص التربية الوطنية أو التاريخ أو الجغرافيا لقراءة عناوين وأخبار مهمة في الصحف المحلية والتعليق عليها،أو يتم طرح مثل هذه المواضيع في الإذاعة الصباحية،فلا يجوز هذا الفقر والجدب الثقافي بنا كشعب تحت الاحتلال،ونحن نتشدق بأننا أوعى الشعوب العربية،علينا أن نعترف بأننا أمام أزمة حقيقية وجدية،ازمة يستحيل الحديث عن بناء دولة او مجتمع مدني في ظل استفحالها وتفاقمها،بل نعيد إنتاج مجتمعات قائمة على الجهل والتخلف وثقافة الدروشة،ثقافة تقدم الانتماءات العشائرية والجهوية والقبلية والطائفية على الانتماء الوطني،يعني تكريس لتشظية المجتمع وتفكيكه،فهل نحن كحركة وطنية متنبهين الى مثل هذا الخطر الداهم؟،خطر من شأنه ضرب نسيجنا المجتمعي وتفكيكه.

التوعية والثقافة أولا وعاشرا،فبغياب الثقافة والوعي،لا مجال للحديث عن حرية او بناء مجتمع عصري،أو دولة لكل مواطنيها،دولة تسودها التعددية الفكرية والسياسية،تصان فيها الحريات والكرامات،والوعي يجب أن يقترن بالممارسة على الأرض وبين الناس،فالنظرية والأفكار بدون تطبيق مثل الشجرة اليابسة لا تثمر،وهي كذلك العملية التعليمية بدون توعية وفهم،هي غير منتجة ومثمرة،بل تخلق جيل مشوه الثقافة والوعي،غير قادر على النهوض والبناء وتحمل مهامه ومسؤولياته.

CONVERSATION

0 comments: