منذ عام كامل وبعد انتخاب البطريرك بشارة الراعي بعدة ايام، كتبنا مقالاً نشرته الصحف المحلية وصحيفة »النهار« البيروتية وصحيفة »القدس العربي« في لندن وصفنا فيه مجيء الراعي بطريركاً للموارنة بالاختراق الفاتيكاني نحو انفتاح جديد للمسيحية العربية طال انتظاره. وتوقعنا في حينه العراقيل والتحامل الذي ينتظر القادم الجديد مذكرين بقول للراحل الكبير الاب ميشال الحايك الذي صرخ قبل ثلث قرن: »ان الازمة المارونية قضية كبيرة حملها رجال صغار فأسقطوها وأسقطتهم«. ولم يعجب البعض ما توقعناه من البطريرك الجديد ووصفه بالقامة الروحية الوطنية الثقافية التي طال انتظارها.
بعد مرور عام كامل على الجلوس، تبدو الصورة اكثر وضوحاً وقد ساعدت على بلورتها القوى والاصوات التي انتقلت بالربيع العربي وانتفاضاته الى كهوف تورابورا حيث امتزجت تمنيات الظواهري بادعاءات القرضاوي وآل الشيخ وصولاً الى تحرشات الشهال ورضوان السيد الاستاذ الجامعي حيث لم يغب عن السمع سوى صوت شاكر العبسي.
ان كل ما يقال ويشاع حول مواقف وأقوال البطريرك الراعي في الداخل اللبناني والعربي ليس اكثر من جدول صغير قياساً بما خططه الخارج فور انتهاء زيارة باريس الرسمية التي قال فيها الراعي ما لم تسمعه فرنسا او تتوقعه من بطريرك ماروني وهي التي تعتبر نفسها »الأم الحنون« وتنتظر ان تتلقف بكركي خطها الذي اصبح متوازيا مع خط الغطرسة الاميركية.
أحدثت زيارة باريس ضجة فرنسية - اميركية صامتة لم يتسرب منها سوى القليل حيث تورط عدد من السياسيين والاعلاميين اللبنانيين بشن الحملات العنيفة على البطريرك ونُسبت اليه عبارات وأقوال لم ترد على لسانه. وأرسلت جهات معينة في لبنان اكثر من وفد الى باريس للحصول على تسجيلات صوتية للمؤتمر الصحفي الذي عقده البطريرك بعد لقاء ساركوزي، وتمكن احد هذه الوفود من الحصول على نص محضر لقاء الراعي - ساركوزي الذي لم يتضمن الاسرار والمفاجآت.
وقد أُرسلت هذه الوفود بعد ان كتب البروفسور انطوان فليفل الذي حضر المؤتمر الصحفي بكامله مقالاً نقل فيه حرفياً ما ورد على لسان البطريرك الماروني، وجاء في مقال فليفل: »لم يبرر الراعي أبداً بقاء سلاح حزب الله ولم يدافع عنه، لكنه عرض ثلاثة مبررات موضوعية يستعملها الحزب لتبرير محافظته على سلاحه من دون ان ينقضها او يعتبرها ضلالاً، فحزب الله حسب الراعي يعتقد ان سلاحه لا يزال ضرورة لأن جزءاً من جنوب لبنان ما زال يرزح تحت الاحتلال الاسرائيلي ولان واقع وجود اللاجئين الفلسطينيين على ارض لبنان مع اسلحتهم موضوع يجب معالجته بعودتهم الى ارضهم لان الجيش اللبناني ليس مسلحاً بالشكل المناسب للدفاع عن لبنان«. (انتهى الاقتباس).
أين هي نقاط الانفجار التي أثارت باريس وواشنطن التي سارعت رئاستها الى اصدار بيان استنكرت فيه كلام الراعي؟... لقد تأكد بعد الحصول على محضر لقاء الراعي - ساركوزي ان البطريرك قال في حضرة سيد الإليزيه ما يلي: »لقد تركتم اسرائيل جاسمة على صدورنا ولم تطالبوها باحترام الشرعية الدولية وقرارات مجلس الامن وخاصة القرار ٤٩١ الذي يعطي الفلسطينيين حق العودة الى ديارهم«.
انه من غير المسموح ان يقول بطريرك ماروني ما لم يُسمح به للرؤساء اللبنانيين والعرب. كيف يجرؤ بطريرك عربي مهما علا قدره ان يقول ان اسرائيل جاسمة على صدورنا وان يتجنب مهاجمة حزب الله وسلاحه كغطاء لمهاجمة المقاومة والدعوة الى اسقاطها، وكيف يطالب بتنفيذ القرار ٤٩١ ويتهم اسرائيل بعدم احترام الشرعية الدولية؟
هل تسرّع البطريرك الراعي في كشف أوراقه وآرائه التي هي آراء الفاتيكان، كما ورد في الارشاد الرسولي وتوصيات السينودس من اجل لبنان (٥٩٩١)، التي ما زالت حبراً على ورق ولم يطّلع عليها سوى قلة قليلة؟
نرى انه لم يتسرع بل بدأ رسالته منذ اليوم الاول وهو يدرك أبعاد ما قاله ويقوله دائماً... ولكن الذين اعتادوا على جعل بكركي حائط مبكى وملاذاً للفاشلين، صدموا بالتوجه الجديد وكان عليهم الانتظار لمعرفة ردات فعل الفاتيكان على مسيرة البطريرك الجديد.
ان انفجار الاحداث والانتفاضات في عدة بلدان عربية وخاصة سوريا، أحدث اضطراباً في مسار الحياة السياسية في لبنان والشرق الاوسط، ومن صميم واجبات القائد المسيحي العربي الاول ( ليس عددياً) ان يبدي مخاوفه مما يجري بعد تجربة تهجير مليون مسيحي عراقي، وستزداد هذه المخاوف بعد تهجير عشرات الالوف من مسيحيي حمص لا سيما بعد وفاة المغفور له قداسة البابا شنودة الثالث حكيم الحكماء الذي قد يحدث غيابه فراغاً مخيفاً في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ مصر والعرب.
ان الحملة على البطريرك الراعي مبرمجة ومدعومة من الخارج بميزانية سخية حيث تتحرك القوى السياسية والاعلامية دفعة واحدة عند كل اشاعة او مرويّة مشوّهة.
ففي لقاء أجراه غبطته مع وفد من وكالة رويترز الاعلامية انتقد النظام السوري ووصفه بالديكتاتوري والذي عانى منه اللبنانيون كثيرا وتمنى الخير للشعب السوري وعودة السلام ووقف سفك الدماء.
وعند الحديث عن هيكلية الانظمة العربية قال الراعي ان دولة لها مجلس نيابي ودستور وقوانين جزائية واجرائية وتسمح بحرية المعتقد هي اقرب الى الديمقراطية من غيرها. وقد فهم الكثيرون ان اشارة البطريرك هذه ربما تستهدف الانظمة العربية التي لا دستور لها ولا قوانين مدنية ولا مجالس منتخبة ولا تسمح بحرية العبادة والمعتقد وتحرم المرأة من أبسط حقوقها، وربما كانت هذه الظنون التي لم تعلن في محلّها.
كان آخر ما سمعناه ان فضيلة شيخ الازهر الشيخ احمد الطيب لن يستقبل البطريرك الراعي بناء على تمنيات يوسف القرضاوي الداعية التحريضي الذي يعتبر ان معايدة المسيحي في عيده كفراً وضلالاً.. ونُقل ان القرضاوي اتهم البطريرك باتخاذ مواقف معادية للاسلام. ان اتهامات القرضاوي ليست هامة، بل الاهم منها اذا استجاب شيخ الازهر المعروف بانفتاحه وسمو معرفته لرغبات ذلك الذي نصب نفسه.. »إمام أئمة العالم«.
في اواخر العام الماضي كتبنا تحليلاً خاصاً حول هذا الموضوغ لعدد من الصحف والمواقع الالكترونية قلنا في نهايته ان الحملة التي تستهدف البطريرك ورسالته ما زالت في أولها وربما تتصاعد في الاشهر والسنوات القادمة...
فهل نحن على حق في توقعاتنا؟.. انها ثورة مفاهيم جديدة على بكركي ان تخوضها، وثورج المفاهيم دونها المصاعب وربما الأهوال. وما نسمعه ونقرأه على المواقع الالكترونية من بذاءات وشتائم يحمل البعض على الظن ان حرباً جديدة ستندلع داخل لبنان. لقد نقل عن ناشط بدوي بارز عالمياً قوله ان دَخْل العرب يتجاوز ٠٠٧ مليار دولار سنوياً يكفي جزء يسير منها لاخذ جميع العرب الى حيث تشاء البداوة السلفية، ولكن حلم الشيخ الواهم سيتحطم ولو بأثمان باهظة.
0 comments:
إرسال تعليق