موقوف معلوف/ د. حبيب بولس

سنة ، وربّما اكثر قليلا تفصلنا عن الانتخابات لذلك بدأنا نتحسّس حركة في مدننا وقرانا لأذناب السّلطة ولمستشاري الوزراء والأحزاب الصّهيونيّة على اختلافها من العرب. وهؤلاء الأذناب والمستشارون كثر، فهم كلّما ازداد عدد الوزراء وعدد الأحزاب ازداد عددهم. ينامون في بيوتهم أربع سنوات ثمّ يفيعون أو يُفَيّعون قبل اقتراب موعد الانتخابات. ونحن لا نعرف ماهيّة أعمالهم، ما نعرفه هو أنّهم يتلقّون رواتب متفاوتة من حيث حجمها من هذا الوزير أو ذاك أو من هذا الحزب الصّهيوني أو من حزب آخر. أمّا لماذا؟ ما هي أهميّة أعمالهم؟ لماذا يدفعون لهم؟
فهذا سرّ مستغلق- من الصّعب علينا فكّ رموزه واستيعابه. معجن الدّولة وافر- منه يأكلون- وما علينا نحن سوى أن ندفع ضرائبنا حتّى نملأ المعجن. أربع سنوات يعيشونها منعّمين، يمتصّون فيها لحاء الميزانيّات (لا شغلة ولا عملة) كما يقول مثلنا العاميّ سوى بضاعة الكلام. ونحن- والحمد لله- نعيش في دولة ديمقراطيّة لا بل في واحة الدّيمقراطيّة- لذلك المستوزرون فيها كثر والأحزاب كذلك، وعلى عددهم، لا بل أكثر من عددهم باضعاف هنالك أذناب، فعدّ كم وزيرا لدينا، وعدّ كم حزبا صهيونيّا، تعرف كم هم كثر هؤلاء الأذناب الّذين يتمتّعون برواتب دسمة وبعطالة دائمة.
كلّ سلطة تنفيذيّة عندنا بحاجة كي تمارس أعمالها إلى ائتلاف، وهذه الائتلافات هي منجم لابتزازات كثيرة، ونتيجة لهذه الابتزازات يكثر المستوزرون، ويكثر نوّابهم ومستشاروهم. والغريب أنّه في السّابق كان الوزير يكتفي بمشتشار واحد، أمّا اليوم فالعمليّة اختلفت، لكلّ وزير مستشاران وربّما ثلاثة، قسم معلن وقسم مضمر- مستشار رئيس والآخر أو الآخران للأقليّات، وذلك حسب تقسيم الطّوائف وكأنّنا ملل ونحل ولسنا شعبا، وهذا الأمر عينه ينطبق على الأحزاب، فلكلّ حزب عدد من المستشارين، لا همّ عندهم سوى تجنيد الأصوات للإنتخابات. أربع سنوات من الرّاحة ثمّ الإنطلاق. وكم يصدق فيهم ما قالوه يوما عن طناجر دير "مار سمعان"- رحم الله شيخ أدبائنا مارون عبّود، فهم وطناجر ذاك الدّير سيّان: فقد قيل في تلك الطّناجر: " تشكو إلى قدر جارات إذا التقيا
اليوم لي سنة ما مسّني بَلَلُ"
الفارق الوحيد أنّ طناجر دير مار سمعان كانت تستخدم مرة في السّنة أمّا أذنابنا فهم أكثر راحة إذ أنّهم يستخدمون مرّة كلّ خمس سنوات. أربع سنوات ينامون ملء جفونهم فالرّاتب مضمون، وما عليهم سوى أن يسمّنوا أجسادهم ويشحّموا أعضاءهم ويعدّونها لسنة الإنتخابات. وكم ينطبق عليهم ما قالوه يوما عن خيل الحكومة – الصواري-
موقوف معلوف إلى حين تأتي السّاعة أي لا تفعل شيئا سوى الأكل. فهم موقوفون معلوفون طيلة هذه السّنوات، ثمّ يهبّون دفعة واحدة، ويبدأ الواحد منهم بالتّرويج لهذا الوزير أو لذاك، لهذا الحزب أو الآخر.
يطلقون الوعود، ويتغنّون بمبادئ وعقائد هي ليست سوى ألفاظ جوفاء. ومثلهم في ذلك مثل الحمّص الأخضر الفارغ، ألم يقل الشّاعر في وصفة لهذه الظّاهرة :"كفارغ حمّص خلّي من المعنى ولكن يفرقع"؟
وهؤلاء الأذناب هم حقّا كفارغ الحمّص لا معنى لكلامهم ولا مبدأ عندهم، من يدفع أكثر فهو حصّته- لا فرق بين حزب وآخر سوى المال، يتنقّلون بين حزب وآخر "من تزوّج أمّي فهو عمّي"، أي من يدفع أكثر فهو الحزب أو الوزير الّذي أروّج له. وإذا تمعّنت في عملهم سنة الإنتخابات تجد أنّهم طبول جوفاء يطلقون الوعود وهم لا يملكون من تنفيذها شيئا. فذاك موعود بوظيفة وآخر بإدارة مؤسّسة أو مدرسة، وثالث برخصة لمصلحة وهكذا، يدقّون على صدورهم وكأنّ المشتهى عندهم أو وكأنّهم يملكون التّأثير. والمعادلة الكاذبة بسيطة وواضحة، إضمن لنا أصوات بيتك أو عائلتك وكلّ شيء سيتحقّق، ولو سألت مشغّليهم عن هذه الوعود الجوفاء ضحكوا وقالوا :" فخّار يكسّر بعضه"، نحن لا نثق بهؤلاء لأنّنا نعرف طينّتّهُم، فهم منزوعو الحسّ الوطنيّ والكرامة الوطنيّة والشّخصيّة بلا حياء، همّهم المنصب والمال والزّعامة الفارغة والظّهور بوسائل الإعلام، يبيعون البشر ويقبضون على الرّأس، ثمّ يقبعون في بيوتهم أربع سنوات، حتّى تكون المرّة القادمة. نحن لا نعتمد عليهم في شيء سوى في تسويقنا، فكلّ ما هو مطلوب منهم وخاصّة من المستشارين وقنّاصي الأصوات هو تلميع هذا الوزير أو ذاك النّائب، وضرب المواعيد لولائم المناسف، وتنسيق الزّيارات للمدن وللقرى، وترتيب الأجتماعات مع زعماء العائلات والحمائل والطّوائف ورؤساء المجالس.
ثقتنا فيهم معدومة، لأنّهم يبيعوننا لآخرين إذا دفع لهم هؤلاء الآخرون أكثر لا نقيم لهم وزنا ولا نستشيرهم في شيء، فاستشارتهم لا فائدة منها. أصلا هل يستشار بائع ضميره؟ ! أو بائع شعبه؟! إذا كنّا بمستشار واحد لا نثق- فكم بالحريّ بثلاثة، نحن نستخدمهم للتّرويج فقط، وللظّهور بوسائل الإعلام حين تكون هناك أزمة محرجة مع المواطنين العرب- فبدلا من ظهورنا نحن وتحمّل الشّتائم ينوبون هم عنّا، وهم مستعدّون وقادرون على ذلك- فجلودهم قد خشنت لا بل تمسحت- فهم بلا أحاسيس وبلا كرامة شخصيّة. وإذا عدنا لهؤلاء الأذناب، فالوليمة هذه المرّة غنيّة لأنّ كلّ حزب صهيونيّ تقريبا منقسم على ذاته فحزب "كديما" يتنافس على زعامته ثلاثة، وكذلك حزب "شاس" وغيرهما، وهناك أحزاب جديدة، وطبعا سيعرض هؤلاء خدماتهم- وهكذا. المائدة إذا غنيّة وما تبقّى هو كيف التّسويق والتّرويج؟ ومن أين ومتى ستكون البداية؟
ولهؤلاء مجسّات كالأخطبوط، إذ أنّهم يتحسّسون الوضع ويتعرّفون على حاجات النّاس، وبعد ذلك يغزون البيوت ويطوفون على العائلات والحمائل- حاملين معهم الوعود البرّاقة والخلاّبة- ولكنّهم وهم يفعلون ينسون شيئا واحدا، ينسون أنّ شعبنا قد صار وبعد أن تعمّد بالكثير من التّجارب، على درجة كبيرة من الوعي، يعرف هذه اللّعبة جيّدا، فكم ذاقها على جلده. شعبنا صار يميّز ولا تنطلي عليه مثل هذه المهاترات.
لا يثق بهم ولا بوعودهم- بل يهزأ بهم وربّما يعدهم من باب المجاملة فقط أو من باب "حلّوا عنّا" وساعة الجدّ يدلون بأصواتهم للأحزاب الّتي يرونها مناسبة- الأحزاب الّتي تخدم مصالح الشّعب بإخلاص، وهذا الأمر يذكّرني بما كان يجري في كفرياسيف في السّتينات والسّبعينات ففي هذه السّنوات عيّن حزب العمل أو "مباي" مسؤولا عن الإنتخابات في كفرياسيف يدعى "أمنون لين"، وهو محام متحمّس للحزب من حيفا، وكان هذا المسكين يعتقد أنّ التّلويح بالفصل والتّهديد سينفعان في الإنتخابات، فكان يجمع الموظّفين والمعلّمين في البلدة ويهدّدهم، ويحصي عددهم وعدد أبنائهم فيجد أنّهم كثر، فيتفاءل ويرسل إلى رؤسائه أنّ الوضع جيّد وأنّ حزبه سيحصل على الأكثريّة حسب الإحصائيّات.
ولكن تفاؤله يذهب أدراج الرّياح لأنّ يوم الإنتخابات كان يخيّب أمله إذ أنّ النّتائج تأتي عكس ما حسب وتوقّع فالحزب الشّيوعي وكتلة كفرياسيف المتضامنة معه كانا يحصلان على الأكثريّة أمّا حزبه فيكاد ألاّ يوصل عضوا واحدا للمجلس المحلّي و في إنتخابات الكنيست. الحزب كان يحصد أكثر من 90% من الأصوات. وأمنون هذا المسكين حين كان يرى النّتائج كان يصاب بالجنون، فقبل أيّام وُعِدَ وهؤلاء الّذين وعدوه يعتاشون على رواتب الحكومة، فكيف تكون النّتائج هكذا؟ وظلّ حاله على هذا المنوال حتّى يئس وترك كفرياسيف لاعنا إيّاها ولاعنا أهلها ولسان حاله يقول: هذه قرية غريبة تَعِدُ ولا تَفي وتهزأ بأصحاب لقمتها.
ولكن رغم ما ذكر الأحزاب الصّهيونيّة ومستوزروها لم يتعلّموا الدّرس، فالظّاهرة مستمرّة، ذلك لأنّ أصحابها سطحيّون ما زالوا يعتقدون أنّنا شعب بسيط من الممكن الإنجذاب وراء وعودهم، ونحن بدورنا نقول لهؤلاء: شعبنا صار يعي أنّ النّوّاب والوزراء ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه. وطبقة كالدّواء نحتاجه ولا نرغب فيه. وطبقة كالدّاء نجّانا الله منه. وعلى الأقلّ شعبنا يوم الإنتخابات يحاول إبعاد الدّاء والدّواء.
من هنا، على أصحاب الاحزاب الصّهيونيّة، وعلى نوابهم ووزارائهم أن يعرفوا أن كثرة عملائهم وأذنابهم ومستشاريهم لن تنفعهم: فكثرة هؤلاء هو مجرّد إبتزاز. ونصيحتنا لهم أن اكتفوا بواحد لأنّ النّتيجة سواء كنتم بواحد أو بأكثر هي واحدة. نحن لسنا معكم نحن مع أحزابنا الّتي تعرف مصالحنا وتدافع عنها وسواء كنتم بذنب واحد أو بمجموعة أذناب الأمر سيّان. فاكتفوا بذنب واحد إذا وقصّوا باقي الأذناب ووفّروا عليكم الجهد والمال فربّما ذنب واحد يكون أكثر فائدة لكم من عشرات. وما ضرّ هذا الوزير او ذاك اذا كان وحيد الذنب ففي الحيوانات وحيد القرن مثلا.


CONVERSATION

0 comments: