منذ انطلقت الإشارة الأولى للثورة الاجتماعية داخل إسرائيل، بشكل احتجاج على أسعار منتجات الحليب، خاصة بعض أنواع الأجبان، كان من الواضح تماما، أن هذه الصحوة الاجتماعية، هي حركة ليست طارئة.. بل تحرك جماهيري طال صمته، وستكون لها إسقاطات سياسية بالغة الأهمية، ربما من المبكر الحديث عنها، تتجاوز المسائل الاجتماعية الحارقة، وتربط بين الواقع الاجتماعي وسياسة القوة والاحتلال والعدوان.
لم يعد الموضوع يسار ويمين. رغم أن اليمين المتطرف ، الاستيطاني والذي يتمتع بالخيرات على حساب سائر المواطنين وقف ضد هذه الصحوة الاجتماعية، لأن ما يعنيه ليس الواقع الاجتماعي، وازدياد الفقر، وهي قضايا لا يعيشها، ولا تمسه ، ولا تؤثر على ميزانيات الحكومة لرعاية شئونه، وحماية انفلاته على حساب ميزانيات الأمن، وتوفير كل متطلباته. ومن فهمه أنها قد تكون مقدمة، لمواقف سياسية يهودية أكثر اتساعا وتأثيرا ضد سياسة الاستيطان والاحتلال. وليس سرا أن ما صرفته إسرائيل على الاستيطان، يكاد يكون ميزانية دولة لسنوات عديدة، وسيتواصل الصرف الهائل وربما يزداد.
الذي دفعني للكتابة ، بعد تردد كبير، واختياري التفرغ أكثر للكتابة القصصية، هو ضعف المشاركة لليسار العربي في إسرائيل في هذه الثورة الاجتماعية، جنبا إلى جنب مع القوى اليهودية المتضررة بنفس المقدار أو اقل من تضرر الجماهير العربية، من نفس السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي تشكل الأيديولوجيا الاقتصادية لنتياهو شخصيا وتنفذها حكومته ، والتي يصفها رجال اقتصاد إسرائيليين بالرأسمالية الخنزيرية.
الدافع الثاني، تصريحات رئيس لجنة المتابعة العربية العليا السيد محمد زيدان، الذي يدعو عمليا لعزل الجماهير العربية عن هذا النضال الاجتماعي . وكذلك بيان القوى السياسية في "الداخل"؟" التي تدين تهجّم عضو الكنيست محمد بركة على رئيس لجنة المتابعة محمّد زيدان ، وذلك حسب لغة البيان التي يفهم منها أن محمد زيدان أيقونة مقدسة فوق النقد .
هذا البيان أقل ما يقال عنه انه مهزلة، ولكنه يشكل إدانة سياسية وفكرية للنهج الذي يطرحه أصحاب البيان. لا أكتب دفاعا عن بركة، أو عن مواقف الحزب الشيوعي، إنما أكتب من منطلق فهمي لأهمية التحرك في الشارع الإسرائيلي اليهودي، أيضا حول قضايا اجتماعية.
نحن لا نفطر صباحا على وجبة تصريحات انعزالية من رئيس لجنة المتابعة محمد زيدان، ولا نأكل وجبة غذاء من تحليلات الهرطقة الاجتماعية والطبقية لعضو الكنيست حنين زعبي. ولا نتناول وجبة عشاء على موائد "القوى الوطنية والإسلامية"، وكم هو مستهجن ومحزن هذا الفرز بين وطني وإسلامي. هل لم يعد المسلم وطنيا حتى نفرزه عن الوطني؟ وليسمح لي بركة أن استعمل تعليقه:" أن الموقعين على البيان وجدوا قضية يتفقون عليها".
إن ترحيبنا بهذه الانتفاضة الاجتماعية ، هي خطوة هامة يجب أن تستغلها الأحزاب العربية لتعميق التضامن، حتى على المستوى الاجتماعي، وهو مجال حيوي وهام جدا، المشاركة النضالية مع الجماهير اليهودية المنكوبة بسياسة الاحتلال، حتى لو لم تبرز هذه المسألة بكامل أبعادها المأساوية على المجتمع اليهودي نفسه، ولكنها طرحت، ولو بصوت ضعيف.بل وقرأت إعلانا في أحد الشوارع جاء فيه ما معناه: "للمستوطنين الذين يعيشون على حسابنا الحكومة تقدم كل شيء، ولنا لا شيء". وكانت تصريحات واضحة من بعض المتظاهرين ضد الاحتلال "الذي يأكل ميزانية الدولة"، وقائدة الانتفاضة دفنه ليف واجهت تحريضا من الإعلام المقرب للمؤسسة الحاكمة، وخاصة من صحيفة "إسرائيل اليوم" بأنها كانت من الموقعين على بيان ضد الخدمة في جيش الاحتلال. وقائد منظمة الطلاب، وهو من العناصر البارزة في قيادة الانتفاضة يتحدث بوضوح كامل عن تغيير أولويات الحكومة، لصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة. إلا إذا كان العرب في إسرائيل حسب "الأحزاب المتفقة" يعتبرون العرب من أغنياء إسرائيل وليسوا بحاجة إلى تغيير الواقع الاجتماعي ، واقع الفقر وفقدان ميزانيات مناسبة ، لحل مشاكل هائلة يعاني منها الوسط العربي ، وعلى رأسها البطالة، التعليم ، الإسكان ،المناطق الصناعية والفقر الذي بات من نصيب مئات آلاف الأطفال العرب وعائلاتهم ، عدا مشاكل البنى التحتية في البلدات العربية.
كنت أتوقع أن ينظم الحزب الشيوعي ( والجبهة) مظاهرة موازية لمظاهرات مئات الألوف في المدن الإسرائيلية في مدينة الناصرة مثلا أو غيرها من المدن العربية، لإعطاء صورة أكثر عمقا للجماهير اليهودية، بان الجماهير العربية ليست خارج المعركة، وأنها ليست مجرد جماهير معادية لكل ما هو يهودي ، كما ترتسم الصورة من بيان "الأحزاب المتفقة" ، وان دعمنا لحركتهم تنطلق من واقع أشد مضاضة من واقعهم، ومن فهم لأهمية التضامن من أجل التغيير للأفضل لمجتمعنا ومجتمعهم.
وما زلت أظن أن الوقت ليس متأخرا.
لا بد من إعادة تجميع قوى اليسار العربي ، وكل المستضعفين العرب. ولا أقول وطنيين وإسلاميين ومسيحيين ودروز وبدو . لست من دعاة تقسيم الأقلية العربية إلى طوائف وقوميات على طريقة نظام التمييز العنصري والاضطهاد القومي في إسرائيل، وخدمته في جعلنا طوائف وملل !!
التاريخ أعطانا دروسا هامة، بدون تجنيد العقلانيين اليهود والمتضررين من سياسات حكومات إسرائيل في الشارع اليهودي، لن ننجز أي مطلب اجتماعي أو سياسي. إلغاء الحكم العسكري تحقق بعد اقتناع أوساطا يهودية، حتى من اليمين، إلى تناقض استمرار فرض الحكم العسكري على العرب في إسرائيل مع جوهر النظام الديمقراطي الذي تدعيه إسرائيل. لو اتبع الحزب الشيوعي سياسة الانعزال القومي لبقينا حتى اليوم تحت مظلة الحكم العسكري.فهل إلغاء الحكم العسكري جعلنا متأسرلين صهاينة؟؟
إلغاء التمييز في مخصصات التأمين القومي للأطفال العرب أنجز أيضا بعمل برلماني هام قامت به عضو الكنيست الشيوعية تمار غوجانسكي ، بتجنيد أغلبية يهودية إلى جانب إلغاء قانون تمييزي لا يشرف الواجهة الديمقراطية للدولة، وليس بنهج الانعزال القومي للجماهير العربية، ورفض المطالبة بالمساواة في مخصصات الأطفال ، فهل هذا الانجاز جعل أطفالنا العرب صهاينة ومتأسرلين؟!
هل نضالنا لوقف مصادرة الأرض والمساواة في الحقوق والميزانيات، والمطالبة بحل مشاكل البطالة وغيرها من المطالب الاجتماعية، تجعلنا مبايعين للنظام العنصري الصهيوني ومتأسرلين؟!
على هذا المنوال عضو كنيست دولة إسرائيل اليهودية، السيدةش حنين زعبي، هي الأكثر صهيونية وأسرلة من أي مواطن عربي ، خاصة وأنها تتمتع بمعاش صهيوني كبير ومساعد برلماني وسيارة واتصالات ومراسلات وفنادق وحصانة برلمانية، وصندوق تعويضات للتقاعد، يجعل المنافسة على عضوية الكنيست الصهيونية حربا لا تختلف عن حرب داحس والغبراء بين أعضاء الحزب الوطني جدا، حزبها!!
أسوق هذا النقد لأقول أن التفكير الفئوي الانعزالي القومي لا يخدم قضايا نضالنا السياسية والاجتماعية الملحة، بل يعزلنا ، وينهي أدوارنا.
أيضا في دول أكثر أهمية من إسرائيل، مثل الولايات المتحدة’ لم يكن من الممكن نجاح حركة الاحتجاج لإسقاط التمييز العنصري ضد السود ، بقيادة مارتن لوتر كنغ،(الذي قتل من عنصري ابيض وهو يلقي خطابا) بدون خطاب سياسي عقلاني مع البيض وتجنيدهم في الحملة الاحتجاجية ورفض الانعزال العرقي .
نفس الأمر مع حزب المؤتمر الأفريقي في جنوب أفريقيا ،الذي قاده من السجن الزعيم الأسطوري لأفريقيا الجنوبية نلسون مانديلا. متبعا خطابا سياسيا عقلانيا ، لتجنيد البيض أيضا من أجل إسقاط نظام الأبرتهايد.ولو اتبع حزبه النضال المسلح ، او الانعزال العرقي الأسود، لما أنجز المهمة التاريخية بالتحول في أفريقيا الجنوبية.
نفس الأمر مع شعبنا الفلسطيني، النضال المسلح، وهذا أيضا أكده محمود عباس ، دمر ما أنجزه الشعب الفلسطيني في انتفاضة الحجارة.. ونهج عدم الانعزال عن القوى الديمقراطية اليهودية، يعطي قوة كبيرة للنضال الفلسطيني السياسي.
بالطبع لدينا عباقرة سيبدعون نهجا جديدا قومجيا انعزاليا، متجاهلين كل التجارب التاريخية السياسية للحزب الشيوعي ولحركات تحرر مختلفة. لأن الوطنية لم تبدأ إلا بهم وبزعيمهم "الذي غادر الوطن قسرا"، مفضلا قصور أمير قطر عن تراب وطنه.
ــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: ما كتبته ليس مدحا للحزب الشيوعي، إنما تجربتي الشخصية أيضا، خلال عقود هامة من حياتي، مارست فيها النشاط المتنوع في صفوف الحزب الشيوعي، الذي أرى انه في أزمة عميقة، تفرض عليه مراجعة الكثير من حساباته ومواقفه السياسية والفكرية.ِ وأنا على ثقة أن موقفه المشرف من الانتفاضة الاجتماعية في إسرائيل قد تكون عاملا هاما لإعادة محورة مكانته السياسية على صعيد المجتمع العربي أولا، واليهودي ثانيا، كصوت لا بد من الإنصات له. بصفته الحزب العربي اليهودي الوحيد، ولكن هذا يحتاج أن يعمل لتعميق دوره ، في المجتمع العربي في إسرائيل بالدرجة الأولى، وفي الشارع اليهودي بالتأكيد، كمحرك داعم لحركة الاحتجاج الاجتماعية الشاملة في الدولة.
0 comments:
إرسال تعليق