في ساعة صبح جليلية عادية، بدأت أنباء اعتداء قوات شرطة إسرائيل على أحد شباب كفرياسيف بالانتشار في البلدة وفي محيطها وأبعد.
ما حدث للشاب عاصي نعيم شحادة مستفز لكل آدميّ رضع حليب أمّه، لكنّه مخيف في الوقت نفسه! مخيف ببساطته وسهولة حدوثه مع كل واحد منٰا.
في وسط بلدة وادعة ما زالت تستدفئ على ما يتسلل من شعاع شمس كسولة لتفيق وتنشط، ثلةٌ من أولاد "رامبو" ينقضون على شاب أعزل وهو وراء مقود شاحنته. يهاجمونه بلا توقّف وبلا شجاعة ينكٰلون به على قارعة الطريق وبين البيوت. يستدعون من تخلّف من المجموعة، فالصيد لمن مثلهم لا يكتمل إلٰا باكتمال النصاب والعدد!
في عمر الورد عاصي وكَسَروِ الجليل، لكنّه واحد وحيد اصطيد في ذلك الصباح وكانوا أكثر ممّا تتيحه مغامرة وتسوّغه بطولة. سحبوه إلى خارج القرية، إلى حرش قريب وهناك كرجال عصابات محترفين أفرغوا على جسده كل الضغائن وقيح أمراضهم. ضربوه حتى التعب وكعادتهم لجأوا إلى خيمة الضحية وما توفّره من فرص حماية ونجاة.
جراح عاصي وإصاباته كثيرة. الأطباء في مستشفى الجليل عالجوها ومنها سيبرأ ويعافى. لن يتعافى عاصي من جرحه الآخر. حرّ يمسّ ويضرب ولا حول له ولا مفرّ! إنّه جرح "العجز"، عجز الإنسان في بلده وبين أهله، حين يغدو فريسة لأنياب من بزيّ القانون يحتمون وبزيف الرواية والادّعاء يعيشون.
قصة عاصي كشفت عن قصة شاب كفرساوي آخر، عيسى هكول، كان ضحية لاعتداء مشابه من نفس أفراد هذه الوحدة المفترسة. عيسى ضرب على عينيه وما زال يعاني من ضرر جسيم فيهما.
أكتب عن ضحايا كفرياسيف وأعرف أن اعتداءات مثيلة حدثت في قرى ومدن أخرى وفيها كانت الضحايا كعاصي وعيسى، شباب في عمر الورد أخذوا على حين غفلة، فرادى في وجه عدد وزيّ وهراوات وقانون مدّعى!
من "حظ" عاصي أن الانقضاض عليه وساحة القنص صوّرت من كاميرات منصوبة في المكان. كاميرات خرساء حيادية لدرجة البله! خزّنت عارهم وعرَّت زيف الرواية الرسمية. عرضت "بطولة" من باسم القانون يستأسد ويحوّل مواطنين إلى ضحايا وأهداف ترمى بحقد ومرض وانحراف، فوثّقت كيف يصبح مواطن آمن، يفيق ساعيًا وراء لقمة عيش شريفة، ظلّا وجرحًا نازفًا.
ربما من باب صدفة تزامن الاعتداء في كفرياسيف مع بداية أكتوبر. وربما ما حدث في كفرياسيف هو ردّ مستبق ومقصود من هذه الشرطة، فكأني بها توصل الرسالة من على أجفان عيسى وعيون عاصي، كمدات وزرقة ومرارة، تذاكر وتأكيد وإصرار منها. فشرطة ذاك الأكتوبر ما زالت هي الشرطة، لا صياحكم ولا أنينكم ولا لجنة "أور" أو غيرها تنفع وتفيد.
ربما كان الكمين مقصودًا وكفرياسيف منتقاة لتكون هي مسرح الرسالة والبروڤا، فلا مبرر لما حصل ولا تفسير، لأن الذي حصل كان مستفزًا لكنّه مخيف كذلك! سيان عندهم أن نُستفز وأن نخاف فالطريق ستوصلنا إلى أكتوبر الثاني!
هكذا قرأت ما حصل في كفرياسيف ومعه قرأت ما دعت إليه لجنة المتابعة العليا في ذكرى أكتوبر الأول. مسيرات احتجاج ومهرجانات خطابات وصلاة على أرواح من ارتقوا شهداء، وصلاة للأحياء منّا علها تقينا شر أكتوبر آخر أو شر هزيمة وجرح وندبة ستبقى محفورة في الذاكرة وأحلام عاصي وعيسى.
أقول هذا وأتحسر على من رحل وعلى من جرح ومن سيرحل ومن سيجرح، فلقد كتبت وقلت مرارًا إن قياداتنا لم تكن على قدر المسؤولية والحدث. أن نصرخ ونشكو ونلعن ونحسن وصف الشرطة والدولة بعداء الجماهير والمعتدين وما إلى ذلك من مواقف صحيحة لا يكفي. على هذه القيادات أن تفعل أكثر كي تضمن حمايتنا وعدم تكرار ما حصل في أكتوبر الأول وما يرشح من رسائل حول ما قد يحصل في أكتوبر الثاني.
من البديهيات أن اللوم على الجاني وليس الضحية، والجاني هو سياسة حكام إسرائيل العنصرية القمعية، إلا أن قيادة لا تستطيع حماية شعبها ولا تستطيع أن تبرهن أنها فعلت كل "ما يمكن وما لا يمكن" من أجل حمايته غير جديرة بمواقعها وقيادتها. من واجب هذه القيادات أن تحمي الجماهير وإذا ما قامت به لغايته لم يكن كافيًا فهذا دليل على الفشل وشهادة على القصور.
رسالة الشرطة واضحة وضوح الآه وحد السكين، فهذه شرطة كالمافيا تعتمد منذ بداية الوجع سياسة التخويف والإذلال ضمانة "لحبنا" لها ورهبتنا منها. وكالمافيا آمنت أن لا مكان للحياة والاحترام بين القبضة والحرير وبين "الجاروشة" وحبة القمح! هكذا كانت الرسائل تفد دومًا وهكذا جاءت الرسائل في أكتوبر. ودومًا غاب الجواب فهل سيبقى الجواب عاصيًا؟
jawaddb@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق