زاغت أبصار الإسرائيليين، ودارت عيونهم في محاجرها، وبلغت قلوبهم الحناجر، ومادت الأرض تحت أقدامهم وتزلزلت، واضطربت رؤوسهم خوفاً وحيرةً وقلقاً، فلا يكاد يصدقون ما يحدث أمام عيونهم في مصر، فقد انهارت آمالهم، وتصدعت أحلامهم، وسقطت مخططاتهم، ولم يعد لهم حراسٌ على الحدود يحرسون كيانهم، ويسهرون على راحتهم، ويعملون لأجلهم، ويعاقبون كل من يحاول المساس بأمنهم، فقد أتت الثورة المصرية على بنيانهم، ودخلت إلى سفارتهم، وعبثت بأوراقهم، وأجبرت سفيرهم وحراسه على التخفي للخروج من السفارة من غير باب العمارة، ليغادر القاهرة وهو لا يعلم إن كان يستطيع العودة إليها مجدداً، وبات من كان يعمل لأجلهم نزيل السجون، يتردد كل يومٍ إلى قاعات المحاكم، توجه إليه تهمة خيانة تاريخ مصر، وضمير مصر، فيشمت به المصريون، ويضحكون من مآله والمخازي التي تنتظره، ولكنهم لا يترحمون عليه، ولا يتمنون له المغفرة، ولا يدعون له بالفرج، بل يأملون أن يكون وغيره عبرةً لكل من تآمر على كرامة الأمة، وأسقط هيبتها، وأهان تاريخها، وفرط في مستقبلها، وتآمر مع عدوها، وتحالف مع خصومها، فلا الحلفاء تمكنوا من حمايته، ولا الأعداء استطاعوا أن يحتفظوا بما سرقوه من حقوق الأمة، فلا حاضراً لنفسه أبقى، ولا مستقبل لذريته ضمن، ولا تاريخ مشرف لنفسه وأهله حفظ.
يتساءل الإسرائيليون بألمٍ وحسرة أين مصر التي كانوا يدخلون إليها دون خوفٍ متى شاءوا، يتجولون في شوارعها، ويجلسون في مقاهيها، ويشترون من أسوقها، ويزورون كل مكانٍ فيها، ويطوفون في معالمها السياحية في الجيزة والأقصر وأسوان، يركبون الخيول والحمير والبغال والجمال، ويستحمون في شواطئها، ويستمتعون بجمال طبيعتها، وسمرة أرضها، وحرارة شمسها، ويقيمون في أكبر فنادقها، ويملأون أشهر منتجعاتها، فقد كانت لهم الأولوية والصدارة، ولهم الأمن والحماية، لا يخافون من أحدٍ قد يعتدي عليهم، أو يعكر صفو رحلتهم، ويحاسبون من لا يبش في وجوههم، ويعاقبون من أساء إلى مشاعرهم، أو امتنع عن التعامل معهم، فقد كانت حصانتهم كبيرة، وامتيازاتهم مهولة، وحقوقهم محفوظة، وطرقهم مؤمنة، وحافلاتهم محروسة، واتصالاتهم مع سفارة كيانهم ساخنة ليلاً ونهاراً، تتابع شؤونهم، وتلاحق معاملاتهم، وتفرض لهم الحماية والمرافقة، وتسعى لضمان راحتهم، وتأمين سلامتهم.
المصريون بثورتهم ينهضون كل يومٍ من جديد، يعيدون البريق الأصيل والألق القديم إلى الشعب المصري العتيد، ويلقمون في كل يومٍ حجراً في أفواه الإسرائيليين، ويطرقون على رؤوسهم وأدمغتهم بمطارق من حديد، ضرباتٍ متلاحقةٍ متتالية، فمصر التي حاول نظام مبارك أن يرسمها لهم، وأن يجعلها حديقةً خليفةً لكيانهم، لم تعد كذلك، والعلم الإسرائيلي الذي رفرف طويلاً فوق أبنية القاهرة، أصبح من الصعب على أي ساريةٍ مصرية أن تحمله، ومن المتعذر عليهم إيجاد مبنى يستأجرونه، أو عقارٍ يشترونه، وسيفكر الدبلوماسيون الإسرائيليون آلاف المرات قبل أن يقبلوا العمل في سفارة كيانهم في القاهرة، إذ لن تكون فترة عملهم فيها ممتعة ولا نزهة، وسيجدون أنفسهم مضطرين للعيش في غيتواتٍ مغلقة، وتجمعاتٍ صغيرة دقيقة ومحسوبة، ولن يجدوا من الشعب المصري من يقبل العمل معهم، أو تقديم الخدمات لهم، وإن كانت قصة السفارة العمارة يوماً فيلماً، فقد أضحت اليوم حقيقة لا خيالاً.
الإسرائيليون سيتوقعون في الأيام القادمة أحداثاً جديدة، وسيشهدون مواجهاتٍ مختلفة، فلن تتوقف الأحداث عند سفارتهم في القاهرة، ولن يكتفي المصريون بحصارهم والتضييق في عاصمة بلادهم، فسيلاحقونهم في طابا وشرم الشيخ، وفي سيناء وفي أسوان، وفي كل مكانٍ كانوا يرتادونه ويستمتعون به، وما لم يتمكنوا من تحقيقه هذه المرة فإن الأيام القادمة كفيلة بتحقيقه، وسيكون هدفهم القادم اتفاقية كامب ديفيد المذلة، التي مست سيادتهم وكرامتهم، والتي عزلتهم عن محيطهم، وأساءت إلى تاريخهم، وأبعدتهم عن أدوارهم القومية، فالمصريون الأصلاء الشرفاء قادمون، يحملون معهم مطارقهم وفؤوسهم وكل آلات الطرق عندهم، ليقولوا للإسرائيليين قد أخطأتم كثيراً عندما ظننتم أن هذا الشعب قد نام واستكان، وأنه رضي بالذل والهوان، واستبدل رأسه المرفوعة بكسرة خبز أو قطعةٍ من قماش، وقبل بالعيش المهين حارساً للكيان الإسرائيلي، ومعادياً لنفسه وأهله وشعبه وأشقائه الفلسطينيين، يتآمر معهم ويقاتل إلى جانبهم، ويسكت عن اختراقهم له، وعبثهم بأمنه وسيادته، فذلك النموذج المخزي الذي أراده مبارك لشعب مصر قد انتهى وولى، وحل مكانه شعبٌ أبيٌ حرٌ أصيل، يتوق إلى الماضي، ويتطلع إلى المستقبل، ويرنو بعيونه إلى العزة والكرامة، ويتطلع إلى جيشٍ مصريٍ قوي، ودولةٍ مصرية عصرية تحرص على حياة وكرامة شعبها، وترفض أن تدفن أبناءها على استحياءٍ بصمتٍ في جوف الليل، وترفض أن تنام عن حقها وتسكت عن قاتل أبنائها ليعود فيقتلها من جديد.
لم يكن يتوقع الإسرائيليون أنه سيأتي يومٌ تعود فيه الأمور إلى حقيقتها، وترجع مصر إلى مربعاتها الأصيلة الأولى، وموقعها الريادي الأول، ولكن ثورة مصر وشعبها صنفتهم من جديد أنهم أعداء غير مرغوبٌ بهم، ووجوهٌ غير مرحبٍ بها، وأن عليهم الرحيل والمغادرة، واليقين بأنه لم يعد لهم في مصر مكان، فلا المصريون يرحبون بهم، ولا شمس بلادهم الحارة ترغب أن تلون أجسادهم، ولا أن تلوح وجوههم، وقد أدرك الإسرائيليون أنه لم يعد في مقدورهم أن يتجولوا في شوارع مصر، ويشتروا من أسواقها، ويعبثوا بأمنها وسيادتها، فقد باتت أصوات جيرانهم في السفارة مرتفعة، وإرادتهم قاهرة، ويستطيعون أن يجأروا بحقهم بلا خوفٍ من أمنٍ مركزيٍ يلاحقهم، ولا وزير داخلية يستمد القوة من ولاءه لهم، وسهره على راحتهم، ويطالبون برحيلهم، ويرفضون جوارهم، ويمتنعون عن تقديم الخدمات لهم، ولعل جمال وخيول وحمير الجيزة والهرم ترفض أن يمتطيها الإسرائيليون، وأن يستمتعوا بالتجوال على ظهورها، مقابل بضعة دولاراتٍ أصبح المصريون يرون أنها نقود قذرة وملوثة، وأن أصحابها لا يقلون عنها خسةً ونذالة وحقارة، فهي أموالٌ لشراء الذم وقتل الضمائر واسترقاق النفوس، فالمصريون ليسوا في حاجةٍ لها، ولا يرغبون أن يشتروا حليب أطفالهم منها، أو يربوا صغارهم عليها، فهي أموالٌ عليهم وعلى أولادهم حرام، لا يستحلونها ولا يرغبون في كسبها.
0 comments:
إرسال تعليق