الجامعة العربيّة كجهيزة، في قولها "قطعُ قولِ كلِّ خطيب"، ففي التئامها "الأردوغانيّ" بالأمس ونقل مطرقة الرئاسة من آل قابوس إلى آل حمد جاءنا "القول الفصل" في خطاب "ابن حمد" الافتتاحيّ الترحيبيّ بالضيف العثماني.
تناولتُ قبل أسابيع الأحداث في سوريّة في مقال تحت عنوان "سوريّة وفلسطين...من قضيّتنا تُشتق المواقف"، ادعيت فيه أنه لكي تُقرأ الأحداث الجاريّة في سوريّة قراءة صحيحة وتتخذ الموقف ما من مجال إلا الغوص في القضيّة الفلسطينيّة والاشتقاق منها. وفي آخر تحت عنوان "المبادرة العربيّة تجاه سوريّة خنجر ذو نصلين" قلت أنّ براء الذمّة وحسن النيّة في المبادرة لن يطول اكتشافهما.
وعينيّا عدت إلى المبادرة العربيّة للسلام بيروت 2002 المبادرة "العبداللاتيّة-البوشيّة" التي كانت طُرحت حينها للنقاش، ولبُّها أن "السلام العادل والثابت والشامل" في الشرق الأوسط يعتمد على قيام الدولة الفلسطينيّة في حدود ال-4 حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة ودون ذكر لحق العودة كما يفهمه كلُّ حفيد لاجىء أو مهجّر فلسطينيّ.
لم يجد خادم الحرمين مدعوما بملوك ورؤساء وأمراء وسلاطين القمّة العربيّة، فرصة أكثر ملائمة لطرح مثل هذه المبادرة والرئيس طيّب الذكر ياسر عرفات غائبا محاصرا في المقاطعة، فيا له من توقيت مميّز (!). تصدّى للأمر رئيس القمّة الرئيس اللبناني حينها إميل لحّود مثلما كشف مؤخرا، ولا يهمّنا في هذا السياق إن كان تصدّيه فلسطينيّا أو لبنانيّا توطينيّا، والرئيس السوريّ حديث العهد بشّار الأسد.
انتهى الأمر، وحيث أن قرارات القمّة يجب أن تؤخذ بالإجماع حسب دستور الجامعة العربيّة، إلى تعديلها وإدخال هذا الحق ولكن مبتورا إذ تمّ الحديث عن حلّ "متفق عليه" بمعنى إعطاء حقّ النقض "الفيتو" لإسرائيل، فعلى الأقل "مجرّح" يمكن أن يشفى ولا "مقتول" لا تحلّ عليه إلا الرحمة.
حتّى هذا النص لم يعجب شريك المبادرة بوش ولا إسرائيل وخرجت المبادرة "عاقرا"، وقلت في مقالي المذكور أننا عندما نتحدّث عن معنى الممانعة والمقاومة للمشاريع "الصهيو-أميركيّة" فهذا أحد معانيها. وكنّا قبل أشهر بدأنا نُبَشر أنا المبادرة في طريقها إلى القبر أو بكلمات الأمين العام السابق "لن تبقى على الطاولة إلى ما لا نهاية"، ولكن واقعيّا قد قُبرت في اللحظة التي لم تخرج كما كُتبت في البنتاغون وتل أبيب وقُرأت ترجمتها على يد خادم الحرمين، ولفظتها أميركا وإسرائيل لفظ النويّات.
عودة على بدء، ما كاد "إبن ثاني" يستلم مطرقة الرئاسة ( وأدعوكم إلى العودة إلى كلمته الافتتاحيّة الترحيبيّة الأردوغانيّة) إذ قال سُموّه: "إن السلام العادل والشامل والثابت يرتكز على إقامة دولة فلسطينيّة في حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة" (هكذا) ودون أن يذكر حتّى كلمة لاجئين في أي سياق، ووسّط كلمته بالدعم العربيّ للمطلب الفلسطينيّ بالاعتراف الأمميّ، وأنهاها بالعودة إلى المبادرة معرّجا على "الشقيقة" سوريّة مستوحيّا من أقوال الضيف "ما يُبنى على الدم يُهدم بالدّم".
كلّ ذلك وأردوغان يهزّ رأسه إعجابا وموافقة، فبعد قليل سينزع "أبوّته" العثمانيّة عن سوريّة و"سيشتم" إسرائيل خصوصا وأنه عائد لتوّه من زيارة ميدانيّة لمواقع الدروع الصاروخيّة التي نصبتها أميركا على أرضه حماية لربيبتها من الشيطان الإيراني(!).
هذه الخُطب "العصماء" بجوهرها وشكلها تجيء وفي الغرف الخلفيّة المجاورة مبعوثو الإدارة الأميركيّة يشاهدون بالبث الحيّ والمباشر المجريات، ومصر غائبة فعليّا وسوريّة غائبة عمليّا وال"ميدان خالي لحميدان"، والسلطة الفلسطينيّة التي تعيش بين نار الفيتو الأميركيّ والتوسّع الاستيطانيّ المدعوم بفيتو أميركيّ من قبل أشهر قليلة إكراما للمجتمعين، ونار العجز العربيّ المزمن وبعد أن ماتت المبادرة العربيّة و"طلعت ريحتها".
وإلا لماذا اختار الفلسطينيّون التوجه للأمم المتحدة لو لم تزكم أنوفَهم رائحتُها ؟! فما الذي حدا ممّا بدا لإعادة إحيائها كما أفادنا الأمير رئيس الاجتماع ؟! وكيف لنا أن نصدّق أنّ أولاد أميركا يلعبون من وراء ظهرها؟!
يجب ألا يغيب عن البال إضافة إلى الوقائع أعلاه حقيقة أنّ إسرائيل ومنذ خمس سنوات وعينيّا بعد حرب تموز ال-2006، تؤهل جيشها في برنامج تدريبات سنويّ أطلقت علية اسم "نقطة تحوّل" استعدادا أو توجّسا من حرب هلاليّة إيرانيّة سوريّة لبنانيّة.
خلاصة القول وخلافا لما جري ويجري في مصر، لا يمكن الفصل بين ما يجري في سوريّة عن القضيّة المحور القضيّة الفلسطينيّة، فالتهديد الأساس لإسرائيل وباعترافها هو ليس حدود حزيران ال-67 ولا القدس الشرقيّة وإنما التهديد الديموغرافيّ والذي ترجمته حقّ اللاجئين في العودة وفلسطينيّو الضفّة وغزّة وال-48. في مصلحة إسرائيل رأس الحربة والقاعدة الأماميّة للغرب الثابتة شعبا وسلطة، تُختزل كل المصالح "الغربيّة- الملوكيّة- السلاطينيّة" في الشرق، ومصلحة إسرائيل هي حمايتها ديموغرافيّا فحمايتها عسكريّا مضمونة.
وأمّا إحدى أدوات الحماية فهي المبادرة "البوشيّة- العبداللاتيّة" ورغم أنها نفقت فيجب إعادة إحيائها "منظفَة" ممّا علق فيها في بيروت (مرّة أخرى أدعوك إلى مراجعة خطبة سُمّو الأمير) وتماما في هذا الوقت أمر لافت لأنه ليس وليد صدفة، فهو وقت يعتقد أصحابها أن الوضع مؤات مصريّا وسوريّا وفلسطينيّا. كان العائق بداية الموقف الممانع لبنانيّا وسوريّا كما حدث في قمّة بيروت 2002 وطبعا لا يمكن إلا أن نقرأ هذا الموقف ليس بعيدا عن مواقف حركة المقاومة الفلسطينيّة /حماس وبقيّة الفصائل الفلسطينيّة المدعومة سوريّا ولبنانيّا، وفلسطينيّا رسميّا.
لا أعتقد أنّ أحدا مع النظام السوريّ كان، أو ضدّ النظام السوريّ، أو مع النظام السوريّ في مسيرة الإصلاح مثلي، لا يعرف وليس متأكّدا أن أعداء الشرق يبيّتون لسوريّة ولبنان وحلفائهما فصائليّا فلسطينيّا وإيرانيّا شرّا مستطيرا ويتحيّنون فقط الفرصة المواتيّة والتوقيت المناسب. فجاءت الثورات العربيّة وما أن تحرّكت بعض فئات الشعب السوريّ كامتداد طبيعيّ لها حتّى وجدوها كما "يوريكا" سقراط الذي خرج عاريا صائحا "يوريكا...يوريكا" من فرط حماسته، فخرجوا هم من فرط حماستهم عراة يعتقدون أنّ رميم المبادرة العربيّة وفلسطين ستستران عُريهم وبعد أن "شلّحوهما" لبوسهما السوريّ "العلويّ"، والمقاوم اللبناني والفلسطيني.
وإلا كيف يمكن قراءة هذا التزامن بين هذه المواقف المتخّذة بالبثّ "الجزيري-العربيّ- البي بي سيّ-الحُرّي" وأزيز رصاص من بنادق لم تدخل سوريّة بين عشيّة وضحاها وإنّما كُومت في سوريّة على مدى سنوات انتظارا للحظة المواتية للانقضاض؟!
على هذا الأخير وغيره مطلوبة الإجابة من القيادة السوريّة أولا، وعندها كل عباءات الدنيا والبذلات الإنجليزيّة لن تغطي "بلوتو- البِرْجيس أو المشتري عند العرب"، أبعد الكواكب في منظومتنا الشمسيّة لا بِرْجيس سوريّة ولا مشتري فلسطين.
0 comments:
إرسال تعليق