في لبنان لا شيء يخضع للعقل والتعقّل حيث بات الصراع على النفوذ السياسي والسلطوي العامل الاول والاخير في اي تحرّك. وهذا الصراع المرير اطاح بالقيم والمفاهيم الى درجة اصبح فيها المواطن خاضعاً للغريزة وترديد اللازمات التي يعدّها المفجوعون بخسارة السلطة والتائقون الى اقامة الامارات والدويلات الوهمية.
لم يعرف لبنان حتى في خضمّ الحرب الاهلية والاقتتال الطائفي او في حقبة الهيمنة والاستقواء هذه الحالة من الاستهتار الاخلاقي وعدم مراعاة المشاعر الى درجة لم يعد فيها من الممكن تمييز القانون عن الممارسات الثأرية والتباهي وبالانتماء الى الظلامية.
ربما كان النائب محمد رعد موفقاً بتوصيفة الحالة الاعلامية السائدة على الساحة اللبنانية ولو كان كلامه موجعاً وحاداً حيث قال : «تفوح منها رائحة الأسن ونتانة الفتن».
بعيداً عن مواضيع السلاح الشرعي وغير الشرعي وتمويل المحكمة الدولية او عدم تمويلها والتخوّف من عودة الكهرباء واتباع قوانين المحاسبة، سنحاول التعليق على قرار قضائي بحق العميد المتقاعد فايز كرم.
قبل كل شيء، وقبل ابداء اي وجهة نظر لا بدّ من احترام القوانين والاعراف وعدم اضعاف الثقة بالقضاء اللبناني الذي عاش فترة تزيد عن الثلث قرن في جوّ من الخوف والتخويف وواجه هذا القضاء ابشع الاتهامات والتهديدات التي وصلت الى حدود اغتيال اربعة قضاة على قوس محكمة صيدا.. يا للهول والاجرام حيث لم يعثر على الجناة وبقيت التهمة ضدّ مجهول.
وهذا المجهول اصبح معلوماً على ما يبدو في زمنا الحالي وتطوراته.
فقد تمّ اعتقال العميد كرم بعد عام من اعتقال المدعو زياد الحمصي احد قياديي تيار المستقبل في البقاع ورئيس بلدية سعدنايل السابق. وقد عثر بحوزته على اجهزة ارسال وتخابر مع الاسرائيليين واعطائهم معلومات عسكرية وسياسية. وبعد التحقيق طالب الادعاء العام بانزال العقوبة بحقه من 15 عاماً الى الاعدام. حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن 15 عاماً، اي المدة الأخفّ. لم يستغلّ احد قضية زياد الحمصي ويوجه الاتهامات الى تياره او مسؤوليه السياسيين وهذا هو المنطق السليم لأن ما فعله الرجل كان مسؤوليته وحده.
ولن نصدّق هنا ان اعتقال العميد كرم بعد مطاردته ومراقبته كان للثأر من قضية الحمصي. بل نكتفي ان نعترف ان القرار الظني والادعاء العام طالبا بسجن كرم من 3 سنوات الى 15 سنة وفق المواد القانونية. وهذه التهمة لا تعني ان المتهم ارتكب جريمته بل كان ما فعله جنحة تمثلت باجرائه اتصالات هاتفية مع مواطنين فرنسيين وبلجيكيين يحملان جنسية اسرائيلية. وقد برأه القضاء من تقديم اي معلومات عسكرية او سياسية للمتصلين.. واذا كانت محكمة التمييز ستنظر في الحكم بعد اسابيع او اشهر قليلة فمن الضروري ان ينتظر المتشّفون والانتقاميّون قرار اعلى هيئة قضائية في لبنان.
المثير والمستغرب هو هذه الهجمة المكثفة على العميد كرم حيث لم يبق كاتب كبير او صغير او قادر على تهجئة الكلمة الا وخاض غمار التهجّم والاتهام ضد الرجل ارضاءً لدافع او محرّض بهدف الاساءة الى سمعة الفريق السياسي الذي انتمى اليه كرم وليس كرهاً باسرآئيل.
وحتى لا نغوص بعيداً نذكّر ونتذكر ان اكثر من عشرين شخصية لبنانية دخلوا البرلمان والحكومة خلال السنوات العشرين الماضية كانوا زاروا اسرائيل او اجروا معها الاتصالات او تدربوا في معسكراتها او التقوا ضباط الاحتلال وقدموا لهم البقلاوة والشاي والفواكه.. هذه الحقيقة يعرفها الجميع في لبنان ولكنهم تجاوزوها لأن الاتصال والتعامل مع اسرائيل عند العرب اصبح وجهة نظر ولم يعد من المحرمات.
لعل الكثيرين قرأوا مذكرات واعترافات بعض المسؤولين اللبنانيين عن زياراتهم لاسرائيل واتصالاتهم مع اسرآئيليين في امكنة متعددة.
بات من الضروري ان يعود اللبنانيون الى اخلاقية التعامل والتخلي عن الكيدية والثأرية والتشهير لأن استهداف الخصم السياسي حتى الاغتيال الجسدي او المعنوي ممارسة تؤدي الى تدمير الاوطان.
اننا ندرك ان لبنان يشهد صراعاً مريراً على السلطة التي انتقلت من فريق الى آخر وهذا يجب ان يكون ظاهرة صحيّة باتجاه حالة ديمقراطية سليمة. ولكن حالات التخوين بالارتهان للأجنبي وسوء الادارة والرشاوي ليست من الاساليب الايجابية في العمل السياسي.
الى ايّ مدى ستصل حالة السجال السياسي الضارية في لبنان؟.. كيف ستنتهي الرماية العشوائية للتصريحات والانتقادات الصادرة عن مرارة لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية؟.. الى متى سيستمر تخويف اللبنانيين في الخارج والداخل من خطورة الوضع الامني ومجاهرة بعض المسؤولين والاتباع بأن بقاءهم في الخارج افضل واكثر اماناً على حياتهم من الاقامة في وطنهم؟
اي متى سنتقي الله؟.. وحده العليم المجيب
0 comments:
إرسال تعليق