إرادة الحياة والفرح المؤجل/ زهير الخويلدي

"الإرادة هي إرادة الحياة التي تعبر عن نفسها كاندفاع أعمي لا عاقل نحو الحياة"[1] – أرثور شوبنهاور-
إن الرغبة في الثورة هي التي جعلت الشعب الموحد يذيب العصر الجليدي ويقضي على المشاعر السلبية والقوى الارتكاسية ويشعر بالحاجة الماسة إلى حسم الأمور لصالحه والتسلح بالنضج البطولي وإرادة الحياة والإحساس بنشوة الانتصار على الظلم وإطلاق مملكة الخيال ليحلم ويشرع في تحرير القوى الفاعلة من سجن القمع والارهاب ويركض نحو ميادين العزم والأمل.
والحق أن الشعب لم يرغب في الثورة لأنه أوجد لها العلل الكافية بطريقة جنينية وحاذقة وصبورة وإنما هو أوجد لها الأسباب الموضوعية لأنه رغب فيها وحلم بها وحولها من عالم الممكن إلى عالم الوجوب. إن اندفاع الشعب نحو الثورة هو اندفاع لاواعي وحماسي نحو الحياة غير مبالي بالموت وما يتعرض له من أذى وضرر وان وهجومه على سجانيه وظالميه هو هجوم تصاعدي غير مكترث بالأهوال والعواقب والمحن.
في الواقع تمر الحقائق حسب فيلسوف الإرادة والحياة شوبنهاور بثلاث مراحل: الأولى أن تتعرض للسخرية، والثانية أن تقاوم بعنف، أما الثالثة فأن يتم اعتبارها من المسلمات. وحقيقة الثورة التونسية هي من هذا القبيل فقد سخر منها البعض في البداية واعتبروها مجرد تمرد أو انتفاضة وأن النظام القديم سيتمكن من تنظيم صفوفه والالتفاف عليها، وحاول البعض الآخر بعد ذلك مقاومتها بكل ما أوتي من حيلة ومكر وعنف رمزي ومادي ومحو آثارها والسطو على ثمارها والركوب على مسارها وتحويل وجهتها لحساباته الخاصة. لكن في نهاية المطاف الفريق الثالث وهو الشعب قد اعتبرها من المسلمات وصارت في عداد البديهيات ولا يمكن التشكيك في ملابساتها وظروفها ودواعيها ورهاناتها ومطالبها وقد استبطنها في مخياله الاجتماعي وذاكرته الجماعية وهاهو يحتفل بمناسبة مرور عام على تفجرها بذكراها في 14 جانفي ويستعيد أحداثها لحظة بلحظة ويوم بيوم ويمر على كل مدينة انتفضت وكل شارع اهتز وكل معركة حصلت بالثناء والإعجاب وينظر إلى كل شهيد ارتفعت روحه إلى السماء وكل ثائر جرح بالدعاء والتمجيد والشفاء.
إن سر انفجار الثورة في تونس ونجاحها في إزاحة الدكتاتور هو من وجهة نظر الناشط خير الدين حسيب ناتج عن توفر أربعة شروط وهي: 1ـ كسر حاجز الخوف، 2ـ وحدة الإرادة الشعبية، 3ـ السلمية والابتعاد عن العنف الذي يوفر للنظام الأقدر على العنف تبريراً لاستعماله، 4ـ تأييد الجيش أو وقوفه على الحياد.
في الواقع يمكن إضافة معطى خامس إلى هذه الشروط الأربعة وهو تشكل حس مشترك كون حجما اجتماعيا هائلا مارس نوعا من الضغط السياسي على النظام رافعا سقف المطالب المستحقة إلى أقصى نقطة وهي المجاهرة بتمسكه برحيل الجهاز الحاكم برمته ومناداته بنظام برلماني بديلا عن الرئاسوية.
لقد شخص الشعب عن طريق الحس المشترك الذي هو إحساس بالوحدة بين الناس والمصير المشترك مجموعة من الأعراض في النظام الشمولي استنتج منها شيخوخته وقابليته للسقوط ولقد استقبل إشارات غذت لديه الأمل في تحقيق الهدف الأمثل لكل مدنية لا اجتماعية تحكم العلاقات السياسية غير المتنورة وهو الثورة ولقد قام بسد الطريق أمام إمكانية العودة إلى السلسلة المقيدة والانتظارات من الوعود الزائفة.
لقد كان الشعب على وعد بأن تحدث تجربة اجتماعية تاريخية في الوطن تكون علامة فارقة وحدثا استثنائيا يتحول على أثرها إلى علة التقدم نحو الأفضل وسبب الاستفاقة التي ستحصل للشعوب الأخرى.
إن بيت الشعر الشهير الذي كتبه أبو القاسم الشابي " إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" لا يعني إرادة الشعب فقط ولا إرادة الحياة في المطلق وإنما يربط بين الشعب والإرادة والحياة بحيث يقهر العجز والعدم والضياع في العالم ويصمم على العودة إلى التاريخ والفعل في الواقع ويستجيب له القدر، انه يعني أن الشعب يريد الحياة الكريمة في مجتمع عادل تديره مؤسسات مدنية ودولةعصرية دون فساد.
اللافت للنظر أن الثوار لم يعبروا عن فرحهم بمنجزاتهم وأن الاحتفال بمرور عام كامل على حدوث الواقعة ونزول البطشة الكبرى التي انتزع فيها الجمهور الحكم من خيوط العناكب الإبليسية لم يتم بشكل مرموق وأن التعبير عن السرور والافتخار بتنظيم انتخابات ديمقراطية وشفافة وقيام نظام سياسي تعددي توافقي ولو بشكل انتقالي عادل وهادئ لم يحدث وأن تحرير الفضاء العام من التضييق والاحتكار والسماح للأحزاب والمنظمات والهيئات والجمعيات والمنظمات بالنشاط العلني والحر لم يغير الواقع شيئا كثيرا.
إن العراقيل والتحديات التي تواجهها ثورة الكرامة والاستحقاق هي أكبر من استعداد النخب السياسية والحقوقية والثقافية على التفاوض والتفاهم والتوافق وهي أيضا أكثر من الإمكانيات الموضوعة على ذمتها من أجل إيقاف البلد على قدميها والشروع العاجل في إيجاد سبل للخروج من البشرية اللااجتماعية التي تتميز بالنزاع والعنف إلى حالة من التنظيم والمدنية وفق ما يأمر به العقل وتعيره القيم والحكمة.
إن عودة الاستقطاب الثنائي بين معسكرين متعاديين وتزايد الخطاب المتشنج والاعتصام بالايدولوجيا المغلقة دون القيام بنقد ذاتي للممارسات الخاطئة ودون إحداث مراجعات في النظريات يؤخر عملية الانتقال من حالة الفوضى والتوتر إلى حالة الاستعادة والارتقاء التدريجي ويدخل المجتمع في طريق مسدود ويزيد من تدهور الأوضاع واحتقان الأجواء ويفوت فرص كثيرة على الجميع من اجل استكمال مسار الثورة وتحقيق أهدافها ومحاسبة المسؤولين عن الفساد والمشاركين في الإفساد والاستغلال. ان الأموال التي صرفتها الأنظمة العربية من أجل افتعال المشاكل الداخلية لشعوبها ومحاربة معارضيها وتغذية النزعات بين الطوائف ومع جيرانها أكثر من تلك التي رصدتها للتنمية والتطوير الداخلي.
إن المطلوب هو خلاف ذلك التعاون على البر والتقوى والكف عن الإثم والعدوان وان أحسن المعاول النظرية والعملية الممكنة هو الصعود بالثورة من الشارع إلى الإدارة والذهاب بها من الأعيان إلى الأذهان وذلك بالتناصح بالحق والتواصي بالصبر واجتثاث الفساد من جذوره ومقاومة كل أشكال الارتداد. أليس الفرح الحقيقي للشعب هو أن يريد الحياة بشكل دائم وأن ينتصر على الروح الثقيل ونزعات العدمية؟ فمتى تصبح الشرعية الثورية هي الفيصل في النزعات بين الأصدقاء الألداء؟ وما الذي يسمح بأن يكون الرصيد النضالي والجدارة المهنية والكفاءة العلمية هي أساس تحمل المسؤولية وليس علاقات القرابة والمصاهرة؟ وكيف يتم ترجمة الإرادة الشعبية في مستوى القرارات المصيرية على أرض الواقع السياسي وتكون خير ضامن للديمقراطية الاندماجية الوليدة وتعمل على منع قيام دكتاتوريات ما بعد ثورية جديدة؟
المرجع:
Arthur Schopenhauer, Le monde comme volonté et représentation, traduction par Auguste Burdeau, éditions PUF, Paris,1966.

CONVERSATION

0 comments: