أتابع ما يكتب الأخ الدكتور ضياء نافع في موقع المثقف وأجد فيما يكتب جهداً كبيراً مشكوراً خاصة ما يتعلق منه ببعض الزملاء الذين عاصرنا معاً أو متفرقين بين السنين هنا أو هناك.
كما أشارك الأخ الدكتور عادل الجبوري فيما قال حول " مجاملة " الدكتور ضياء في بعض مواقفه وتقديراته لما يتناول من شخصيات لزملاء سابقين ولغيرهم من الذوات التي لها علاقة ما بالدكتور نافع.
فلقد كرّم وأشاد بشخص درس في جامعة موسكو في ستينيات القرن الماضي ثم صعد للأعالي زمن حكم البعث للعراق، كأنه لا يدري [ أو لا يدري بالفعل ] أنَّ هذا الشخص كان ذات يوم شرطيَّ أمنٍ وكاتب تقارير على بعض زملائه في جامعة السليمانية في عامي 1973 / 1974.
قلبُ ضياء طيّب جداً وحنيّن ومفرطٌ في بياضه .
لاحظت نواقص جديّة وجدباً واضحاً في عروضه وتعرّضه لجوانب من حياة بعض زملائنا الراحلين خاصة كأنه لم يعاصرهم ولم يتعايش معهم سنينَ عدداً، وقد يكونُ للذاكرة دورٌ في الأمر أولأحكام مرِّ السنين وما لاقاه العراقيون من مآسٍ وكوارث زمان حكم البعث وصدام حسين.
سأتطرق لبعض زملائي وأصدقائي ممن عاصرتُ خلال سنوات دراستي في جامعة موسكو متمتعاً بإحدى زمالات الوكالة الدولية للطاقة الذريّة [ 1962 ـ 1968 ].
1ـ المرحوم جليل كمال الدين /
لم أتعرف على المرحوم جليل في مدينة الحلة حيث درس في مدارسها وأكمل الصف الخامس الأدبي في ثانوية الحلة للبنين عام 1948 حين أكملت أنا الصف السادس الإبتدائي في هذا العام.
نعم، فُصل وسُجن على خلفية أحداث وثبة كانون 1948 حين لم يكنْ بعدُ طالباً في دار المعلمين العالية في بغداد كما أشار خطأً الأخ ضياء. كنا معاً ندرس في هذه الكلية وكانت علاقتنا جدَّ وطيدة خلال الدراسة فيها [ 1955/ 1959 ] هو في قسم اللغة الإنكليزية وأنا في قسم الكيمياء.
كان معروفاً وقتذاك عنه أنه رجل اجتماعي يحب الإنتظام في حلقات من محبي الأدب يكون هو في المركز ويكون اللولب الحَرِك والمُحرّك معاً ... وتحلّقت بالفعل حوله في نادي الطلبة في دار المعلمين العالية مجموعة من الزملاء فيهم الفنان نور الدين فارس وزائرون لنا أذكر منهم الفنان إسماعيل فتاح الترك والقاص الصحافي نزار عبّاس وسواهم لا أتذكر أسماءهم اليوم. كان يومذاك ينشر مقالات نقدية أدبية في مجلات أدبية واسعة الإنتشار منها مجلة الأداب لسهيل أدريس ومجلة فنية عراقية لا أتذكر عنوانها وكان فخوراً بما ينشر ويعمم ما ينشر على أعضاء تلكم الحلقات والتجمعات الصغيرة. ما كان يتكلم في السياسة ولكن مارسها بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بشكل فعاليات مؤيّدة للثورة ومناهضة للتيارات القومية والبعثية ولديَّ بعض التصورات عن تلك الفعاليات لا تستحق الذِكْر.
أكملنا دراستينا في دار المعلمين العالية وقد غدا اسمها بعد ثورة تموز 1958 " كلية التربية " وجرى تنسيبنا بأمر وزاري مدرسين على التعليم الثانوي في بعض مدارس مدينة الحلة. إلتحقَ في عام 1960 ببعض الزمالات التي كان الإتحاد السوفييتي يمنحها للعراق وغادر إلى موسكو ليدرس الأدب الروسي في جامعة موسكو / لومونوسوف.
في جامعة موسكو :
غادرتُ العراق فجر السادس من شهر آب عام 1962 متجهاً طيراناً نحو فيينا ومنها بعد حوالي ثلاثة أسابيع إلى موسكو. كان طبيعياً أنْ أسأل عن جليل كمال الدين فالتقينا ورتب في شقته في القسم الداخلي في جامعة موسكو لي والصديق عبد اللطيف السامرائي عشاءً عراقياً نموذجياً : مرقة بامياء مجففة ورز مع زجاجة فودكا جرّبتها هناك لأول مرة في حياتي ... نعم، كنّا في العراق نسمع بها لكننا ما رأيناها ولم نجرّبها.
بعد أنْ فعلت الفودكا فعلها في رأس الصديق السامرائي تذكر أهله فانحرط في نوبة بكاء حار كثير الجديّة وكانت هذه ظاهرة مألوفة بالنسبة للطلبة الذين يغادرون الوطن حديثاً لم يسلمْ منها ولم يشذْ كاتبُ هذه السطور.
تعثّرت دراسة جليل في جامعة موسكو لأسباب أعرف بعضها وأجهل البعض الآخر وأُوقفت مخصصاته الشهرية كطالب دكتوراه فضاقت به السُبل. قيل في حينه أنَّ زوجه الروسية ( أم علي ) كانت تساعده بين حين وآخر. ثم ساءت علاقاته العامة مع بعض زملائه العراقيين وأُتهم بالإنشقاق ومحاربة رابطة الطلبة العراقيين في الإتحاد السوفييتي وبنشر دعاوى مُغرضة ضد هذا الإتحاد وما كان الرجل محسوباً على تنظيمات الحزب الشيوعي. كان المرحوم كريم الراوي كثير الحساسية من جليل وكان جليل كثير الأدب خفيض الصوت يمتص الإستفزازات وبعض التجريحات بصبر وعصب بارد لكنه كان يعرف كيف يرد.
حُب جليل للكتب :
رغم ضيق ذات اليد وتوقف مخصصاته الشهرية ظلَّ حريصاً على اقتناء الكتب الأدبية بثلاث لغات هي العربية والإنكليزية والروسية وما كان يسمح لأحد بمسّها وما كان يعيرها لأحد سوى حادثة واحدة معروفة تخاصم فيها علانية مع أحد زملائه وجيران سكنه في القسم الداخلي إذْ استعار هذا منه كتاباً ثم أنكره عليه وكانت ملاسنة وأصوات عالية في أروقة القسم الداخلي......
إستثناء واحد : ما كان جليل يبخل عليَّ بأي كتاب أطلب استعارته منه. وبفضله وفضل مجموعة كتبه المغطاة دوماً بقطعة قماش بيضاء كبيرة تعرّفتُ على الشاعر توماس إليوت وقصيدته الشهيرة " الأرض الخراب ". كانت مكتبته مفتوحة أمامي في أي وقت أشاء. كانت ثقته بي كبيرة لأننا أصدقاء قدامى ومن مدينة واحدة وتخرجنا في كلية واحدة في بغداد ومارسنا التعليم الثانوي معاً ولبعض الوقت في مدارس الحلة ثم ما كنا نفترق أثناء دراستنا في دار المعلمين العالية.
المرحوم جليل شخصية قلقة كما أشار صادقاً الأستاذ ضياء نافع.
كان يغيّر مواقعه ومواقفه تبِعاً للظرف السياسي السائد. تجده يوماً شيوعياً متطرفاً وتجده في يوم آخر منكمشاً متحفظاً ناقداً ومنسحباً. عاصرته بالكثير من تلكم المواقف.
قلتُ كانت قد تعثرت دراسته في جامعة موسكو خلافاً للمعروف والمألوف حتى بلغت أو جاوزت العشرة أعوام. أخذ في نهاية المطاف شهادة الكانديدات وغادر الإتحاد السوفييتي وتم تعيينه مدرّساً في قسم اللغة الروسية / كلية الآداب في جامعة بغداد. بعد فترة قصيرة عرفت أنه أُختير من بين زملائه الآخرين الأقدم منه مسؤولاً عن هذا القسم وتسرّبت أنباء عنه مفادها أنه قد انضم لصفوف حزب البعث فانكمش عنه زملاؤه أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة الروسية وكان الأخ ضياء نافع يومذاك واحداً منهم بعنوان " معلّم جامعي " أو " مساعد مُدرّس " قبل حصوله على الدكتوراه سوية مع المرحوم الصديق محمد يونس. وكان معهم الصديق الدكتور سلام علي شهباز ( أبو سمير ). كنتُ أزور هذا القسم بين فترة وأخرى [ وخاصة في أيام الأربعاء .. ] أواسط سبعينيات القرن الماضي وكنت حينذاك مدرّساً في قسم الكيمياء / كلية علوم جامعة بغداد.
تركتُ العراق فجر التاسع من شهر تموز عام 1978 فانقطعت عني الأخبار أخبار جليل كمال الدين وأخبار غير جليل.
2 ـ المرحوم عدنان شفيق الزبيدي /
علاقتي بالمرحوم عدنان شفيق هي امتداد لعلاقات عائلية قديمة بدأت في ناحية [ قضاء ] المحاويل التابع للواء الحلة [ محافظة بابل ] في عام 1940 / 1941 ولم تنقطع أبداً خاصة بينه وبين اثنين من أشقّائي. أكمل كلية الزراعة في بغداد وكان يومها محسوباً على اليسار الوطني ويا ما سبب التزامه هذا للمرحوم والده من مشاكل إذْ كان والده مديراً في سلك الشرطة الملكية.
وصلتُ موسكو أواخر شهر آب عام 1962 والتقينا في جامعة موسكو حيثُ كان عدنان قد وصلها قبلي بعام أو عامين ملتحقاً بمعهد [ تيمريازف ] لدراسة الدكتوراه في بعض علوم التغذية والزراعة مع التأكيد على مادة ( البكتين ) كعلف حيواني فضلاً عمّا فيه من مركبّات طبية أخرى. إنتبهت يومذاك أنَّ للمرحوم عدنان الزبيدي علاقات خاصة مع اثنين من الزملاء العراقيين هما حمدي التكمةجي وجبار عطيوي ثم عرفت فيما بعد سرَّ حميمية هذه العلاقات.
كانت لقاءاتنا متواصلة كأنها امتداد للعلاقات العائلية القديمة يسّرها سكننا سوية في الأقسام الداخلية التابعة إلى جامعة موسكو / البناية الرئيسة العملاقة. عن طريق عدنان تعرّفتُ على بعض أصدقائه العراقيين أتذكر منهم سامي النصراوي ومحمد يونس وربما طارق درويش وفيصل الخالصي.
لعدنان شقيق أصغر منه اسمه خالد ... كان ضابطاً في سلاح الجو العراقي أُعتقل وسجن في إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963
ثم كان واحداً من مجموعة قطار الموت المعروفة.
أكمل عدنان دراسته وكنت حاضراً جلسة مناقشته لأطروحة الدكتوراه وكان مقتدراً مُجليّا فيما عرض وناقش بلغة روسية سليمة بليغة ثم نهض أحد الأساتذة فأشاد بشخصية عدنان وأثنى على علمه وجهوده المخلصة في مجالات البحث العلمي النظري والمختبري. وكانت بعد المناقشة حفلة ترفيهية كما جرت العادات يومذاك ـ وحتى اليوم على ما أحسب ـ يسمونها [ بانكيت ] تخللتها موسيقى ورقص وشرب عدنان مزيجَ الكحول المطلق [ 100 / 100 كحول ] مع معجون الطماطة وشربت معه على مضض إنتشاءً بالمناسبة ومجاملة لعدنان. لي صورة معه في تلك الأمسية. أتذكر من بين الحضور السيد سامي النصراوي ومحمد يونس وزميل للنصراوي طويل القامة كان يدرس القانون معه في نفس الكلية والقسم هو الأخ سعد الجوهر من أهالي الكرخ .. كان إنساناً رائعاً عظيم الخُلق أميناً يحترمُه ويُحبّهُ الجميع.
حان موعد مفارقة موسكو والإتحاد السوفييتي وكان هذا الفراق على عدنان صعباً جداً إذْ كان عليه أنْ يترك هناك في موسكو صديقته الروسية التي كان متعلقاً بها وإنها كانت تستحق هذا التعلّق. استشارني عدنان في موضوع فاجأني به : قال هناك سيارة ماركة كي دي كي رخيصة الثمن سيشتريها ويقودها إلى بغداد وطلب رأيي . قلت له إنها سيارة قديمة فمن وما يضمن لك وصولها بغداد سالمة .. وما ستفعل بها وبنفسك لو أصابها عطب وعطل في الطريق الطويل ؟ إقتنع المرحوم بوجهة نظري وصرف النظر عن هذا المشروع.
وصل عدنان إلى العراق فوجد أبواب الوظائف المناسبة موصدة في وجهه فعمل كموزع ومروّج أدوية صيدلانية روسيّة في مكتب أو شركة أو وكالة يديرها صديق له هو المرحوم الصيدلي عدنان برهان الدين الخطيب. في أيام خدمته الأخيرة لدى هذا المكتب قدّم استقالته ولكن كانت أمامه مهمّة أخيرة جرى التخطيط لها سابقاً تقضي أنْ يزور عدنان مدينة البصرة ليروّج ويوّزع مجموعة من الأدوية على صيدليات ومستشفيات البصرة. أنجز المهمة وتوجه إلى بغداد فكانت المصيبة تنتظر عدنان في الطريق بين البصرة وبغداد. أنقلبت أو تصادمت سيارة الأجرة التي أقلّته وتلفت ساق عدنان اليسرى أو اليمنى وتم قطعها فصار يمشي على عُكّاز. ترك فراش المرض واستعاد صحته الناقصة والكثير من قواه الجسدية فقدم طلباً للتدريس في جامعة السليمانية وزار هذه الجامعة فاعتذر عميدها منه وقد رآه يمشي على عكاز ! قال لهذا العميد : يعمل الأساتذة برؤوسهم وعقولهم وليس بسيقانهم ... رُفض طلبه وبقي عدنان الجميل القوي الخلوق عاطلاً عن العمل. أخذته معي ذات يوم إلى كلية العلوم القريبة من بيتهم في الأعظمية وقدّمته لرئيس قسم البايولوجي الإنسان الرائع المرحوم الدكتور أحمد شوقي أحد أبناء الحلة الأبرار. رحب به أيّما ترحيب وشرع يناقشه باللغة الإنكليزية نقاشات ذات علاقة باختصاص عدنان الدقيق فأبدع في إجاباته وزاد فدُهش أحمد شوقي وقال : لم أكن أتوقع أو أتصور أنَّ خريجي الجامعات الروسية يجيدون الكلام بالإنكليزية. عرض الدكتور أحمد أمر تعيينه مدرساً في قسم البايولوجي في كلية العلوم / جامعة بغداد فلم تحصل موافقة رئاسة جامعة بغداد وكان رئيس الجامعة يومذاك هو الدكتور سعد عبد الباقي الراوي المتأمرك والفاشي العريق المعروف.
إصطحبته معي بعد ذلك وعرّفته على السيد محمود خليل المرجاني، مدير البعثات العام وطلبت منه المساعدة في إيجاد وظيفة مناسبة لأخي عدنان شفيق. وعدَّ الرجل وبرّ بوعده فتم تعيين عدنان مديراً لمعهد تطوير النخيل وكانت الفرحة أكبر من الكبيرة. كنت أُكثر من زياراتي له في مكتبه في هذا المعهد وقد فوجئت ذات يوم بأنَّ بعض طالباتي في قسمي الكيمياء والبايولوجي في كلية العلوم كنَّ باحثات في معهد تطوير النخيل. عرّفتهنَّ عليه فرحب وفرح بهنَّ.
كان اللقاء الأخير ـ قبل مغادرتي العراق ـ مع عدنان شفيق في شارع الرشيد إذْ كنت مارّاً بسيارتي وكان هو على الرصيف ينتظر قدوم الباص الأحمر فأشار لي بذراعه الممدود ... رأيته فتوقفت وأخذته إلى حيثُ كان يقصد.
تزوج عدنان شفيق مرتين ... إصطحب الأولى منهنَّ معه إلى موسكو وأنجبت منه طفلة تحمل قسمات وجهه كاملةً لكنَّ هذه السيدة لم تُطق الحياة في الإتحاد السوفييتي في بدايات الستينيات من القرن العشرين فغادرت عدنان وموسكو وعادت للعراق منفصلة عن الدكتورعدنان شفيق. أظن اسم ابنته " هند ".
في بغداد تزوج عدنان من سيّدة محامية وكان سعيداً بزواجه الثاني.
وماذا عن صديقه الزميل السابق الدكتور والمرحوم محمد يونس ؟ تزوج شقيقة عدنان السيدة شيماء وعاش معها في مشتمل تابع لبيت أهل عدنان.
الرحمة لك أخي وعزيزي دكتور عدنان شفيق فهمي والسلامُ عليك يومَ وُلِدتَ ويوم فارقتنا ويومَ تُبعثُ حيّا.
0 comments:
إرسال تعليق