يعد أشرف العشماوي من أبرز الأسماء الروائية المصرية اليوم حيث يتخذ المفارقة تكنيكا خاصا لنسج عمله الروائي الأول ببراعة فائقة و هذا ما نشهده في "زمن الضباع" من خلال تشكيل النص و أبعاده الفكرية.
نجاح الرواية كنص متكامل عموما مبني على جزئين أساسيين ألا و هما الشكل و المضمون كما يرى ذلك الكثير من النقاد و هما محورين اعتمد عليهما الأديب المصري العشماوي من خلال استناده على استراتيجية المفارقة التي قامت عليها اللغة الساردة و التي تأخذ على عاتقها استخدام عنصر المجاز و التضاد و الجد و الهزل و غيرها من أساليب البلاغة بهدف مرواغة المتلقي كما أنها لا تخلو من عنصر التشويق و الدهشة.
"زمن الضباع" يعكس مفارقة في العنوان و هذا يأخذنا حتما الى مفارقة الأحداث ليتحقق الإنسجام خلال عملية السرد الأدبي. كما أن إختيار أشرف العشماوي لهذا العنوان لا يمكن أن يكون أمرا اعتباطيا، فلا بد أن يمتلك بعدا ايحائيا للمدلول وجدناه يثير التساؤل عن وجهة الكاتب و استراتيجيته الأدبية.
شخصيات رواية "زمن الضباع" من الحيوانات البرية تذكرنا بكتاب "كليلة و دمنة" لإبن المقفع أين نجد شخصية الأسد و خادمه الثور شتربه إضافة الى كليلة و دمنة (حيوانات ابن آوى) و عدة شخصيات تسكن الغابة، و هي قصص قائمة على نمط الحكاية تسعى الى إحداث تغيير أو إطراء عبرة في نفس القارئ.
يفترض الروائي في هذا العمل الأدبي تغيرات داخل الغابة بين كتلة الخير و كتلة الشر من خلال قيام حكم جديد بقايدة الخرتيت كما يقول السارد: "كان القرار مفاجئة بكل المقاييس، فلم يكن متوقعا على الأقل بالنسبة له أن يتولى الخرتيت أو أي حيوان آخر هذا المنصب الذي يحتاج الى أسد.. بل لم يكن في الحسبان، من الأساس، أن يتم عزل الأسد.." (ص 31-32).
سواء بقصد أو بدون قصد البناء السردي لهذه الرواية مبني على خلفية سياسية مليئة بالأحداث المثيرة للتساؤلات، فالغابة كانت المرآة العاكسة للبلد و الحيوانات هم الشعب بعينه على اختلاف طبقاته أما الحكم و السلطة فكانت بيد الملك (الأسد بداية ثم الخرتيت في النهاية) كما يعكسه الروائي بقوله: "دقت طبول عنيفة ثم بدأت الموسيقى تعزف ألحانا كلاسيكية، تليق بالموقف، و اندمج الحمير بملابسهم الحمراء المزركشة في قرع الطبول بشدة، بينما كانت القردة تتمايل طربا، و هي تنفخ في آلاتها النحاسية، و كانت الأنظار كلها تتجه صوب المدخل و الذي زين بالورود.. و عندما علت الموسيقى في دقات متتالية صاخبة شاهد الجميع الخرتيت، يتقدم على البساط الأحمر في خطوات ثقيلة، و رفع الجميع أيديهم و قابلوه بعاصفة من التصفيق الحار، و ابتسم الثعلب مرددا في خاطره.. مات الملك.. يحيا الملك.." (ص 42-43).
أول الخطوات التي اتبعها الخرتيت هي تغيير صياغة نظام الغابة الذي يستدعي إقامة التجمعات من أجل عقد اجتماعات و لقاءات و كذا إعادة تكوين المجموعة الحكومية التي ستسقط في التظليل و التهميش ليتفرد الضباع في اتخاذ القرارات العشوائية فيها كما يقول السارد: " غفل الخرتيت للحظات عن أنه قائد الغابة، و هب واقفا لتحية كبير الضباع، إلا أن الأخير مضى في طريقه نحو مائدة الاجتماعات، التي تتوسط مكتب الخرتيت، مشيرا إليه في استعلاء بأن يجلس مكانه، دون حتى أن ينظر إليه، و يبدو أن الخرتيت كان لا يزال مستمرا في غفلته، أو أنه استمرأها فقد استجاب لإشارة كبير الضباع، و لزم مقعده و هو يرتجف.." (ص 63).
سينسجم المتلقي مع الأحداث و السلوكيات السياسية بدون سابق إنذار، بمعزل عن إهتماماته بها أو على النقيض من ذلك، حيث سيتعاطف مع الأسد ذلك السياسي الحكيم الذي يعرفه الصغار قبل الكبار على أنه شخصية ذكية و ملتزمة على الدوام بتطبيق القوانين و التأكيد على الإنضباط بها على خلاف الخرتيت المهزوز الشخصية و الذي سيسقط سهوا في كسر تلك القوانين من أجل تحقيق مآربه الشخصية و نزوات حاشيته التي تتخبط في جملة من الأمراض النفسية كما يشير ذلك المبدع العشماوي قائلا: " اقترب منه كبير الضباع حتى كاد يلامس وجهه، ثم أطبق بأظافره على كتفيه، و قال له في حدة، تعمد اظهارها: دعك من الأسد تماما.. انس أمره، و اتركه لشأنه، فقد ولت أيامه الى غير رجعة، و لن تعود أبدا و ما هي إلا أيام معدودات و يموت، و يصبح ذكرى، و تموت معه أفكاره و مواقفه و أسلوبه و مبادراته.. نحن الآن في عهد جديد، و عليك أن تثبت للعالم أجمع أنك قائد حقيقي لهذا العصر، و أنك قادر على مواجهة التحديات و المتغيرات.." (ص 66).
هذه الرواية جسدت وقائع حقيقية يعيشها الإنسان على الأرض فهي عمل استثنائي إجمالا كون المبدع أشرف العشماوي إختار شخوصا من عالم الحيوان لسرد القصة ليعكس تلك الأجواء العامة و الفوضى المنتشرة في أي بلد عربي حاليا لعدم استقرار وضعه السياسي.
أول ما سيلفت القارئ الذكي منذ الوهلة الأولى هو وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد، بمعنى آخر هو إستعمال الروائي أشرف العشماوي أسلوبا تركيبيا: أولا مستوى سطحي للكلام و ثانيا المستوى الباطني الذي لم يعبر عنه بطريقة مباشرة، و الذي يلح على القارئ لإكتشافه من خلال قراءة متأنية للرواية.
لم يكن حضور الثعلب كشخصية رئيسية مجردا من المنطق بل كان بمثابة المفكر و المثقف في الغابة لكن هل وجد التأييد و الأخذ بآراءه الحكيمة؟ ربما نجد الإجابة من خلال قصدية السارد حين يقول: " و عاد الثعلب أدراجه في اتجاه وسط الغابة، و بعد برهة قصيرة التفت، و ألقى نظرة للوراء، فشاهد قرص الشمس يميل للغروب بلونه البرتقالي.. و كان عرين الأسد يبدو في منتصفه كنقطة سوداء بعيدة، و إن كانت ظاهرة و واضحة، و كأنها تأبى أن تغيب.. تأمل المشهد.. و رنت في أذنيه عبارة الأسد الأخيرة: الأسود لا تموت أبدا" (ص 77).
في هذا النص الروائي للعشماوي إشارة الى البعد السياسي بطريقة غير مباشرة تسعى شخصيات "زمن الضباع" من خلاله الى إدانة السلطة القائمة على قيم زائفة تحققت بإمتياز على المستوى الدلالي و الرؤية المفارقة.
يذكر أن المصري أشرف العشماوي روائي قادم من منبر القضاء و قد صدرت له العديد من الروايات كرواية "تويا" التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2013)، "المرشد"، "البرمان" الفائزة بجائزة الهيئة العامة للكتاب (2014) و مؤخرا صدرت روايته الخامسة تحت عنوان "كلاب الراعي".
0 comments:
إرسال تعليق