أنهيتُ رحلة المرار والعذاب وسوء الطالع بوصول الملف الخاص بي إلى وزارة الصناعة والمعادن حيث ستتولى هذه الوزارة مخاطبة مجلس الوزراء للنظر في أمر شمولي بقانون إعادة المفصولين السياسيين الذي يحمل الرقم 24 لسنة 2005 . فكّرت أنْ أرتاح لبعض الوقت وأن أرى بعض البقية الباقية من الأهل والأقارب في بغداد والحلة. زرت سرداب الأهل في مقبرة السلام في مدينة النجف . في النجف حصلت مفاجأة سارّة هي وجود قريبي الأستاذ عبد الجبار بجّاي في النجف مدعواً للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي بإعتبار النجف عاصمة الثقافة العالمية. عدنا للحلة مساء يقودنا الشاب الممتاز رائد نوري محمود القيّم بسيارته الفخمة الهايونداي. وصلنا الحلة الفيحاء فالتأم شمل الأقارب والأصدقاء نساءً ورجالاً وأطفالاً فكان أحد لقاءات العمر: بنات شقيقاتي وتوابعهنَّ وابن العم الأستاذ حمزة داوود السلمان فضلاً عن كوكبة فاضلة من رجال قضاء المحاويل. أصرّت إبنة شقيقتي الست إلهام أنْ أكون ضيفها على العشاء وكان معنا بعض الأهل والأقارب. صباح اليوم التالي جاء وفد المحاويل بسياراتهم الفارهة فأخذوني إلى هناك حيث كنت ضيف إبنة شقيقتي الأخرى الست ختام وزوجها السيد عماد عبد الصاحب وأولادها الثلاثة السادة كرّار وحيدر وعلي. كنتُ حقّاً في حلم : أيمكن أنْ يحدث هذا بعد غياب لقرابة أربعة وثلاثين عاماً؟ في المساء المبكر قرأنا الفاتحة في حسينية المحاويل على روح سيدة متوفاة ثم طلبت الإلتقاء بأصدقاء وزملاء الطفولة وكان حاضراً زميل دراستي وصديق طفولتي السيد عباس جبار السويدي. سلمت على الأستاذ محسن علي العباس الذي وقف يتقبل التعازي فالمتوفاة هي زوج شقيقه خضوري. لكم تمنيتُ أنْ أرى الصديق العزيز الأستاذ محمود رشيد الجبر لكنه ما كان هناك بين المعزين وقارئي الفاتحة لشديد الأسف. غادرنا مجلس الفاتحة فاعترضني شاب طويل القامة أجهل مَنْ هو ليسألني سؤالاً غريباً رأيته إستفزازياً . سألني أما زلتُ شيوعياً ؟ بعتب غاضب أجبته : الشيوعي لا يتنازل عن شيوعيته ! ما كان لائقاً أنْ يوجّه لي مثل هذا السؤال في مثل ذاك الموقف والمناسبة. بدل الأستاذ محمود زارني في بيت أم كرار الصديق القديم الأستاذ الحاج كاظم عبد الحمزة بنيان . جاء سوية مع الضابط الكبير المتقاعد السيد فتاح عبد الحمزة فلفتت نظري ثقافته وسعة ما يحمل من معلومات ثم شخصيته المتميزة.
مع خيوط الصباح الأولى جاء السيد رائد ليأخذني بسيارته إلى بغداد حسب ترتيب سابق. في طريقنا إلى بغداد أجرى رائد إتصالات تلفونية مع خاله الأستاذ رياض دعاني على الغداء في بيته في منطقة السيدية من بغداد. في المكان المتفق عليه وجدنا رياض في إنتظارنا مع سيارته الفرنسية. بالغ السيد رياض في كرم ضيافته وكلّف زوجه أم قائد جهوداً إضافية لا لزوم لها لكنها حميّة وحماوة العراقي المعروفة. قال ما دمتَ أكلت الباجة في مطاعم النجف فعليك أنْ تجرّب باجة أم قائد. تناقشنا وتعاتبنا ونبشنا تربة ماضينا وشربنا الكثير من ستكانات الشاي ثم قدّمت السيدة أم قائد مسبحة كريستال جميلة قالت إنها هدية لإبنتي قرطبة. أما السيد أبو قائد فقد باعني [ نعم باعني ] مسبحة يسر مكاوي بمائة دولار ! هل هو خشب اليسر يا رياض ؟ الله العالم! تقدم الوقتُ فأخذني رياض إلى الشارع العام ولم يعرض عليَّ أنْ يحملني حيث بيت إقامتي في منطقة أخرى من بغداد. أوقف سيارة تاكسي صفراء اللون ( كل سيارات التاكسي صفر عدا إستثناءات قليلة جداً ) . حدد للسائق العنوان الذي أبتغي ثم ودعني وقفل للبيت راجعاً.
زرت النجف وزرت الحلة ووعدت عائلة حلاوية كريمة أنْ أزورها لكن سقوطي مريضاً حال دون التنفيذ. لهذا السبب لم أستطع تلبية نداء قوي خفي ووعد مُعلن أنْ أزور العزيز الأستاذ حمودي الكناني في كربلاء. أصابني سعال غير مسبوق أحس معه أنْ القفص الصدري يتمزق مع آلام حادة في عظم القص وجانبي الصدر فصار نومي مستحيلاً. نزولاً عند رغبة إبنتي قرطبة حملتُ أوجاعي وأسقامي واصطحبت والدتها معي قاصدين الكاظمية لنبتاع عباءة لقرطبة تحمل مواصفات خاصة تفهمها والدتها لا أنا. كانت شوارع الكاظمية مقفلة وتحت حراسات عسكرية مشددة لضمان أمن مواكب اللطم وضاربي الزناجيل رأيت فيهم أعداداً كبيرة من الأطفال في أو دون العاشرة. لا حاجة بي للقول إنَّ بيت أم حيدر كان غارقاً بقدور الزردة والهريسة والقيمة تأتيه من كل حدب وصوب من الجيران الأقربين وسواهم من المعارف.
مع الجناح الآخر / دعتنا أرملة شقيقي المرحوم جليل لتناول الغداء في بيتها الكبير فذهبتُ بصحبة آل حيدر وكان هناك عدد كبير من الأقارب والأحباب صغاراً وكباراً مَنْ أعرف ومن لا أعرف من الأجيال الجديدة. تخللت هذا اللقاء ذكريات حزينة وأين وكيف نهرب من الحزن؟ قبل مغادرتنا بيت أرملة شقيقي تم الإتفاق أنْ يكون الغداء يوم الجمعة القادم لدى الأستاذ زهير في منطقة العطيفية.
في شارع المتنبي /
زرت شارع المتنبي مرتين تنفيذاً لتعليمات وأوامر إبنتي قرطبة . كانت متعة حقيقية أنْ أرى هذا الشارع مكتظاً بمخازن وأكشاك وبسطات الكتب على جانبيه كليهما . كذلك كان مكتظاً بالزبائن والمرتادين . دخلت مقهى الزهاوي ـ كما أرادت إبنتي ـ فلم أجد فيه مكاناً أجلس فيه . غادرت الزهاوي وتسلقت دروج منتدى المدى حيث فوجئت بإحتفالية خاصة لتكريم زميل الدراسة القديم الدكتور أحمد مظهر . أرجأتُ زيارة سوق السراي حتى مناسبة أخرى لأني كنتُ راغباً في زيارة أسواق الشورجة وكان بصحبتي الشاب أسامة شقيق حيدر الأصغر . ألقيت نظرة عجلى على النصب التذكاري لعبد الكريم قاسم في شارع الرشيد ثم دلفنا نجوب الدرابين باحثين عن الشورجة لنبتاع منها بعض القضايا . ساءني جداً وضع شارع الرشيد فأين شارع الرشيد زمان خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ؟
في زيارتي الثانية لشارع المتنبي جلست في مقهى الزهاوي وطلبت شاياً . كنت غريباً بكل ما في هذه الكلمة من معاني . كان المكان غريباً وكان الناس غرباء كأني نزلت عليهم من عالم آخر لا يمت للبشر بصلة . عجيب شعورك يا إنسان حين تفقد الصلة والجذر بالمكان .
تركت المقهى وتمشيت في الجزء الآخر من شارع الرشيد المفضي إلى باب المعظّم قاصداً زيارة مقهى حسن عجمي وصالون حلاقة الصديق الحلاوي السيد حكمت محمود الجبوري. إقتربتُ من مقهى إعتراه الهرم والبؤس فلم أتبينه . سألت بعض مرتاديه أهذا مقهى حسن عجمي ؟ قالوا نعم . تذكرت الأوقات التي كنتُ أقضيها في هذا المقهى أيام زمان مع هذا أو ذاك من الأصدقاء وخاصة الأدباء منهم وقرّاء العشت الذين يقرأون الصحف المنتثرة على الطاولات ولا يدفعون شيئاً للطفل ( عنيّد ) المسكين صاحب هذه الصحف . سألت زبائن آخرين وأين صالون حلاقة حكمت الحلي ؟ قالوا توفي حكمت وانقلب صالونه كما ترى إلى دكان يبيع كل ما يخطر على بال . ألقيت نظرة حزينة على صالون حكمت وما فيه من ذكريات حيث كان نادياً وملتقى لأهل الحلة . واصلت التمشي صوب باب المعظم فهالني ما رأيت من حال شارع الرشيد ! سقوف مائلة وبعضها آيل للسقوط والأرصفة تعج بالبضائع حتى لا مكان لماشٍ . من ساحة الميدان خابرت أم أمثل وأخبرتها أني في طريقي إليك فهل تحتاجون شيئاً ؟ قالت إحمل معك الخبز الحار والصمون.
0 comments:
إرسال تعليق