سلام لكل الأحرار المفعمين بروح الحرية… بأمثالهم، وفقط، تصل الشعوب إلى العزة والكرامة... فهم وحدهم لا يتعبون من درب النضال الطويل، ولا تغريهم المكاسب ولا المناصب... سلام لهم، فهم من لا يرضون لسيرة أوطانهم أن تكون حبل غسيل... ولا يقبلون حرية مجزأة، لأن الحرية في عرفهم تكون أو لا تكون...
ابعث لهم اليوم سلاما بعدما لاحت في الأفق علامات الانحسار المؤقت لعاصفة الفوضى الخلاقة للتفتيت... والتي خطط لها برنارد لويس، وأعطت بانطلاقتها كوندوليزا رايس، وسماها الماكر برنار هنري ليفي للتمويه ربيعا... فصدقه الأغبياء، وتكلف بالأجرأة تنظيم إخوان اردوغان... بعدما أفتى له بجواز كل وسيلة، فقيه سكن قصرا فاخرا في الدوحة... جاعلين من كثير دهماء مكبرات صوت تردد مخدرة أن الحرية أصبحت قاب قوس أو أدنى... والمعيب أن تبعهم في ذلك كبار كنا نعتقدهم كبارا، فإذا بهم يتساقطون كالثمار، وقد أينعت، في ساحة الوهم معتقدين ببداية انسياب البركة على الجماعة الموعودة بالنصر منذ الأزل!!!...
أذكر أني سميت ربيعهم ذاك صقيعا يوم كتبت "دويلة... وأزهار الصقيع" فكان نصيبي من بعض الغوغاء عظيم سباب وكثير ازدراء... وحتى عندما وافقتهم وقلت أنه "ربيع إخوان الناتو"... واجهني أحدهم ناصحا، أن "هون عليك واكتم غيظك وابلع حقدك خيرا لك... فالله ناصرنا لا محالة، والقطار لن يتوقف ليستدرك المتخلفون"... أجبته وأنا اسأل الرحمن الرحيم، في خاطري، ألا يؤاخذ الشعوب بما يفعله السفهاء... " انك يا هذا، إن افترضنا جدلا أنك على حق في النصف الأول من كلامك، فقد خالفت سنن مالك الملك في خلقه في القسم الثاني، بأن أغلقت باب التوبة على الخطائين من عباده... وما أظن أن النصر سيكون يوما حليف من يتبنى الشيء ونقيضه، وما أظن المستقبل يفتح ذراعيه لمن فكره بهذه الدرجة من الارتباك "... عند هذا الحد انقطع التواصل بيننا، حتى يوم الإعلان عن نتائج الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث باغتني بوجهه البشوش، وبملامح كلها تشف، أن "ما رأيك اليوم يا هذا، وقد نصرنا الله على القوم الظالمين؟!!!"... فما كان مني ثانية إلا أن سألته عن قوله إن حصل وهزمت الجماعة في انتخابات مقبلة... هل سيجرؤ على القول أن الله قد نصر عليهم القوم الظالمين؟!!!... وكان قصدي أن أقول من خلاله لشيوخه الذين ملؤوا يومها الشاشات كما الساحات بشارات النصر رافعين المصاحف، أن خففوا الوطء فإنكم لن تخرقوا الأرض ولن تبلغوا الجبال طولا... وأن أنصح لهم أن القرآن ليس شعارا للتلويح، بل هو معان للتدبر... ولكن هيهات أن يفهم من غيّب وعيه، وأخذته العاطفة الهوجاء إلى حيث يكون الوهم حقيقة، والحقيقة نكرانا وكفرا مبينا...
وحتى لا أتيه عن الكبار الذين كنت أعتقدهم كبارا... أعود وأذكر بأنهار المداد التي سودت صحفا كنا نخالها وازنة، وبافتتاحيات أعتبرها اليوم بمرارة ترجمة للحكمة العربية الشهيرة التي تقول: " انج سعد فقد هلك سعيد "... مقالات وأراء لكتاب وأكاديميين ونجوم إعلاميين توحي بشكل فاضح للمتتبعين أن هؤلاء يؤمنون حقا أن الرقص على الحبال سمة الأذكياء... ناسين أو متناسين أن الحق أحق أن يتبع... وأن خير أوسمة الرجال "وما بدلوا تبديلا"... صحيح أنه كان من السهل إعادة صياغة ذاكرة العامة من الناس، وأخذهم إلى الأوهام والحروب الافتراضية، عبر تبديل البوصلة واختراع عدو جديد... خصوصا وأن المخططين قد أعدوا العشرات من المحطات الفضائية لخدمة المشروع، كما أبدعوا في إنتاج العشرات من رجال الدين المتلفزين، وأصحاب لحى المهمات والتمثيليات الإيمانية... أما أن تسقط ذاكرة الكبار من المثقفين العرب، فنراهم بين عشية وضحاها وقد تحولوا بقدرة قادر إلى أتباع ومنظرين للمشروع... وتسقط معهم أحزاب وتيارات كانت تدعي العقائدية والإيديولوجية فتلك أم المصائب... وكم كان "ربيع العرب" جبارا إذ أسقط أسماء وترنحت معه أسماء ووجوه وأقلام... خصوصا أولئك الذين كنا نجدهم على طريق دمشق ينظرون للعروبة ولفلسطين... وهاهم، وكما كل صعاليك المرحلة، ينظرون لربيع الوهم على طريقة القرضاوي والعرعور والقرني...
وللختام، أرى أنه لا بأس من كسر إيقاع الانفعال بقصة قصيرة لست أذكر كيف ومتى تسللت إلى ذهني، ولا حتى إن كانت حقيقية أم أنها محض خيال راو... إذ يحكى أنه في عز الحرب، كان أحد القضاة البريطانيين لا يستطيع أن يسمع ما يروج في الجلسة لأن المحكمة كانت محاذية لقاعدة جوية عسكرية، وهدير الطائرات الذي لا يفتر أفسد حسن سير الجلسات. فكتب رسالة إلى رئيس الوزراء "تشرشل" يأمره فيها بتحويل مكان القاعدة الجوية… فاجتمع تشرشل بجنرالاته وأمرهم بتغيير مكان القاعدة الجوية... تدخل الجنرالات معترضين: " أو تريدنا أن نخسر الحرب يا سيدي؟ "... فما كان من تشرشل إلا أن أجاب بحزم من يميز بحنكة بين الثابت والمتحول: " أفضل أن يكتب التاريخ أن تشرشل خسر حربا على أن يقال يوما أن تشرشل خسر العدالة في بلده "... نعم، إن الإنسان موقف قبل أن يكون أي شيء آخر، وها هو تشرشل وقد نجح في امتحان العدالة يكسب الحرب. أما الكبار الذين كنا نعتقدهم كبارا، فلا غرابة إن رأيناهم يحلقون اللحى بعد عفو، فقد صاروا بحكم التجربة يتقنون الرقص على الحبال.
المغرب
0 comments:
إرسال تعليق