دعبل الخزاعي عبقريٌ بالقوة، وثائرٌ طيلة قرنه/ كريم مرزة الأسدي

3 -دعبل بن علي الخزاعي ( 148 - 246 هـ / 765 - 860 م) :
 وفي تاريخنا العربي َمنْ كان أشدّ إصراراً ، وأكثر عنفاً، وعيشاً بالقوة  من (ليرمونتوف)،  ومن (سقراط) ، بل وكل عباقرة الدنيا  - لذا سنطيل معه المقام - بل وأوسع حيلة منهم ، وأطول مدى معيشة في هذه الحياة حتى ناهز القرن من الزمان عمراً  ، إذ قضى شاعرنا أكثر من ثلاثة أضعاف مما عاش ليرمونتوف ،  وصارع صراعاً عنيفًاً  مريرا حتى الموت في سبيل عقيدته ويقول : ( لي خمسون عاما احمل خشبي على كتفي أدورر على  من يصلبني عليها فلم أجد) ،هل يوجد تحدي وإصرار وشموخ أكثر من هذا ، من يقول مثل هذا لاجرم قد عاش حياته بالقوة ضد السلطات وأعوانها ، ولكن  الشاعر، كما يبدو ، كان صاحب رسالة وموقف من الحياة وليس عابثاً لايفقه ما يريد، تطارده الاقدار من حيث لايدري !! ، إنها الإرادة   الصلبة ، لا كما ذهب الاستاذ عبد الوهاب الاسواني في مقاله (شاعر تطارده الاقدار).. تعال معي لنقرأ ما يقول الاستاذ الاسواني بفقرة عن الشاعر (دعبل الخزاعي) :
 قلت له :  ونحن نشرب القهوة: ما معنى دعبل؟! 
- البعير المسن
- مارأيك،  أيها البعير العجوز، في أنني لا أفهمك ،  فأنت تهجو من أحسن إليك بنفس الحماسة التي تهجو بها من أساء اليك
وقد تعجبت حينما عرفت بأن الوالي (مالك بن طواق) استضافك في قصره لبضعة أيام, بذل فيها كل ما في وسعه لإكرامك ، فلما خرجت من عنده هجوته بقصيدة جعلت عاصمة الولاية كلها تضحك منه..... فما معنى هذا؟
قدر!
-هل أفهم من هذا أنك لا تجيد من الشعر غير الهجاء؟ 
- ربّما...).
بادئ ذي بدء - وقبل   التحليل  يجب  أن نتفهم أن الأستاذ الأسواني ، ما هو سوى تلميذ صغير ، يكرر ما كتبه العقاد ، وطه حسين  ، وشوقي ضيف ، وتبعهم حنا فاخوري بإعتبار دعبل الخزاعي ، سليط اللسان ، خبيث الطبع ، شرير النفس ، وهذي تسقيطات غير مبنية على أسس علمية عادلة في حكمها  ، رزينة في طرحها ، ما هكذا كان الدعبل  !! بل هو الذي لاحق الأقدار ، فانهزمت عنه ومنه  ، مولية الأدبار مندهشة لمعرفة الرجل لأسرار الحياة المبهمة ، وكأنه جعل هذاالقول المأثور ( اطلب الموت ، توهب الحياة ) شعاراً له ، ومنهجاً يسير عليه حتى وصل أقاصي الأرض في عصره المعصور :
 حللت محلا يقصر البرق دونه * ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
  هكذا نرى  دعبلاً إنساناً بالقوة ، مفروضاً على خلفاء عصره العظام عاصر المنصور طفلاً ، والمهدي والهادي فتىً ، وشاباً باكراً ، والرشيد شاباً يافعاً وناضجا، ، والمأمون كهلاً ، والمعتصم والواثق والمتوكل شيخا مهاباً جليلاً  ذائع الشهرة والصيت ، وقد رثاه البحتري جليس الخلفاء والوزراء والقادة الكبار،شاعر عصره الأول بعد أستاذه أبي تمام الذي ضمّه مع الدعبل في الرثاء قائلاً :
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ** مثوى حبيبٍ يوم مات ودعبلِ
أخوي لا تزل السماء مخيلة *****تغشاكما بسماء مزنٍ مسبلِ
جدثٌ على الأهواز يبعد دونه ** مسرى النعي ورمسه بالموصل
   نعم هجا الملوك والخلفاء , ولا يكاد يعرض لشاعر إ لا ضرورة  ، وقد حذر في أول كتابه الذي ألفه في الشعر من التعرض للشاعر ، ولو كان من أدون الناس صنعة في الشعر ..."  ، ربما أراد دعبل أن يحيد الشعراء ضده ، لأن الخلفاء والقادة أردوا أن ينشغل بهجاء الشعراء مثله أو دونه ليصغروا شأنه ويستريحوا من لسانه السليط الشهير ،واستطاعوا أن يغروا أبا سعد المخزومي ضده ،ولكن الدعبل لم يرتدع  ، وأبو العلاء المعري سار على منوالهم وقال :
لو أنصف الدهر هجا نفسه *** كأنه الرومي أو دعبلُ
وهنالك فرق شائع بين هجاء ابن الرومي البائس في حياته حيث هجا معاصريه  ،لانهم شهّروا  به أنه (عنين)  ، وهجا الأحدب  ، وابن يوسف ، ويتوسل بالقاسم بن عبيد وزيز المعتضد  الله ليبقى في مجلسه : قائلاً في همزيته المطولة :
سمني الخسف كلـّه أقبل الخسـ*** ـف شكراً  ولا تسمن الجفاءا
 و كما تعلم الخسف يعني الذل ، ويتوسل بالوزير صاعد بن مخلد ليقرأ قصيدته الدالية الخالدة التي  قدم لها بقصيدة رائية متوسلاً بقراءة الدالية التي تعد من روائع الشعر الإنساني :
أول ما أسأل من حاجةٍ***أن تقرأ الشعرَ إلى آخره !!
  ولابن الرومي أبيات  مطلعها :
لا أقذع السلطان في أيامهِ***خوفاً لسطوته ومر عقـــــابهِ 
في حين دعبل كانت شخصيته قوية  ، يقابل الخلفاء والوزراء والقادة  ، ويخشون من لسانه ومهابته، يقول للمأمون :
إني من القوم الذين سيوفهمْ*** قتلتْ أخاك وشرفتكَ بمقعدِ
لأن طاهر بن الحسين الخزاعي قائد جيوش المأمون ، وهو الذي دكّ بغداد وقطع رأس الأمين سنة (198 هـ)  ، وسلم الخلافة للمأمؤن ،  وخاطب المعتصم المهيب :
وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة ً*** لأنك ذو ذنب وليس له ذنبُ
مع احترامي الشديد وحبي العميق لعبقرية ابن الرومي الخالد كشاعر فذ من عباقرة العرب، ولكن في حياته المعاصرة لدعبل لم يكن كشخصية الأخير وموقفه و جرأته.
        أين دعبل من الطائفية وهو يهجو أهل قم  ، وكانوا من الأشاعرة الموالين  الخلص لأهل البيت  في عصره  دون معظم أهل فارس الآخرين :
تلاشى أهل قم ٍواضمحلوا ***تحلّ المخزيات بحيث حلوا
وكانوا شيدوا في الفقر مجداَ **فلما جاءت الأموالُ ملـّـوا
واضح من الشعر أنه يقف مع الفقراء لبمعدمين , ويحارب الثراء غير المشروع ،  أين المشكلة ؟وهجا أهل قم أقسى من هذا الهجاء بقوله  :
ظلـّتْ بقمَّ مطيتي يعتادها *** همّانَ:  غربتها وبُعدُ المدلج ِ
ما بينَ علج ٍقدْ تغرّبَ فانتمى**أو بينَ آخرَ معرب ٍ مُستعلـج ِ
وهجا المعتصم والأتراك معه لكونه مسلماً عربياً :
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهمْ **وصيفٌ وأشناسٌ وقد عظم الكربُ
وهمكَ  تـــركيٌّ عليهِ  مهانـــة *****   فأنت  لـــهُ  أمٌ ، وأنتَ  لــــــهُ أبُ 
وصيف وأشناس غلامان للمعتصم ، أصبحا من قادة المعتصم،وهجا قريبه المطلب بن عبد الله الخزاعي ، والي مصر والموصل في عهدي الأمين والمأمون ، لأنه يأخذ الرشوة والعطايا جبراً من الناس :
وما المال جاءك من مغنم ٍ *** ولا من ذكاءٍ و لا كسبهْ
ولو رزق الناسُ عن حيلةٍ *** لما نلت كفـّاً مـن التـُّربهْ
الناس مجبورون لمراجعته لقضاء حوائجهم ، ويفرض ما يشاء عليهم ، ولأنه قريبهُ , ولا يستمع لنصائحه ، تراه يخاطبه:
فإن أشف منكَ تكن سبّة ً***وإنْ أعفُ عنك فمـــــا تعقل
تـُعلق ُ مصرٌ بكَ المخزياتُ**وتبصق ُفـي وجهكِ الموصلُ
إذا سبّه ، سب نفسه لأنه ابن عمه  ،وإذا عفا عنه لا يصلح نفسه ،فكتب قصيدة أصابه بالصميم حتى عزله المأمون ،  ودقق على الموصل إذ كان واليها !
كل ما ذكره الأصفهاني وغيره لا يعني شيئاً ، نعم هجا وسخر من الخلفاء وأولادهم ووزرائهم وذي النباهة من أعوان السلطة ،  وركل الولاية مرتين ،ولا يعتبر ذلك إحساناً - كما يقول الأصفهاني -  بدليل  قوله من الشيعة المشهورين بالميل للإمام علي (ع) ،وذلك قبل تبلور المذاهب الإسلامية ،  إذ كان المسلمون شقين ،  القسم الأكبر معارضون للسلطة ،  بما فيهم الأئمة الأربعة ،  فالإمام أبو حنيفة  (ت 150 هـ / 768م) ،  كما يقول اليعقوبي في (تاريخه) ، والأصفهاني نفسه في (مقاتله) والدكتورة الليثي في (جهادها) أفتى لصالح ثورة زيد بن علي بن الإمام الحسين (121 هـ) ،بل تذكر الدكتورة الليثي :"  روى الأصفهاني  كثيرامن الرويات حول تأييد أبي حنيفة لمحمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم خلال ثورتهما على الدولة العباسية في عهد المنصور ..." ،   ويذكرالأصفهاني نفسه في (مقاتله) ما يلي : " كان أبو حنيفة يجهر في أمر ابراهيم جهراً شديداً، ويفتي الناس بالخروج معه"  ويزيد الأستاذ أحمد أمين في (ضحاه،ويروي الخطيب البغدادي في (تاريخه) : أن أبا حنيفة أبى إصراراً تسلم القضاء في عهد المنصور   ، والإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ 795م) ،  تعرض في كهولته لمحنة كبرى فقد اضطهده الخليفة المنصور، ثم ضربه والي المدينة سبعين سوطاً  ، وقد  أفتى لصالح النفس الزكية في المدينة المنورة ، إذ يذكر في (مقاتله) : " إنّ مالك بن أنس استفتى  في الخروج مع محمد بن عبد الله وقيل له :إنّ في أعناقنا بيعة لأبي جعفر .
فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكرهٍ يمين ، فأسرع الناس إلى محمد بن عبد الله "إذن لماذا الأصفهاني كان قاسيا ًمع دعبل ورماه بالخبث وعدم الأعتراف بالأحسان ،  وهو صاحب قلم ولسان ،في حين قد أفتيا الإمامان أبو حنيفة ومالك بحمل السلاح والسيف ، وبذل المال للوقوف مع العلويين ،  وخلعا المنصور من خلافته ،  والإمام الشافعي (ت 204 هـ / 819م ) معروف بولائه للعلويين وشاهده شعره وفقهه ، والإمام أحمد بن حنبل (ت  241 هـ /  855 م) معروف بمحنة خلق القرآن ويقول اليعقوبي " وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ...فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فضرب عدة سياط"ولعلك تعلم عن تشدد المأمون -معه ،  والتعصب ضده .
ناهيك عن أنّ العلويين وأشياعهم ومواليهم والثورات الشعبية التي حدثت خلال حياة دعبل المئوية ومغاصرته لها ، هؤلاء أئمة  المذاهب الإسلامية الأربعة المشهورة   ومواقفهم من الخلفاء والسلطات،ودعبل عاصرهم،ولم تكن المذاهب قد تبلورت ، وما الأئمة الأربعة سوى فقهاء كبار في عصرهم،والمجتمع كان ينقسم إلى علويين وعباسيين .
إذن  لماذا المؤرخون وكتاب الأدب والمفكرون المنحازون  من العرب قديماً وحديثاً  وجهوا سهامهم على الشعراء والمعارضين دون التمعن والتفهم واحترام الرأي الآخر , وجروا عامة العرب إلى التعصب الأعمى القاتل للأرواح والحضارة والتقدم ، أليس من حق دعبل أن يصرخ  لإنعدام مناصريه أيام الشدة ، وهو يعيش إنساناً بالقوة الفكرية والعقائدية والشعرية  :
ما أكثرَ الناسَ ! لا بل ما أقلهمُ *** اللهُ يعلمُ أني لمْ أقلْ فندا
إني لأفتحُ عيني حينَ أفتحها **على كثيرٍ ولكـنْ لا أرى أحد 
ودعبل لم يهرب في عصر المنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون بالرغم من هجائه المرير للأخير  ولوزرائه وقادته وولاته ،لأنه كان حليماً محنكاً ، فرفض أن يمسه أحد بسوء بغير حجة  ، بالرغم من إلحاح وتحريض أبي سعد المخزومي الشاعر وابن شكلة (عم المأمون ) على قتله ، ومن الجدير ذكره أنّ شاعرنا لم يكن لئيماً بالمرة حتى يستغل حلم المأمون ، قيتمادى في هجائه ، وإنما الموقف نغسه  الذي وقفه سقراط وأكثر منه  ، بدليل استمراره على هذا النهج ، وفرض إنسانيته بالقوة طيلة عصر المعتصم الرهيب ، وولديه الواثق والمتوكل   ، نعم هرب فقط في عصر المعتصم عندما هدر دمه ، وكان عمرالدعبل سبعين عاماً ، ورجع في بداية عهد الواثق (227 هـ / 842م ) خفية ، وسلم لحاجبه نتفة أبيات , وقال له هذه أبيات مدح في حق الخليفة الجديد ، وخرج وتوارى عن الأنظار  ، وإذا بها تهكم بالمعتصم الماضي وسخر من الواثق الأتي :
الحمدُ للهٍ لا صبرٌ ولا جلدُ***ولا عزاءٌ إذا أهلُ البلا رقدوا
خليفة ٌماتَ لم يحزنْ له أحدٌ***وآخرٌ قامَ لمْ يفرحْ بهٍ أحدُ
فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعهُ **وقـــامَ هذا فقامَ الويلُ والنكدُ
واستقر في عصر المتوكل حتى مقتل الشاعر (246 هـ / 860 م) ، ولم يهجُ المتوكل إلا ببيت واحد ، يقول صاحب الأغاني : رماه فيه بالأبنة أي بالناقصة القاضية،وعلى ما يبدو أن المتوكل كان ربيب الأتراك ، قال فيه :
ولستُ بقائل ٍ قذعاً ولكنْ *** لأمر ٍ ما تعبّدكَ العبيدُ 
ولا جرم أن الأصفهاني لا يستطيع إخفاء قصيدة تعدُّ من أروع فصائد الرثاء والمديح في حقّ آل البيت ، عمّت  الآفاق ، وشغلت جميع المسلمين , وتعتبر من أشهر القصلئد في الأدب العربي، وهي القصيدة الموقف  بالنسبة إليه ، تغسل كل ما قيل حوله من خبث اللسان، وفحش القول،وخساسة الطبع ،لأن الخبيث خبيث في كلّ أحواله ، لا يمكن له من وضع أروع قصائد المديح والرثاء والعرفان بالجميل،والخسيس لا يمكن له أن يقارع أعظم قادة عصره وأجرأهم على هذه المعمورة كلّها ،  هذه تتناقض والطبائع البشرية ،  لا أعرف كيف الأصفهاني ومن تلاه قد جمعوا بين النقيضين دون تحليل عقلاني، وتفهم إنساني سوى العصبية المقيتة ،  أو إرضاء العقل الجمعي للآخرين ؟  وإليك قول الأصفهاني في ( أغانيه) بالتائية : " من أحسن الشعر ,  وفاخر المدايح المقولة في أهل البيت عليهم السلام ، قصد بها علي بن موسى الرضا عليه السلام بخرسان " والحموي مثله في (معجم آدابه)  : " قصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر ، وأسنى المدايح  .."  وقال الحصري القيرواني في (زهر الآداب) : " كان دعبل مدّاحاّ لأهل البيت عليهم السلام .. وله التائية المشهورة"  ) , أما أبو سالم بن طلحة الشافعي يقول في (مطالب المسئول) " أنظر ألى هذه المنقبة ،  وما أغلاها , وما أشرفها .." . 
هذه مجموعة من الأقوال على سبيل المثال لا الحصر , من غير الشيعة , لأن الشيعة لا يحتج بأقوالهم ،  إذ يحسبون دعبلاً منهم , وأنا الذي أريد أنْ  أثبته : كان لدعبل موقف يجب أن يحترم ويمجد كمناضل  ومجاهد كبير مرً بتاريخنا العربي , من حيث هو لا من حيث أنا وأنت ، وللأسف الشديد وقع في هذه الإشكالية أكبر عباقرة العرب المعاصرين وكتابهم - العقاد مثلاً -وسارعلى نهجه  الفاخوري دون تفكير أو تحليل ، والإنسان إنسان له تفكيره . له تحليله ، وله استنتاجه . ويجب أن لا يركن للإنسان الآخر مهما بلغ من عبقرية وذروة ذكاء ، فالتفكير مفتوح أمام الجميع  ،وإلا قد يؤدي بنا  إلى  التعصب والإنشقاق ، وعدم احترام  الرأي الآخر، لذلك بقينا في مصاف  آخر الأمم ،  والحقيقة كل تاريخنا العربي مؤسس على تقديس السلاطين والتعصب  ومسايرة العقل الجمعي المخدوع بالمال الحرام  و الجاه الكاذب ، والعمالة الرخيصة ، والتفسير المفلوب. ، وإن بقينا هكذا كلنا مغلوب !!! ولا غالب إلا الله .
بقت لنا كلمة أخيرة لأن الموضوع طال ، شبّه المرحوم الباحث هادي العلوي دعبل الخزاعي بظاهرة مظفر النواب في عصرنا الحاضر ، ولا ريب المقارنة مقاربة ، ولكن أنا أرى ، وإن كان شاعرنا المظفر شاعراً بالقوة أيضا ، ولا يستطيع أحد أن ينكرأو يلغي  نضاله المرير ضد السلاطين والطغاة  - والحقّ يقال ، وقد ضمنته في كتابي للعبقرية أسرارها - ، ولكن دعبلاً عاش في عصر ، كان الخليفة يمدّ سلطته من أقاصي الغرب إلى أدنى الشرق ، ويخاطب سحابته ، أينما تمطري خراجك لي ، لهذا نتفهم قول دعبل السابق ( حللت مكاناً ...) ، بينما المظفر عاش في عصر الطوائف والدويلات ، والدول الأخرى التي تفتح أبوابها لمن مثله  ، وقد لجأ إلى ليبيا ، وسوريا ... ، والدعبل كان رمز الأمبراطورية في عصره واحداً أوحد، أما المظفر فقد هجا معظم رموز السلطة في البلدان العربية ، وعلى ما يبدو لي ، كلّ ظالم طاغٍ متجبرٍ ، يبتسم ، ويقول ( يا ستة سويت الستين) ، ولا يتخذ قراراً حاسماً ضده ، ولا أنسى أن أذكر أن دعبلاً ، كان لديه موقف واضح وصارخ من خلفاء سلطته - غير الهجاء والسخرية -  ، فقصيدته التائية الشهيرة موقف حاسم وجريء، والرجل - على العموم - من معتمدي الأئمة ومقربيهم ، وكان العلويون وشيعتهم هم البديل الثوري ، والمعارض الفعلي ، والتيار الشعبي ، الذي يُحسب له ألف حساب وحساب على حين المظفر قد تخلّى عن الموقف السياسي التنظيمي ، وقالها صراحة بعد نضال مرير  :
وأضيءُ الشمعَ وحدي
وأوافيهمْ على بعدٍ
وما عدنا رفاقْ
لمْ يعدْ يذكرني 
منذ اختلفنا أحدٌ
غير الطريقْ
صار يكفي 
 نعم صار يكفي ، ونحن لا نرى بذكر الفوارق أفضلية لنضال على جهاد ، أو جهاد على نضال ، ولعل دعبلاً من أوائل من استعمل كلمة مناضل في أدبنا العربي ، وعن الإمام علي ( ع) :
أبو ترابٍ حيدرهْ***ذاك الإمام القسورهْ
مبيد كلّ الكفرهْ **** ليس لــه مناضلُ
فنضال الإمام فوق كل نضال ، والنضال لا يقاس بالنقد ، والتحليل ، والمقارنات ، والمقاربات ، الإنسان أغلى قيمة ، وكدّه ، وكدحه ، واغترابه ، ومرارة عيشه فوق كلّ اعتبار ، واعتبار ، لو تفهّم الأخيار ، وتعقّل الأشرار !!    

CONVERSATION

0 comments: