المقدمة
اﻟﺣﺩﻳﺙ ﻋﻥ التراث والعادات والتقاليد وﺍﻟﺣﺭﻑ ﺍﻟﻳﺩﻭﻳﺔ ﺍﻟﺗﺭﺍﺛﻳﺔ يعطينا ﺍﻷﺻﺎﻟﺔ ﻭﺍﻟﺩفء ﻭﺍﻟﻧﺷﻭﺓ. ﻻنه يرتبط ﺍﺭﺗﺑﺎﻁﺎ ﻭﺛﻳﻘﺎ بتاريخنا وﻭﺟﻭﺩنا وهو وﺟﺯء من هويتنا وﻛﻳﺎﻧنا ﻭﺍﺻﺎﻟﺗنا.
ومن هذا المنطلق احببت ان اتناول جوانب مهمة من ذكريات مراحل الطفولة, اثارتها زيارتي الاخيرة للمتحف البغدادي بتاريخ 5/4/2012 والتي قد تحرك لدى القارئ شيئا من تلك الذكريات والتي قد تكون متشابهة او متقاربة بالاحداث.
في احدى اركان المتحف البغدادي سقطت عيني على فتاة تجلس قرب ( طشت ) معدني مملوء بالملابس المتسخة وقربها طشت اخر و( سطلة ) دلو معدني, ذلك الركن اثار لدي ذكرى جميلة فما كان مني الا ان اشارك تلك الصبية جلستها لاستعيد ذكرى خاصة وهي تلك اللحظات التي كنت اشارك بها والدتي واخوتي في اليوم المخصص لغسل الملابس المتخسة.
كانت للوالدة طقوس جميلة مع عملية غسل الملابس والذي كان عادة نهاية كل اسبوع, ففي اليوم المقرر تبدا الوالدة عملها منذ الصباح الباكر فبالاضافة الى ما تكدس من الملابس المتسخة خلال الاسبوع الذي مضى, نجدها تتنقل بين غرف المنزل لترفع ماتجده امامها من ملابس اخرى بالاضافة الى تبديل شراشف الاسرة. كنت اراقب كومة الملابس التي تبدا بالارتفاع شيئا فشيئا بعد رمي كل وجبة جديدة.
في الاجواء الحارة والمعتدلة كان مكان غسل الملابس في الفسحة (الطارمة) التي تقع خلف الدار, وكانت والدتي تعد العدة لهذا العمل التي كانت تروق لي تسميتها بالاحتفالية غير آبهة بالتعب الذي سيلحق بالوالدة, حيث كنت اراقب تحركاتها وهي تخرج الملابس جميعها وماتحتاجه من مسحوق الغسيل و (صابون البزون) 2 و( الإنجانات والبريمز والجدر) (القدر المعدني) او السطلة المعدنية (الدلو).
وكاول خطوة كانت توقد ( البريمز) , لتضع عليه القدر المعدني بعد ان يملأ بالماء مع كمية من مسحوق الغسيل و مكعبا او اكثر من ( الجويت )3. واما الخطوة الثانية فهي فرز الملابس البيضاء عن الملونة, لتليها عملية تصنيف الملابس حسب استعمالاتها وهكذا.
اما الملابس والشراشف البيضاء فكان نصيبها الغليان في القدر المعدني الكبير حتى تنتهي الوالدة من غسل الملابس الملونة بعد ان تجلس على ( تخت) خشبي مقعد خشبي لتبدا بدعك وفرك الملابس بقوة في الطشت.
كانت عملية الغسل في بعض الاحيان تتطلب تغيير الماء بين وجبات الغسل وكانت هذه هي الفرصة التي كنا ننتظرها انا واخوتي ففي اللحظة التي تهم والدتي برفع طرف الطشت لتسكب الماء كنا نسرع ونقف على بعد خطوات لنراقب انسياب الماء فتبدا لعبتنا, نتراكض امام تسارع الماء المتدفق والذي بدوره يتفرع الى فروع وفروع للامام , وكانت لعبتنا هي كل واحد منا يخمن اين ستكون المحطة التي سيقف عندها الماء لتنتهي اللعبة بفائز لنتخذ بعدها لعبة اخرى الا وهي التزحلق فوق الماء المشبع بمسحوق التايت, او نجمع كمية من الرغوة ونضعها على وجوهنا لتكون كلحى بيضاء نفتخر بها ومن ثم ننفخها لترتفع منها فقاعات على شكل بالونات نرى من خلالها الوان قوس قزح.
اما مسحوق الغسيل التايت فهو الاخر له قصص خاصة في ذاكرتي, اذكر في مرحلة من المراحل كيف سعت الشركة المنتجة ان تزيد من بيع منتوجها حينما اطلقت دعاية وهي ان تجمع عددا معينا من شعار الشركة الموجودة على علبة الغسيل نفسها لتسلم الى اي محل لبيع المواد الغذائية ويستلم بدلا عنها, علبة مسحوق غسيل مجانا. واذكر ايضا في فترة اخرى كان يوضع في بعض علب الغسيل هدية وهي عبارة عن قراصة للملابس (مشبك يستخدم لتثبيت الملابس على الحبال عند نشرها), كانت تلك القراصات مصنوعه من مادة البلاستك وبالوان زاهية, والجميل في الامر كنت ارى لهفة والدتي بعد شراء كل علبة جديدة لتفتحها لعلها تعثر على احداها وخصوصا ان كان لونها يختلف عن ماجمعته سلفا.
لنعود الى غسل الملابس, فبعد الانتهاء من غسل الملابس الملونة وتشطيفها تبدا مرحلة النشر على الحبال ولهذه العملية طقوس اخرى. حيث تبدأ الوالدة وبمساعدة خرقة قديمة (قطعة قماش قديمة) بمسح الغبار المتراكم على الحبال المعلقة والتي تكون في معظم الحالات بشكل خطوط تكاد تكون متوازية. اما عملية النشر فتكون بعصر (برم طرفي كل قطعه باتجاهين متعاكسين) وكانها لم يتم عصرها مسبقا ومن ثم تفتح القطعة وتنفض بقوة مرتين وثلاث واربع اعتقادا بان هذه العملية ستجعل الملابس بدون تكسرات او طيات فيمكن لبسها مباشرة بعد ان تجف او دون اللجوء الى المكواة, او حتى تكون اكثر سهولة في حالة كيها.
تبدا عملية النشر وذلك بتثبيت قطعة تلو الاخرى على الحبل وبشكل متناسق ومرتب وكل حسب تصنيفه, هنا القمصان تتكئ حافاتها الخارجية على بعضها لتليها المناشف (الخاوليات) وهكذا.
بعد اكمال النشر تعود الوالدة بتغيير الماء لتبدا عملية غسل الملابس البيضاء والتي تكون قد اخذت نصيبها من الغليان , فتقوم برفع قطعة قطعة بعصا خشبية من القدر الى الطشت لتتم عملية الدعك والفرك بقوة بعد ان تبرد القطعه بعدد من الحركات والتقليب العفوي لتفيع (لتشطف) فتستقر على الحبال وبنفس الطريقة السابقة.
كل هذه الساعات تمر وانا واخوتي نراقب والدتنا ونجالسها ونشاركها الغسل والاستماع الى بعض من احاديثها, وكم كانت ابتسامة الخبث تعلو وجوهنا حينما نسمعها تردد اسما من اسمائنا , توبخ وهي منزعجة حينما تقع بين يديها قطعة ملابس يصعب عليها او ياخذ منها وقت اطول لازالة بقعة ما موجودة فيها. ومااجمل تلك اللحظة التي كنا نسعى لكسب رضاها حينما تطلب ان يجلب لها حاجة ما بعيدة عنها, كنا نتسارع ...لنفوز بابتسامتها الحنونة وكاننا نتعمد فعل ذلك لنظهر لها امتناننا لذلك الجهد الذي كانت تبذله لاجلنا نحن.
الى هنا انتهت حكايتنا اليوم وساعود لكم مع حكاية اخرى مع الطشت في الجزء الثاني.
...............................................
1ـ طَشت (طست): ونعني به بشكل عام , حَوضُ السّفُن , حَوضُ النّهرِ أو البَحرِ أو البُحَيرَة , اما مانعنيه بالشئ المتعارف عليه, هو ذلك الشئ المدور..العميق مصنوع من الفافون او البلاستك، الذي يستخدم كحوض للسبح فيه , او لغسل الملابس , او لعجن العجين وايضا استخدم من قبل الصيادين يجمعون صيدهم من السمك فيه او حين عرضه للبيع .
2ـصابون البزون: هو عبارة عن قطعة صابون مستطيلة بحجم كف اليد بلون الحليبي (البيج) , يتميز برائحة خاصة , يستخدم هذا الصابون في غسل الملابس (البيضاء والملونة) لازالة البقع والتي يصعب ازالتها بالمسحوق العادي. كما ويستخدم في جلف الفافون لازالة السواد ولاعطاءه لمعان.
3ـ مكعب الجويت: يسمى هكذا لان لونه ازرق على بنفسجي, وهو عبارة عن مادة الكلور وعمله هو ازالة البقع وتبيض الانسجة البيضاء.
0 comments:
إرسال تعليق