الراية البيضاء/ نرمين كحيلة


لا أعرف لماذا تذكرنى مشاهد حريق المجمع العلمى بمسلسل الراية البيضاء وهو مسلسل درامي مصري من إخراج محمد فاضل، و تأليف أسامة أنور عكاشة ، ومن بطولة جميل راتب وسناء جميل وتدرو أحداثه عن إحدى أثرياء تجارة السمك ترغب في الاستيلاء على قصر أثري يقيم به أحد السفراء في فترة تقاعده.

وأتذكر مشهد المعلمة فضة المعداوى بكل جهلها وحمقها وهى تلعب هى وذويها بإحدى تحف القصر الثمينة النادرة جهلا بقيمتها وعيون الدكتور مفيد أبو الغار تراقب بخوف وحذر هذه التحفة خوفا عليها من السقوط والانهيار ، وفى نهاية المشهد نرى دموع الدكتور وهى تسيل حزنا على انكسار هذه التحفة.. وفى نهاية المسلسل قام الدكتور مفيد ومعه كل محبى الثقافة والتاريخ بالتصدى بأجسادهم لآلة البلدوزر التى تريد هدم هذا القصر الأثرى الفريد.

وكأن الكاتب كان ينظر بعين ثاقبة - وهو يكتب هذا المشهد - إلى ما يحدث فى مصر الآن .. فهؤلاء الحمقى ممن يريدون تدمير مصر تاريخيا وثقافيا وحضاريا وبشريا يفعلون نفس ما فعله التتار من حرق لمكتبة بغداد العظيمة وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. من علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، ومن علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان..
حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية .. بل هي حروب على الإنسانية كلها..

لقد حمل التتار ملايين الكتب الثمينة... وفي بساطة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعاً في نهر دجلة!!!!..

كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى "قراقورم" - عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية - من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط..لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!!..

ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!!..

هذه جريمة ليست في حق المصريين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!!..وهي جريمة متكررة في التاريخ..

لقد فعلها الصليبيون في الأندلس في مكتبة قرطبة الهائلة..

وفعلها الصليبيون في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!!..

وفعلها الصليبيون في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها..وفعلها الصليبيون في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب..وفعلها الصليبيون في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان..

ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوروبا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوروبا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوروبا تفوق كثيراً أعداد هذه المراجع الهامة في بلاد المسلمين أنفسهم!!..

لقد كان من أولويات الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيداً قيمة العلم في الإسلام.. ويعرفون كذلك قوة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم..

وبات الآن واضحا الهدف الحقيقى وراء حرق المجمع العلمى الذى يحتوي على الخرائط الاصلية و الوثائق التي تحدد حدود الدولة المصرية القديمة ..وهي الخرائط التي تم استخدامها لإثبات أن نقطة طابا الحدودية هي أرض مصريه كما أنه تم استخدامها لتحديد أن حلايب وشلاتين أرض مصرية ويتم استخدام هذه الوثائق لإثبات حدود الدولة المصريه على مر التاريخ.

تماما مثلما حرق اليهود – فى هذا العصر - متحف بغداد لأنه يضم لوحة أثرية تصور ملك بنى إسرائيل وهو يقبل الأرض من تحت أقدام ملك العراق ويعلن له استسلامه وخضوعه وقبوله دفع الجزية قائلا له بالحرف الواحد:"أنا كلبك وابن كلبك".

وكان أول سؤال لأحد المسؤولين اليهود:هل دمرتم هذه اللوحة؟

ولا يعلم حجم الكارثة إلا المؤرخين والباحثين فى التاريخ وعلماء الآثار مثلما يعرف الجواهرجى قيمة الذهب ، فأول درس تعلمته فى الكلية أثناء دراستى للتاريخ أن التاريخ هو ذاكرة الأمة فلا تستطيع أمة أن تعيش بدون ذاكرة ومن ليس له تاريخ ليس له حاضر ولا مستقبل ، يريدون محو ذاكرتنا وهويتنا وتاريخنا حتى نصبح مثلهم بلا تاريخ ، فكتاب هيرودوت المؤرخ اليونانى الشهير الذى زار مصر وسجل كل مشاهداته بخط يده عنها يعتبر مرجعا رئيسيا لكل باحث فى تاريخ مصر وكذلك كتاب وصف مصر – الحسنة الوحيدة للحملة الفرنسية – والذى ألفه مجموعة من العلماء الفرنسيين الذين جاءوا مع الحملة الفرنسية وكتبوا وصفا دقيقا مصر فى كل المجالات..هذه الكتب فقدانها خسارة حقيقية فادحة لمصر..واخسارتنا فى التراث العظيم الذى تركه لنا الأجداد ولم نستطع الحفاظ عليه!!

إن حرق المجمع العلمى هو القنبلة الحقيقية المسيلة للدموع.

إن العين لتدمع والقلب ليحزن على ما يجرى فيك يا مصر.. هم يريدوننا أن نرفع الراية اليضاء لهم ولكن هيهات هيهات أن نفعل وسنتصدى جميعا بأجسادنا لآلة البلدوزر التى تريد هدم مصر.

CONVERSATION

0 comments: