هو عامه الأول، كل أعوامه السابقة تمرينات على القيامة، الرموز الكبرى تولد لحظة انفجارها وتشظيها، حينها تغادر دوائرها العادية-زمكانيتها-وتشرف على المصائر،
وتعيد رسم الخرائط، تتحول بوصلات وشواخص على الطريق إلى الأمام والأعلى.
ضاقت عليه تونس بما رحبت، حاله حال الأكثرية المسحوقة غير الساحقة أبدا من شباب الأوطان العربية الباحث عن مأوى، وعن أدنى حقوق البشر والإنسان، أوطان مسيجة بأكثر السلالات" الفوقانية"قدرة على إجتراح الإذلال وصناعة الفساد، وشد الأغلال على أعناق الشعوب والاوطان والمصائر، سجون بلا قضبان، قضبانها نار الجيوش وحديدها وأجهزة المخابرات وبطشها وتنكيلها.
رضي محمد بعربة الخضار متجولا على الأرصفة، بعدما فتحت له السلطة التونسية ابواب الوظيفة من الجامعة خريجا الى عراء الشوارع وعرقها، منفيا في أرض الوطن المحاصر، يكابد الزمن المر، ومفارقات الشعوب، وخذلان الجغرافيا، ووطأة التاريخ المتجمد في العروق العربية وإنسداد الآفاق.
لم يقبلوا به ولو مواطنا متوار، يتوسل الممكن ويتسول المستحيل في باطنه، المشترك مع بواطننا من المحيط اليابس إلى الخليج المرصع.
لو علم زين الفارين بن علي وأخواته على وزن "كان وأخواتها" "بالقداحة" التي استخدمها البوعزيزي لبحثوا عن مصادر نيرانها وعن حامليها ومصنعيها، ولأخمدوا كل أنفاس مشاريع النيران العربية غير تلك التي تشعل البخور الأمريكي، وترعى مراتع مصانع السلاح هناك، تحسبا لصرختها وزلزالها، ولو علموا ان بوعزيزي هو لعنتهم "المباركة" لدمروا سيدي ابو زيد على رؤوس أهلها، كذا فعل فرعون حين ابلغه معبروا الاحلام عن ولادة النبي موسى، قتل الأطفال كي لا يولد طفل يرسله الى مقابر الاستبداد والطغيان.
لم يكن "محمد" منتميا الى حزب، او تيار سياسي، كان مواطنا محايدا، في وطن تَفصّل الاحزاب فيه على مقاس الحاكم ورغبات بقائه وكعجلات لتأبيده ، ففي الانظمة الاستبدادية الآحادية أحزاب من ذهب مصفى، هي الأساس والمركز وقطب الرحى الذي تدور حوله الشعوب، تسبح بحمده، وتركع تحت شعاراته، تسير الأوطان كلها على سككه المعبدة بالدم والمرصوفة بالجماجم او الحرير، وأحزاب اسمية فقط كجرعات لمنظومات التعدد والتنوع أمام الرقابات الحقوقية والديمقراطية الدولية، يستفيد من وجودها الحاكمون اذا ارادوا يوما المحاضرة في "العفة" والحريات والقيم الدستورية والحقوقيه الكونية .
لم يسارع أي تيار سياسي او ثقافي أو ديني محدد الى احتكاره-ربما احتقره بعضهم ممن أضاف الى جسده الملتهب بعضا من وقود الفتاوى "الشعبوية" التي لا تدرك المسافة التي تصل بين الذاكرة الملبدة بالدموع وقدح الزناد-وهو برمزيته أعلى من وكالات التجيير والحصر والانحصار، بات امميا مضافا الى لائحة البوارق والسهام التي تحتم على مفاصل الحراك التاريخي العريض الانعطاف الى وجهات كان من المفروض ان تسير عليها لولا المعكرات أمرا.
رحل البوعزيزي، هذه ذكراه ماثلة بكل محمولاتها وتجلياتها ومدياتها، ووجعها، وألقها، ونورها ونارها، ورسالتها ودستورها الأنيق، ومواده المبعثره الى العواصم عبر المعاصم الصلبة الندية، غادر ولم يسمح بدقيقة صمت على رماده المحتشد والمتصاعد، منذ اللحظة الأولى والوطن العربي يضج وينطق بأرقى كلمات الحرية ومثلها بعد أن تقيأت آذان الشعوب زور الشعارات المتطايرة من افواه الحاكمين وملحقاتهم الشبحية والنفعية ...
فهل سنعود الى عقود الصمت ودوائر الفولاذ، وارتال الصفيح، هل سنترك المشعل، ونطعن الأحلام المنبعثة من رحم اليأس الكبير، هل يرشح كل هذا الحراك الدراماتيكي المذهل عن اعادة واستعادة الاستبداد بحلل قشيبة، هل سنعيد أو نبقي المجالس العسكرية والغرف المظلمة التي ادمنت الجلوس تحت لحظ المتوارين والمخلوعين والمنتقلين الى نقمة الله والتاريخ ولعنات الشعوب، وامعنت في سياسات التخريب والترويع والفتك بمواطنيها العزل، من شكلت القوة الضاربة بإسم الاحتلال السلطاني الداخلي؟
هل سنعيد استدعاء التاريخ بدموعه وآلامه ومصاعبه ومتاعبه وصراعاته، ودمائه، في محاولة كوميدية عبثية، للإنتصار للذاكرة القرونية، ونحن جميعنا مهزومون في الحاضر، لم نلملم أشلاءه ولم نرتب أوراقه، ولم نهتد بعد الى كوات ومعارج المعاصرة بعيدا عن ادعاءاتها، فمصائرنا تدار من وراء البحار بكبسة زر، وإيحاءات تمنٍ، واقتصادنا يعود ريعه الأوفر إلى هناك؟ أويكفي التغني بالتاريخ ونحن الآن خارج نداءات الواقع ومنصاته، ايكفي البكاء على الاطلال ونحن نستنبط ونستنبت بأنفسنا أطلالنا ونستعيد هزائمنا الجمعية؟!
هل سنعيد في أطر أحزابنا ودوائر تنظيرنا وسلوكنا جدولة الإنسان في سياقات رقمية من الأعلى إلى الأسفل، مواطنين أصلاء ومواطنين ظلال ؟، هل رسخ في قاع عقلنا أن الأوطان محكومة بالتعددية والعيش الواحد في أطر التنوع الجميل والمثري لثقافتنا وهويتنا الإنسانية التركيبية ؟هل سيكون السنة والشيعة والمسيحيون أقباطا وغير أقباط واثنياتنا واعراقنا أخوة ومواطنين تحت سقف وطني ودستوري واحد في فضاء مشترك يحمي ويحترم الجميع على السواء؟
هل سننتهي يوما من ثقافات الاكثريات والاقليات التي صدعت استقرارنا وأحالت شريحة من اجتماعنا إلى خارج المكان تحت وطأة بعثرة الأوطان ووطأة الراهن؟
هي عينة بسيطة من أسئلة ماثلة ومركزية غير قابلة للتأجيل ولا لأجوبة الشعر والتجريد المتعالي.
الأوطان لا تبنى ولا تحكم ولا تستقر بالإرجاء، والاحالة الى البعيد، الشعوب طالما هي في الارض هي أبناؤها ومن حقها ان تطالب بحقوقها الارضية ايضا، سيبحث الناس عن تقديمات اللحظة الحاضرة وخدمات الصيغ والأحزاب والحكومات في آنها المتصل والباني والمؤمن لمستقبلها، وعلى أساس الاستجابة لهم سيُبجلوا، وعلى إيقاع خدمتهم سيفرحوا ويهللوا، وبالثقافة والمعرفة والاقتصاد والرفاهية والأمن والسيادة والكرامة وقيمومة العدل وصيغ العدالة تعمر الأوطان وتعلو حيطانها ويبتسم انسانها.
كذا يكون ما بعد محمد بو عزيزي ليس كما قبله، رحمه الله وصان أحلامنا بأيدينا.
الشيخ جابر مسلماني- كاتب لبناني
0 comments:
إرسال تعليق