دعوها فإنها منتنة/ نرمين كحيلة

جاء في البخاري أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَابَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؟قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ .فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة." و"كسع" معناها أنه تكلم فرماه على إثر قوله بكلمة يسوءه بها. هل تفكرنا في معنى كلمة (منتنة (ولو لدقائق فقط ؟ كل إنسان يعلم مامعنى كلمة نتن والنتانة هي الجيفة أو الشيء المتعفن الذي لايستطيع الإنسان الاقتراب منه. والشئ المتعفن هو المتهالك الفاسد الذى لا جدوى منه. وهو تشبيه منفر من هذا السلوك فلو شعر كل عنصر بعلوه على العنصر الآخر لتعفنت العلاقات بين الناس.

والواضح من الحديث الشريف أن النبى صلى الله عليه وسلم يصف العنصرية بأنها جاهلية فالعرب قبل الإسلام كانت تتفاخر بأنسابها وكل شخص يقاتل بالباطل فى سبيل الدفاع عن قبيلته وهو ما سُمِىَ بالعصبية القبلية. وكان من بين أهم أغراض الشعر الذى برع فيه العرب هو الفخر وغالوا فى ذلك غلوا شديدا.

وكان النبى صلى الله عليه وسلم – وهو الشريف - أول من أسقط هذه العنصرية حين قال" إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".

وذات يوم اجتمع الصحابة في مجلس فقال أبو ذر: أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا فقال بلال: لا .. هذا الاقتراح خطأ ، فقال أبو ذر: حتى أنت يا ابن السوداء تخطئني فقام بلال مدهوشاً غضباناً أسفاً ...وقال: والله لأرفعنك لرسول الله عليه السلام..فتغير وجه النبى وقال : يا أبا ذر أعيرته بأمه ...إنك امرؤ فيك جاهلية.!!فبكى أبو ذر وقال: يارسول الله سل الله لي المغفرة ..ثم خرج باكياً من المسجد ...وأقبل بلال ماشياً .. فطرح أبو ذر رأسه في طريق بلال ووضع خده على التراب وقال: والله يابلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك. أنت الكريم وأنا المهان ....!!فأخذ بلال يبكي .. وأقترب وقبَّل ذلك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا.

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من دعا الى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية" (صحيح مسلم) ..فالعصبية هى أساس الفتن وتجعل الناس فى فرقة وتناحر والدعوة لتجنبها واجبة حتى تسلم أمتنا من النعرات العصبية لطائفة أو مذهب أو وطن.

كانت الجزيرة العربية تعج بعناصر شتى:العربى والرومى والحبشى والفارسى والمجوسى والمسيحى واليهودى. فكان من أولويات الإسلام هو تأليف قلوب هذه العناصر المختلفة .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا أبيض على أسود ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب" (رواه جابر بن عبد الله).

والآن ارتفعت الأصوات تريد بنا أن نعود لعصر الجاهلية ، فهذا علمانى وهذا إخوانى وهذا ليبرالى وهذا سلفى وهذا سنى وهذا شيعى ، بل حتى تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك أن كل مدينة تتفاخر على الأخرى فهذا دمياطى وهذا منوفى وهذا قاهرى وهذا صعيدى ، وهذا سكندرى ، وبدأت تظهر من جديد فكرة ارفع رأسك فوق أنت مصرى أو أنت ليبى أو أنت تونسى .....وهكذا. وهذا هو ما يريده الاستعمار دائما فى كل زمان ومكان أن يحيى النعرات القبلية.

كما قالت اليهود قديما نحن أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار وكما نادت ألمانيا بنقاء الجنس الآرى على بقية الأجناس وكذلك فعل الإنجليز عندما تصوروا أنهم أرقى الأجناس. فأصبحت العنصرية على مستوى الدول وعلى مستوى الشعوب وداخل الدولة الواحدة.

إذا دخلت العصبية فى أى شئ أفسدته . قال – صلى الله عليه و سلم -:" مَن نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدّيَ فهو ينزع بذنبه) " رواه أبو داود و إسناده صحيح )
"و ينزع بذنبه " أي البعير الذي تردَّى في بئر و يحاول أصحابه أن يخرجوه مِن ذنبه .

قـال تـعـالى" :يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليمٌ خَبِيرٌ" (13سورة الحجرات) قال الله تعالى: "لتعارفوا" ولم يقل لتناحروا أو لتشاجروا أو لتفاخروا .

"لتعارفوا": اى ليتعرف كل منا على فكر الآخر ويستفيد منه فقد استفاد النبى صلى الله عليه وسلم بفكرة سلمان وهو فارسى عندما أخذ برأيه فى غزوة الأحزاب بحفر خندق واعتبر أنه عربى ينتمى لبيت النبوة فقال:سلمان منا آل البيت كما أحب النبى صلى الله عليه وسلم صهيب الرومى وقربه إليه وكذلك فعل مع بلال الحبشى – رغم أن العرب كانت تنظر للأجناس الأخرى باحتقار- واستفاد المسلمون فيما بعد بثقافة المسلمين الأحباش عندما اختاروا اسم "المصحف" ليكون هو الكتاب الذى يضم القرآن لأن كلمة مصحف فى اللغة الحبشية تعنى "كتاب". بل إن القرآن نفسه استخدم ألفاظا من جميع اللغات لكى يؤكد فكرة محو الفروق بين الجنسيات المختلفة.

قال صلى الله عليه و سلم - :" إنه أوحيَ إليَّ : أنْ تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد و لا يبغي أحد على أحد " ( رواه مسلم (
و لهذا حذَّر النبي – صلى الله عليه و سلم- مِن أمور الجاهلية في حجة الوداع فقال :"ألا كلُّ شيء مِن أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع " (رواه مسلم( لأن التفاخر بالانساب هو بداية المشاحنه والمباغضة وبعد ذلك يأتي القتل.

ولذلك فإن أول شئ فعله النبى صلى الله عليه وسلم عندما هاجر للمدينة هى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. ولنا أن نتخيل إذا لم تتم تلك المؤاخاة فماذا كان سيحدث؟ كان سيحدث تقاتل وتناحر بين هاتين الفئتين ، كل فئة تريد أن تعلو على الفئة الأخرى والنتيجة ستكون هدم الدولة قبل أن تولد.

فيا أيها المصريون بكل طوائفكم وانتماءاتكم السياسية والفكرية وبكل مذاهبكم أناشدكم الله دعوها فإنها منتنة.

CONVERSATION

0 comments: