صَدام.... وصِدام/ عبد العالي غالي

ينسحب الجيش الأمريكي من ارض العراق بعد أن زرع فيها سبع سنيين دأبا، ومازال البعض يتساءل أهو غزو واحتلال أم تحرير وانعتاق؟ وكما كان الدخول مختلفا عليه، ها نحن نرى ذات الاختلاف حول الخروج... قوات عزفت على كل آلات الرعب فوق ارض الرافدين ومازال هناك من يمتدحها. قوات هتكت من الأعراض ما يستحيل ستره ولو بعد حين، ومازال هناك من يستطيب بقاءها. قوات غرّبت واستغربت ولأجل ذلك جعلت من "أبي غريب" عنوان الجثوم على الكرامة الإنسانية في ارض كانت حتى الأمس القريب تزخر بكل ما يجعلها أرضا للحضارات و لدسم التاريخ. قوات أدخلتنا في تيه شامل وتركتنا دون هدى نبحث عن توازن ما بين ماض مشوش ومستقبل أكثر تشويشا. والمحزن أننا وبعد هكذا رجّات مرعبة لم يبق لنا غير العيش في فصام مع الحاضر والمستقبل، فاستسلمنا للمعجزات وأصبحنا ننتظر منها أن تنتصر على مكاتب الدراسات الاستراتيجية. وبتنا مرغمين نرجو أن ينتصر صلاح الدين على رامسفيلد وأن تُهزم وحدات المارينز على يد كتيبة عبيدة بن الجراح...

ولنساير سذاجتنا بعض الشيء، ونقنع أنفسنا أن ما جاءت من اجله أمريكا كان نشر الديمقراطية في ارض العراق المتخمة استبدادا وتجبرا منذ ذاك الذي وسم أهلها بالشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق… إلى الذي حذرهم من أن من يتجرأ يوما فيرى في منامه أنه يثور على نظامه ستطارده الأشباح. غير أننا ما لبثنا أن أدركنا أن ديمقراطية العراق بلا مفاتن، ولن تغري أحدا من الشيب فأحرى بالشباب. فالكل يعلم علم اليقين أن تزكية الجيب والمعارك الاستثمارية تسبق تزكية الأحزاب في الكرنفال الديمقراطي العراقي وهو الأمر الذي اختزل كل الصراع في توافق يتبعه توافق يتبعه آخر... توافقات كالتي تعقدها عصابات تهريب المخدرات مع العديد من الأنظمة العتيدة كي يسمو الشعب بالعلو المشبوه فوق مآسيه... وكذلك كان حيث ادخل العراق في غيبوبة مستملحة لا يفزعه فيها غير مناوشات تقاسمت نسبتها بين مثلث سني مستو بلا قاعدة وفلول بعث...

واليوم حق لنا أن نعود بالذاكرة بعض الشيء للوراء كي نتذكره بلحيته الكثة وشعره المنفوش وفمه المفتوح. نتذكره بقسمات تائهة وملامح حالكة مستسلما للقفازات الطبية المعقمة إذ تأخذ من لعابه لتحليل حمضه النووي وكأنما هو من غريب الكائنات، أو ربما للتعرف على الجينات المسؤولة عن ديكتاتوريه كي تعدل وراثيا في من يأتون بعده... ونتذكر الحذاء المهترئ والقبو والمزرعة التكريتية التي أرادوا لها أن تكون مقدمة شريط تلفزيوني سموه "ما بعد الديكتاتور"... الغريب انه لم يترك بعده ما يطرب في ذاك الفضاء الشريد بما فيه احتفاليات "ميليشيات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" التي تحاول بكثير تكلف تجميل وجه غارت فيه الندوب... صورة لم تلبث أن محتها أخرى صبيحة عيد الأضحى إذ يقترب هو ذاته من حبل المشنقة شامخا كطود لا تهزه العواصف، وكأنه مقبل على الحياة. وهو بذلك إنما يجعل من موته مرجلا تغلي فيه الحياة ويبحر فيه كل عشاق الكرامة فوق كل أنواع الموج... موت استحق معه أن يرثى بالبيت الغاضب للمتنبي إذ يقول:

أخذتك التي سواء عندها *** البازي الأشيهب والغراب الأبقع

رحل الديكتاتور... وترك الساحة لرجال تخرجوا من المصنع الأمريكي للديمقراطية، يساعدهم على أداء مهامهم عمائم وعقال فوق كوفيات وأزياء موغلة في التاريخ… تناوبوا بلا خجل على كراسي الحكم فعاثوا فيها فسادا بأكثر ممن سبقهم. وأكاد أجزم أنهم كانوا يودون، لو يقدرون، إبادة نسل أهل دجلة والفرات لولا مناعة جيوب التاريخ المقاومة وكثير من معجزات... ولسنا نستغرب فعلهم إذ نعلم أن المُصر على مظاهر العفة قلما يكون عفيفا... نعم، قل ما يكون عفيفا، نقولها ونصر عليها مهما عاند كل ذي فكر منقب.

لكل أولئك ولمن سار على نهجهم من أبناء رقع هذا البساط العربي المُرقع تشرذما نقول ما قال شاعر "بانت سعاد":

لا يغرك ما منت وما وعدت **** إن الأماني والأحلام تضليل

ولتاء التأنيث أن تعود على التي جاءت بلاد الرافدين "محررة" فأهلكت الزرع والنسل.


المغرب




CONVERSATION

0 comments: