نظرة على واقع الصحافة العربية في اسرائيل/ نبيل عودة


التنوير، التعددية وحرية النشر بضاعة صحفية مفقودة


يوصف الاعلام في الدول المتنورة بصفته سلطة يحسب حسابها، ترفع وتنزل وتؤثر على تشكيل الرأي العام وليست مجرد ناقلة أحداث انما صانعة احداث وقطار شاحن للثقافة، للمجتمع، للفكر، للتنوير وبالأساس مرآة لمجتمعها المدني.
الوسائل الاعلامية في ايامنا ليست محدودة بطاقاتها.إنما تعوم على بحر هائل من الأفاق الإعلامية. ولا أعني بالبحر الهائل مجرد العمل على نشر الاخبار الجاهزة التي توزعها المؤسسات بل صناعة الاخبار وأحيانا صناعة التاريخ، عبر تحريك الرأي العام والتأثير عليه عبر العديد من الوسائل الاعلامية، التقليدية والألكترونية.
ويطرح السؤال: هل الاعلام مجرد نقل أخبار واعلانات .. وتغطية أحداث، ام أن للإعلام وظيفة أكثر اتساعا وخطورة ، وأكثر امتدادا من التماثل ونقل مع ما هو قائم ومرئي ؟
ونجيء لسؤال افتراضي: هل القاعدة الصحفية التي تقول "لسنا مع أحد ولسنا ضد أحد" ، تصلح لأن تكون المعبر عن واقع وتطلعات مجتمع بشري ما، وبالتالي مقياسا صحفيا في عصر سيادة العقل؟

الصحافة في المجتمع العربي في أسرائيل كنموذج

نشهد في السنوات الأخيرة تنامي واسع جدا في وسائل الإعلام داخل المجتمع العربي في اسرائيل: صحافة مطبوعة ، مواقع انترنت ، محطات راديو ، وما زلنا نفتقد للأعلام التلفزيوني (طبعا عدا برامج قليلة بالكاد يشاهدها المواطن العربي تبث في ساعات غير مناسبة من القنال 33 في التلفزيون الاسرائيلي، وتكاد تكون بعيدة عن قضايا المواطنين الملحة)... ومع ذلك الصورة التي يعكسها الواقع الاعلامي المحلي تبدو بائسة جدا على كافة الأصعدة.
حتى اليوم لا يوجد اعلام يمثل مصالح وتطلعات المجتمع العربي المدني في اسرائيل – هناك اعلام حزبي مباشر . وهو اقرب للنشرات الحزبية الداخلية، ويتركز معظمه بالحياة والنشاطات الحزبية وأخبار القيادات الحزبية والدعاية للحزب ، وهذا يتزايد في مرحلة فقدان الأحزاب لأدوارها كمنظمة وقائدة ومثقفة للمجتمع المدني، وهو الدور الأساسي الذي اعتقد انه منوط بالأحزاب. ونظرة على الاعلام الحزبي اليوم تبين بوضوح انه لم يعد اعلاماً اجتماعياً فكريا وتثقيفيا ، وان دور الحزب كقائد ومنظم للمجتمع المدني يتلاشى ويتحول الى مصالح انتخابية انتهازية لشريحته العليا، وان كل فهمهم للإعلام لا يتعدى اخبارهم ونشاطاتهم وتصريحاتهم، حتى الثقافة اسقطت من أجندتهم، بفهم خاطئ للدور التعبوي الحاسم للثقافة في حياة المجتمع المدني الحديث، وان السياسة بعزل الثقافة تصبح خواء.
من الأهمية التاكيد على ان الثقافة تعني القدرة على التفكير والقدرة هلى صياغة الرؤية المستقبلية، والقدرة على تجديد روح الابداع في الفكر الاجتماعي والسياسي وتوسيع آفاقهما.والأهم القدرة على جذب اوسع الأوساط المثقفة للنشاط السياسي ، مما يعني ان السياسة اضحت هما فكريا اجتماعيا وليس صراعا على مصالح انتهازية.والأكثر أهمية انه بدون سياسيين يعتبرون من الصف الاجتماعي الثقافي العلمي الأول ، سيتواصل انقراض الأحزاب وانفضاض الجماهير عن المشاركة الفعالة بالنشاطات السياسية. وستتواصل أزمة القيادات وأزمة الأحزاب ، وهذا يعني اليوم ان اضمحلال التنظيمات الحزبية هي مسالة وقت.
بالطبع يسأل السؤال: هل يمكن تصور مجتمع بدون أحزاب؟
هناك بدائل أكثر تطورا وأرقى في نوعيتها ، انها تنظيمات المجتمع المدني، وقد بدأنا نلمس تنامي في ادوارها ( الجمعيات المختلفة) واحتلالها مجالات بالغة الأهمية لم تطرقها الأحزاب في نشاطاتها. ولكن لم نصل بعد الى اللحظة الحاسمة في الانتقال من شكل تنظيمي قديم الى شكل حداثي ارقى..
ونعود للصحافة...
تجربتنا الثرية حتى سنوات السبعين من القرن العشرين، في النشاط الحزبي السياسي، شكلت الثقافة فيه القاعدة الصلبة التي بنيت عليها استراتيجياتنا السياسية والنضالية كلها، والتي أثمرت أفضل انتصارات سياسية في تاريخ الأقلية العربية في اسرائيل، وبنفس الوقت أعطت للثقافة العربية أسماء أدبية لامعة شكلت قمة ثقافية للعالم العربي كله ، من نتاجها كان محمود درويش، سالم جبران، توفيق زياد، سميح الفاسم وغيرهم..
من الناحية الأخرى هناك الصحافة المستقلة (التجارية) ويحكمها نهج السوق وليس نهج التفكير والتنوير والخدمات الاجتماعية والثقافية، ولا أقول ذلك من منطلق الهجوم ، إنما من واقع أليم قائم قد تسميه ادارات الصحف المستقلة بالعمل التجاري، الذي لا بد منه لاستمرار صدور الصحيفة، واعترف ان هذا صحيح شكليا، وبالتالي لا ينتج اعلاما متنورا، ونجد ان محرري الصحف يبذلون جل جهودهم في الحصول على اعلانات وليس في صياغة اعلامية حضارية.. ويشكل الاعلان مادتها الأساسية.
ليس عاراً ان تكون وسيلة الاعلام تجارية، هذا امر طبيعي، أما غير الطبيعي فهو الركود الإعلامي للصحف المستقلة ولهذا الركود اسباب مختلفة ابرزها، اضافة الى ما جاء في سياق المقال:
1- شح الميزانيات الذي يفرض على الصحيفة نهجاً صحفياً محافظاً في النشر ، لدرجة ان اكثر من 90% من الأخبار المنشورة بعيدة عن اهتمامات القارئ، وتتميز بكونها اقرب للعلاقات العامة (أحياناً اعلانات بشكل أخبار ) وكل ما يحرك صحافتنا محسوب في الحصول على اعلانات، والظاهرة السائدة اسقاط مواضيع هامة ، خاصة المواد الثقافية، من أجل الاعلان، لذا ليس بالصدفة ان صحافتنا تفتقد للمحرر الأدبي، ومعظم ما ينشر من مواد ادبية لا يرقى الى مستوى تجعله صالحا للقراءة. .ولا بد ان اذكر، وليغضب من يغضب، ان الهدف من انشاء الصحف لم ينطلق من رؤية فكرية ما ، بل من أهداف تجارية فقط.

2- المستوى المهنى الضعيف للصحفيين ، أكاد أجزم ان خريجي معاهد الاتصالات، او الجامعات في مواضيع العلوم السياسية، الاجتماعية ، القانونية، الاقتصاد، الفنون، الآداب وغيرها ، لا يجدون الدوافع ، الذاتية والمادية ، للإنخراط في عالم الصحافة، بسبب فقر وسائل الاعلام، وتحكم المحرر بنوع المواد، وغياب المهنية الصحفية ، والفقر الفكري لسياسة التحرير، والارتجال، وغياب المقاييس الصحفية، وفقر اللغة الصحفية المتداولة، وعدم فهم واستيعاب أن مضمون الصحافة المطبوعة في عصر الاعلام الألكتروني يختلف جذريا عما كان سائدا في السابق. وتبعا لذلك المعاشات التي بالكاد تسد الرمق، ولا تتجاوز الحد الأدنى القانوني للمعاشات.

3 - اسلوب ادارة وسائل الاعلام ، بصفتها مزرعة خاصة لمالك الصحيفة، او المحرر، ولا ينشر الا ما يتمشى مع الحسابات الاعلانية، والميول السياسية لأصحاب الصحيفة، ونفتقد في وسائل اعلامنا لسياسة اعلامية، لمضمون فكري، لنهج اجتماعي، ولا أعني التمترس وراء فكر معين، انما رؤية انسانية عامة وشاملة، تتضمن حرية الرأي والتعددية الفكرية وحق الاختلاف، ربما مواقع الانترنت أكثر تحررا وحرية نسبية في هذا النهج، ولكن النشر العشوائي يضعفها ويسقط جديتها، وبعضها تحولت الى ملتقى لتعليقات تغلب عليها عقلية المراهقين..بل وأعرف من زملاء مثقفين ان التعليقات الجادة لا تنشر!!

من المؤكد ان الواقع الاقتصادي للعرب في اسرائيل ، يلعب دوراً سلبياً في تطوير الأعلام العربي في اسرائيل ... وحتى اليوم لم نشهد ان رجال اعمال عرب يعطون اي قيمة للإعلام، وما عدا استعدادهم لنشر بعض الاعلانات وبأسعار بخسة، لم تنشأ في مجتمعنا ظاهرة الارتباط بين الأعلام ورجال الأعمال. وهذا أيضا معيار لحالة الاقتصاد العربي الضعيفة.

4 - لا يمكن أيضا ان نتجاهل السياسة الرسمية المعادية للأعلام العربي في اسرائيل، الى جانب أن شركات الأعلان الاسرائيلية ( اليهودية ) تمارس تقريباً نفس السياسة. وحسب مصادر مختلفة، لا تزيد حصة الاعلام العربي في اسرائيل من كعكة الاعلانات الحكومية والخاصة، عن 1% - 1,5 % من ميزانياتها، مع ان العرب يشكلون 20 % تقريبا من السكان.
إن "ثقافة الفقر" التي تسيطر على وسائل اعلامنا ، خاصة المطبوعة منها .. تنعكس سلبياً على دور هذه الوسائل، وعلى مستوى المنتوج الإعلامي الذي يقدم للمتلقى (المواطن) العربي.
هذا الواقع انعكس سلبا على توزيع الصحف التي تباع. القارئ المثقف والواعي.. غير مستعد لشراء كيلوغرام من ورق الاعلانات.. بالكاد يجد بينها مادة تستحق القراءة. وبالمقابل نجد ان الصحف المجانية تنتشر بشكل أوسع .. وأحيانا مواضيعها ذات قيمة أفضل، احد المطلعين اسر لي ان عدد الصحف العبرية التي تباع في الوسط العربي هي أضعاف ما يباع من الصحف العربية.أي ان القارئ العربي يبحث عن مضامين غير متوفرة في الصحافة العربية.
في تارخ الصحافة تطورت نظرية هامة في عصر النهضة الأوروبية، تعرف ب "نظرية الحرية" أو "النظرية الليبرالية"، وذلك ردا على النظرية السابقة التي سادت، "نظرية السلطة"، أو "النظرية السلطوية" والتي تمنع أي انتقاد حتى لموظف حكومي اذا فسد. النظرية الليبرالية بُلورت في عصر النهضة الأوروبية، وبالتحديد، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كتحد للسيطرة السلطوية على الصحافة، وكان من أبرز مروجي النظرية الليبرالية، المفكر الإنجليزي "جون ميلتون"، الذي كتب عام 1664، يقول: "إن حرية النشر، بأي واسطة، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، حق من الحقوق الطبيعية، لجميع البشر، ولانستطيع أن نقلل من حرية النشر، بأي شكل، وتحت أي عذر".
ونحن اليوم في صحافة تقيد حرية النشر. ليس خوفا من نقد السلطة الصهيونية مثلا.. العكس هو الصحيح.. ننتقد بعنف، ونهاجم بدون تردد وبدون قيود.. الا ما يفرضه القانون حول اللسان السيء. وهناك "اجماع قومي " للصحافة العربية اذا صح هذا التعبير، وتنافس بينها على الصحيفة الأكثر " قومية " وشطارة في صياغة الشعارات الرنانة.. لم يعد فرق بين صحيفة حزبية أو تجارية.. كلها تشارك بمهرجان الحرية الصحفية.. والسؤال، أين المواطن وقضاياه الحقيقية؟ أين مشاكلنا الاجتماعية؟ أين قضايا الفساد في الكثير من سلطاتنا المحلية؟ أين علاج مشاكل العودة الى العائلية في بلداتنا العربية وما تولده هذه الظاهرة من تناقضات وصدامات دموية، وتفسخ اجتماعي، حتى داخل العائلة الواحدة أحيانا؟ أين النقد لتفشي الطائفية والوقوف الاعلامي ضد هذه الظاهرة الفتاكة بكل الطوائف؟ أين تدني المستوى التعليمي المقلق لمدارسنا؟ أين قضايا الفئات الاجتماعية المسحوقة؟ أين مشاكل الفقر والبطالة في الوسط العربي؟ أين مشاكل الأكاديميين العرب وقضية استيعابهم؟ أين قضية الأرض الحارقة للبلدات العربية، لتطوير مناطق صناعية، وتخصيص مساحات للاسكان، وتوسيع مسطحات البلدات العربية؟
بالتلخيص، لدينا وسائل اعلام غير قليلة، والمؤسف أن مفاهيم الفكر والتنوير والاستقلال والشجاعة في التعامل مع المواضيع المختلفة، ووجود طواقم صحفية متخصصة في مختلف المواضيع، هي الغائب الكبير من اعلامنا. وبالمقابل هناك ظاهرة مهمة، بظهور اعلام الكتروني اكثر استجابة وفهما لأهمية تعدد الآراء والحوار الفكري والثقافي.. ولكنه لا يفي بكل المطلوب من قصورات مجمل وسائل الاعلام .
عدا الواقع الاعلامي الفقير ثقافياً نعيش واقعاً اجتماعياً وسياسياً متهافتا، ومسكوت عنه اعلاميا بشكل نسبي كبير، وما يشد اعلامنا للأسف هي الظواهر وليست المضامين غير السليمة التي تقود الى نشوء الظواهر السلبية. واعلامنا في معظم الحالات غير مستعد (للأسف) للأنطلاق نحو افاق التنوير، كما أنه غير مستعد للمواجهة والصراحة. ويمكن القول انه تعبير أيضا، عن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي المتدني في سلم المقاييس الاسرائيلية نفسها .

nabiloudeh@gmail.com


CONVERSATION

0 comments: