فجر الضمير/ نرمين كحيلة

أتعجب حقا لما أصاب المصريين من تدنى أخلاقى وخروج على التقاليد والأعراف ، فمصر منذ فجر التاريخ عرفت العيب والحرام وهذا ما حدا بعالم الآثار"جيمس هنرى برستد" أن يؤلف كتابه "فجر الضمير" سنة 1933 الذى أثبت فيه أن الأخلاق نشأت فى مصر وأن الضمير بدأ فى مصر حيث يقول فى مقدمة كتابه:"إنه يجب على نشء الجيل الحاضر(فى الغرب) أن يقرأوا هذا الكتاب الذى يبحث فى تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير فى المجتمع المصرى" ويقول الدكتور سليم حسن أستاذ المصريات فى مقدمته لهذا الكتاب أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربى أن يقرأوا هذا الكتاب فإنه يكون ألزم الواجبات على كل مصرى مثقف أن يستوعب ما احتواه لأنه تاريخ نشأة الأخلاق فى بلاده التى أخذ عنها العالم كله.

وفى أول محاضرة لنا فى التاريخ الفرعونى سألنا أستاذنا:"هل تعرفون لماذا استمرت الحضارة لالمصرية ثلاثة آلاف عامًا؟ لأنها الحضارة الوحيدة التى قامت على الأخلاق" وتأكدت يومها أن قانون استمرار الشعوب هو حفاظها على الأخلاق والفضائل.

فالمصرى بطبعه حييى يحب الستر والاحتشام ، بل حتى فى التماثيل المصرية نلاحظ الحشمة والوقار والميل إلى ستر الجسد أما فى التماثيل اليونانية والرومانية مثلا نلاحظ التكشف والعرى.. وبما أن مصر كانت أصل حضارة العالم ومنبت نشوء الضمير والبيئة الأولى التى نمت فيها الأخلاق فقد نشأ ما يعرف بأدب الحكم والنصائح وهو ما يعرف بالأدب التهذيبى أو أدب الحكمة والموعظة الحسنة لقدماء المصريين..وهى غالبًا ما تكون نصائح موجهة من أب خبر الحياة وذاق حلوها ومرها يسوقها لابنه لكى يعمل بها ، حتى يحقق لنفسه النجاح والفلاح فى حياته المستقبلة، أو من معلم لطلابه.

فيقول "بتاح حتب" لابنه:"حصِّل الأخلاق وارع الحق واعمل على نشر العدالة ، وعامل الجميع بصدق" ، "لا تغتر بما حصلت عليه من العلم فتستكبر ، ولا تتجبر ، ولكن اجعل الأمر شورى مع الجميع" ، "إذا وجدت رجلا يتكلم وكان أكبرمنك وأشد حكمة ، فاصغِ إليه واحن ظهرك أمامه (دليلا على الطاعة والاحترام) ،"إذا وجدت رجلا فقيرا يتكلم فلا تحتقره لأنه أقل منك بل دعه وشانه ولا تحرجه".

وكذلك نصحه بأنه إذا دُعِىَ إلى وليمة أن يأكل مما يليه ولا يأكل كثيرا وأن يغض بصره ولا يقرب النساء..(وهو نفس ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم:" يا بني سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك"رواه عمر بن أبى سلمة) وهناك نصائح أخرى من حكماء آخرين تأمر الصغير إذا كان جالسا أن يقوم للكبير ليجلسه مكانه.

قال الحكيم "آنى" لابنه أنه يجب البر بالوالدين وخصوصا الأم:"ضاعف الطعام الذي تقدمه لأمك ، احتملها كما احتملت قذارتك ، فهى قد حملتك طويلا تحت القلب عبئا ثقيلا فإن ثديها ظل فى فمك ثلاث سنوات ، لا تدعها تلومك وترفع أكفها إلى الله فيسمع شكواها".

ولم يخلُ تمثال لفرعون إلا وهو يحتضن أمه بحب.. يقول الدكتور محمد العريفى أن موسى عليه السلام دعا على فرعون بالهلاك فأخر الله تعالى استجابة دعوته أربعين سنة لأنه كان بارًا بأمه.

أما الملك "نفر إير كارع" فكان شخصًا طيب القلب وفي نفسه شعور أصيل بحب من حوله والاعتراف بخطئه إذا أخطأ. فقد كان يفتتح ذات يوم أحد الأبنية فوكز وزيره بطريق الخطأ فاعتذر له. ولنا أن نتخيل فرعون بجلال قدره يعتذر وهذا دليل على تواضعه.

وفى نصيحة الفرعون لابنه الأمير "مرى كارع":"إن فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور الرجل الظالم". يقصد أن الله يحب الأخلاق أكثر من حبه للأضحية أو القربان.

أما القصة الشهيرة فى التاريخ المصرى القديم وهى قصة الفلاح الفصيح فهى تحكى قصة فلاح مصرى بسيط وقع عليه ظلم شديد من أحد حكام الأقاليم (بمثابة محافظ الآن) فأرسل شكوى مباشرة إلى الفرعون يتظلم له من الظلم الذى وقع عليه وكان أسلوبه بليغا أعجب الفرعون فسكت حتى يرسل له الفلاح شكاوى بليغة أخرى حتى بلغ عددها تسعة فاستجاب الفرعون لطلب الفلاح ورد له حقه وعاقب الحاكم..وفى أحد هذه الخطابات يقول الفلاح الفصيح مخاطبا الفرعون ناصحا له:"إن العدالة خالدة الذكرى ، فهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر ....ولكن اسمه لا يمحى من الأرض بل يذكر على مر السنين بسبب العدل".. سبحان الله!! لم يتواطأ الفرعون مع حاكم الإقليم بل استمع لنصيحة فلاح بسيط من شعبه وعاقب الجانى رغم عظم منصبه.

والذى نلاحظه أن المصريين على مر تاريخهم استجابوا للأنبياء وآمنوا بهم فالنبى إدريس مثلا (وهو مصرى أرسله الله إلى المصريين) ذكره الله فى القرآن الكريم ولم يذكر أنه عذب قومه بسبب عدم إيمانهم به. وهذا دليل على حب المصريين الفطرى للخير والحق والدين فقد احترموا الأنبياء ولم يقتلوهم كبنى إسرائيل."واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليًا"(مريم:36-57)

وقد اشتهر المصريون بالحكمة والعقل حتى أن الفلاسفة اليونان مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط استقوا الحكمة من المصريين عندما اطلعوا عليها بعد زيارتهم لمصر.

نحن عندما نفتخر بحضارة مصر إنما نفتخر بها كحضارة أخلاقية قبل أن نفتخر بها كحضارة علمية من طب وهندسة وعلوم.

ونلاحظ ان الله عز وجل دائما يعذب الدولة الظالمة التى لديها انحلال اخلاقى حتى لو مسلمة وينصر الدولة العادلة ذات الأخلاق حتى ولو كافرة يقول ابن تيمية "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة " فقد عذب الله قوم لوط ليس بكفرهم ولكن بالفاحشة والشذوذ الذى استشرى فيهم..ولم يعذب قوم إبراهيم عليه السلام لأنهم كانوا ذوى أخلاق..وكذلك النبى شعيعليه سلام أرسله الله إلى قوم مدين حتى يرشدهم إلى مكارم الأخلاق {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}. أى أنهم كانوا يتعاملون بالربا ويقطعون الطريق فنهاهم عن ذلك. "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون"(الأعراف:85،86)

ولعل أغلب ما سطرته لنا المثل المصرية العليا هو عين ما جاء به الإسلام فيما بعد فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولم يقل أنه بعث لكى يجعل الناس يصلون ويصومون.. أعنى أن كل العبادات موظفة لكى ترتقى بسلوك المسلم ، يعنى العبادات وسيلة إلى الأخلاق التى هى غاية الإسلام. "من لم يترك قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يضع طعامه وشرابه"(رواه البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد).. صحّ مِن قول ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ : "مَن لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتَنهه عن المنكر ، لم يزدد بها مِن الله إلاّ بُعْدًا" . رواه الإمام أحمد في " الزهد " وابن جرير في " التفسير " والطبراني . وصححه العراقي والألباني .

ولهذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن تلك المرأة الصوَّامة القوَّامة : هي من أهل النار لأنها كانت تؤذي جيرانها بلسانها.(أخرجه الإمام أحمد)

كانت هناك أخلاق موجودة بالفعل فى الجزيرة العربية كنجدة الملهوف والكرم والشهامة والمروءة لكنها كانت ينقصها بعض القيم الأخلاقية الأخرى فكانت مهمة النبى صلى الله عليه وسلم إتمام هذه المكارم..عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار" وقال أيضا:"إن من أحبكم إلىَّ وأدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبعدكم منى مساوئكم أخلاقا......"(رواه جابر بن عبد الله الأنصارى)

وإن موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياءً منه.

أما آن لنا أن نثوب إلى رشدنا ونعود إلى قيمنا المصرية الأصيلة وإلى فجر الضمير؟

CONVERSATION

0 comments: