أيها العراقي ما لك وما عليك/ صالح الطائي

لا يوجد في الكون كله نظام يعطيك ما (لك) ولا يطالبك بما (عليك) مطلقا، فكل كائن في الوجود يعيش وفق الموازنة الأبدية الدقيقة بين (لك) و(عليك) وحتى الأديان السماوية نفسها تطلب منك ما (عليك) قبل أن تعطيك ما (لك) كذلك الحكومات، والعشائر، الأسرة الصغيرة، أنت مع ذاتك، كلها كيانات قائمة على مبدأ ما لك وما عليك. وقد تكون رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام أسمى توضيح لما (لك) وما(عليك) لأنها تغور في عمق الشريعة لتستنبط الحقوق والواجبات.
أنت كمواطن لك على الحكومة التي أعطيتها صوتك ووقعت معها عقد تكافل أن تحميك وتوفر لك الأمان وتعمل على توفير الخدمات والعيش الكريم والعلاج والضمان الاجتماعي والطعام والشراب والتعليم والمأكل والملبس، ولها عليك أن تلتزم بقوانينها وتحافظ على المال العام وتخلص في عملك وتتعلم وتتقدم وتتطور وتشتغل بجد، وأن تسهم من جانبك في حماية ما تبنية، وأن تزرع شجرة أو وردة في الشارع العام بدل أن تشكوا من قتامة الصورة، وأن تزيل بعض ما خلفه الآخرون من مخلفات على الأرصفة وفي الطرق بدل أن تشكو تناثر الأوساخ، وأن لا تصادر حقا لإنسان لآخر ما دمت تريد من الآخر أن يحترم حقك.
ووفق الأنماط الحياتية القائمة والإكراهات المرحلية، ربما تتلكأ الحكومة في تنفيذ التزاماتها لأسباب قاهرة، كأن تكون واقعة تحت ضغط الإرهاب، والحركات الطائفية ومن هم لا يريدونها أن تنجح، فضلا عن جهل السياسيين لآداب العمل الوظيفي، وقسرية وجود المحتل، ووجود المعارضين لنهجها بين صفوفها، وعليه لا تحصل على جزء مما هو (لك) وفي مثل هذه الحالة لا يسقط عنك تكليف ما هو (عليك) فإن تقصير الحكومة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها لأسباب قهرية، لا يعني أن تتخلى أنت عما هو (عليك) لأنك متى ما تخليت عنه انتقاما منها أو اعتراضا على نهجها، فضلا عن تقصيرك في أداء الواجب تضع نفسك في خانة الوطنية المشكوك فيها. بل المفروض بك أن تؤدي ما هو عليك، بأحسن حال، لكي لا تعطي الحكومة حجة التقصير، ولكي تتيح لها العمل وتحثها على القيام بمهامها، ومتى ما عجزت الحكومة عن تأدية واجباتها تجعل صناديق الاقتراع حكما بينك وبينها.
وفي الوقت الذي نجد فيه بعض شبابنا سائرين على نهج أخوتنا العرب الذين انتصروا من خلال مظاهراتهم على حكامهم المجرمين الخونة، تلك المظاهرات التي تطور فعلها تبعا للأسماء التي أطلقت على أيام الجمع باعتبار أن مناسبة صلاة الجمعة تشكل بحد ذاتها مظاهرة عبادية.على هذا النهج حاول بعض العراقيين ركوب الموجة ولكل منهم غاية وهدفا حيث هناك من حاول تجيير مكاسب المظاهرات لنفسه وتوظيفها لمصلحته الثأرية أو الفئوية أو الحزبية بعيدا عن المصلحة الوطنية، وهناك من وجدها مناسبة لعرقلة عمل الأجهزة الحكومية بما يحسب تقصيرا على الحكومة وهو الأمر الذي جعل الكثير من الشباب الوطني الواعي يعزف عن المشاركة بالتظاهرات بعد التجربة المخيبة الأولى بما بدأ وكأنه نكوص وتخاذل، بل وفشل لمشروع المظاهرات، هذا المشروع السامي النبيل، والحق الدستوري والحس الوطني الذي نتمنى أن يأخذ مداه الحقيقي ليكون وسيلتنا في التغيير نحو الأحسن.
أنا لا أنكر أن التظاهرات الأولى على بساطتها دفعت الحكومة ومجلس النواب إلى إعادة التفكير في سياساتهم ومواقفهم، بما يبدو وكأنهم كانوا نائمين أو منشغلين بأمور أخرى بعيدا عن هموم الوطن والمواطن. لكن ما حققته التظاهرات كان بحق دون مستوى الطموح لأن أغلب المتظاهرين كانوا واثقين من عدم جدية مشاريعهم وهو الأمر الذي بينته في مقال سابق بعنوان (نقاش هاديء لموضوع ساخن .. التظاهر ضد من؟)
الآن مع بقاء الظروف التي دفعت المتظاهرين إلى الخروج أول مرة، ومع وجود معلومات تفيد أن الوطنيين والفئويين والمصلحيين والإرهابيين والعملاء والمأجورين والمستفيدين الذي فشلوا في الحصول على مكاسب تذكر من خلال المظاهرات الأولى، يعملون على تطوير مناهجهم وآلياتهم للخروج من جديد بمظاهرة حددوا لها يوم الجمعة المصادف 9/9/2011 بات لزاما على كل مخلص للعراق وأهله أن يعيد النظر بموقفه من المظاهرات، فالمظاهرة لا تأتي للاعتراض فقط، بل وتأتي للتأييد أيضا، وإذا ما كان الدستور يكفل حق المعترض بالتظاهر، فللمؤيد أكثر من حق في التظاهر.
لكن هل يوجد مؤيدون لمسيرة الحياة العراقية الراهنة بكل تعقيداتها؟ وهل توجد دواع تدفع المؤيدين إلى التظاهر أكثر مما هو موجود لدى المعترضين؟
ولا أقول أن الجواب: نعم،أو لا، فمن المؤكد أن هناك مستفيدين يريدون للوضع القائم أن يبقى على حاله وهؤلاء للأسف يحسبون مع المؤيدين .. ولا أقوال أن الأمور مستقيمة كلها ولا حاجة إلى التظاهر لأن الأمور دون مستوى الطموح وتزداد أعوجاجا، ولكني في ذات الوقت لا أدعي عدم وجود مكاسب ومزايا حصل عليها المواطن أو فئة كبيرة من المواطنين من الوضع القائم.
المهم ومن خلال هذه الحقيقة الشائكة أرى من الواجب على من وفر لهم النظام الحالي مساحة من الحرية والعيش الكريم وسد عوزهم وحاجتهم وأبعد عنهم شبح المطاردات الأمنية والدعوات الحزبية والسوق إلى قواطع الجيش الشعبي وقسرهم على التبرع بمدخراتهم وذهبهم لدعم القادسيات الغبية وصادرة طقوسهم العبادية وحريتهم الشخصية فضلا عن التجارب المريرة الكثيرة الأخرى أن يثبتوا ذلك من خلال التظاهر، بمعنى أن يخرجوا بمظاهرات مضادة ليس على طريقة بلطجية وشبيحة الأنظمة العربية ولكن بشكل متحضر. وليس بالخروج إلى الشوارع وحرق البنايات ودوائر الدولة وتعطيل الحياة، بل من خلال الإسهام الفعلي في عمل بنائي يثبت وطنيتهم ويثبت أن عليهم من الواجبات مثل ما لهم من الحقوق، وذلك بأن يسهموا في تنظيف شارع ما، أو القيام بحملة تشجير إحدى المساحات الفارغة، أو التطوع بعمل اجتماعي خدمي، أو بالإسهام في محاربة الفساد المالي والإداري، أو بجمع المعونات للأيتام والأرامل، فالدولة أي دولة مهما كانت قوية ومتمكنة ومتمرسة وبعيدة عن تهديدات الإرهابيين والطائفيين، لا يمكنها بمعزل عن مشاركة المواطنين أن تلبي كافة مطالبهم، أي أن المواطن مطالب هو الآخر بأن يعطي، مثلما يريد أن يأخذ، وهو في عطائه، ممكن أن يحمل ثقلا عن كاهل الحكومة، بما يسمح لها أن تتفرغ للمهام الأصعب.
والآن بعد أن اختار الآخرون أسماء للجمع التي يتظاهرون بها، لتبديل النظم التي أضرت بمصالحهم، هل من الممكن للعراقيين الساعين إلى بث الأمن والاستقرار والمدافعين عن وحدة وكرامة وسيادة وحرية العراق أن يخرجوا بجمعة يسمونها (جمعة إثبات الوطنية) ليطرحوا من خلالها أعمالهم البنائية التي قاموا بها خلال المرحلة المنصرمة أمام الناس، لنصرة العراق وأهله؟ لأن العراق بوضعه القائم اليوم لا يحتاج إلى التظاهر السلبي للمطالبة بتبديل حكام نحن نصبناهم بإرادتنا في مراكزهم وسلمناهم طوعا مسؤولياتهم، بقدر حاجته إلى ضرورة إثبات المواطن لوطنيته من خلال الإسهام في البناء والإعمار والتطوير والتصحيح والتقويم. فإذا ما عجزت الحكومات المتعاقبة عن القيام بمهامها فإن المواطن الحريص الحر الشريف يجب أن لا يعجز ولا يكل عن فعل الخير والصلاح للوطن لكي يثبت وطنيته وحبه للعراق، ولكي يشعر الحكومة بعجزها وتقصيرها! أما التغيير والدعوة لإسقاط النظام فنتركها لصناديق الاقتراع وموعدنا معها قريب.

CONVERSATION

0 comments: