يبدو أن ربيع الثورات الشعبية العربية قد وصل بسرعة إلى تل أبيب ومدنٍ إسرائيلية أخرى، وبدأ يهز بعنف كرسي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ويهدد استمرار حزبه على رأس الحكومة الإسرائيلية، وقد ظن نتنياهو أنه بمأمنٍ من الثورة، وأنه بعيدٌ عن الاضطرابات، وأن شعبه لن ينقلب عليه، متباهياً بأن دولته هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأن شعبه قد اختاره راضياً رئيساً للحكومة، بيد أن الحكومات المجاورة لهم حكوماتٌ ديكتاتورية قمعية، تحكم شعوبها بالحديد والنار، وتقمع بقوة السلاح مساعي الإصلاح ودعوات الحرية، فهي لا تستجيب لمصالحهم ولا تهتم بأمورهم، ولا يهمها أن تشركهم في الحكم أو أن تشاورهم في القرار، فغايتها الحفاظ على أنظمتها، والبقاء طويلاً في سدة الحكم.
نتنياهو رجلٌ متطلع إلى السلطة، شغوفٌ بها، متمسكٌ بكرسيها، تسحره الأضواء، وتجذبه العدسات، يحرص وزوجته سارة على منصبه رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ويخشى أن يفقده للمرة الثالثة، شكل حكومته من فسيفساء حزبية دينية متطرفة، وربط نفسه إلى أفيغودور ليبرمان وحزبه، ورضي أن يكون تبعاً له، مؤيداً لسياسته الخارجية الرعناء التي أفقدت حكومته الكثير من الأصدقاء، ومنفذاً لأجندته الداخلية التي عطلت الكثير من برامجه، وملتزماً بمحدداته السياسية تجاه عملية السلام، فجمد لأجله قنوات الاتصال مع السلطة الفلسطينية، وأفشل كل محاولات استعادة الحوار واستئناف المفاوضات، ووأد كل المساعي الدولية الساعية للوساطة بين حكومته والسلطة الفلسطينية، وقد استخف نتنياهو بالأزمة، وظن أنها مظاهرةٌ وستنتهي عندما تنفض، ولن يكون لها أجندات ولا برامج للاستمرار والتواصل، ولن تتشكل مجموعاتٌ إسرائيلية على الفيس بوك لتنظيم الخروج كل يوم.
تعلم الإسرائيليون من الشعوب العربية الثائرة، التي سكنت الميادين، وعمرت الشوارع والساحات العربية، فنزلوا بالآلاف إلى الشوارع والميادين، ورفعوا شعاراتٍ سياسية وأخرى اجتماعية، وطالبوا بإسقاط حكومة نتنياهو، وبعودته إلى بيته، وتخليه عن منصبه، أو أن يستجيب إلى طلباتهم، ويلبي حاجاتهم، ويخضع إلى شروطهم، وهي شروطٌ كثيرة ومعقدة، قد تؤدي إلى إفلاس خزينته، وانفضاض شركائه وحلفائه، وتفكك حكومته، وانهيار منظومتها الاستيطانية وفلسفتها الأمنية، إذ أن الملفات المطروحة كثيرة، والعناوين المرفوعة يعجز عن التعامل معها، أو إيجاد الحلول لها، فضلاً عن عدم وفائه لناخبيه في تطبيق برنامجه الانتخابي الذي جاء على أساسه إلى السلطة، وتخبطه الأعمى في التعامل مع ملف الجندي الأسير جيلعاد شاليط، وعجزه عن استعادته، أو الاطمئنان عليه، والتعرف على حالته أو مصيره.
يتطلع نتنياهو المتمسك بالسلطة والحريص على المنصب للاستعانة بالشيطان ليبقيه في منصبه، ويبعد عنه شبح التنحي أو الاستقالة، فهو ليس ديمقراطياً كما يدعي ويتبجح، فلو كان كذلك لاستجاب إلى ضغط شعبه، وتنازل عن منصبه، وترك له الخيار ليقرر في مصيره بنفسه، بذات الطريقة الديمقراطية التي جاءت به إلى السلطة، ولكن حقيقته ليست ديمقراطية كما يدعي، ولهذا فهو يتطلع للبقاء في منصبه بأي شكل، ويبحث عن كل السبل التي تحقق هدفه، وتثني شعبه عن المطالبة برحيله واستقالته.
يعرف نتنياهو الطبيعة الإسرائيلية والجبلة اليهودية التي فطروا عليها قديماً وعاشوا بها سنين طويلة، فهم يجتمعون على الخوف، ويتحدون في ظل الخطر، ويلتقون إذا دقت طبول الحرب، إذ يخيفهم الإحساس بالخوف وفقدان الأمن، فيبحثون عن مظلةٍ تحميهم، وقائدٍ يجنبهم الموت والتشرد والتيه والضياع الذي عانوا منه طويلاً، وهو يملك من خلال منصبه مفاتيح الخوف والقلق، وقادرٌ على أن يفتح فوهات النار الحارقة، التي ستجبر شعبه على الصمت والاختباء، ونسيان دعواتهم له بالتنحي والاستقالة.
لهذا لا بد من حربٍ صيفية جديدة، حزيرانيةٍ إسرائيليةٍ مباركة، تفتح جبهة قتال ساخنة مع خصوم إسرائيل الذين يحملون الموت الزؤام لشعبها، ويتطلعون إلى هزيمتها واستئصالها من جذورها، والذين بصواريخهم يهددون وجودها، ويهزون أمنها، ويعرضون سلامة مواطنيها للخطر، فالحرب وقد بدأها على غزة هي بوابة الاستقرار عند نتنياهو، وطود النجاة له، فليس أمام نتنياهو سوى ضرب خصومه واستفزازهم، ودفعهم للرد والانتقام، وإطلاق العنان لصورايخهم لتسقط على المدن والمستوطنات الإسرائيلية، فهذا هو السبيل الوحيد أمام نتنياهو لمواجهة خصومه، وتحدي إرادتهم، ودفعهم لنسيان شعاراتهم، والتمسك به والاحتماء بعباءته، والنزول إلى الملاجئ بعيداً عن الساحات والميادين العامة، وإلا فإنه سيجد نفسه مضطراً لأن يتجرع كأس التنحي المرة، والتي لن تتوقف عند التنحي، بل قد تقوده إلى قفص الاتهام، متهماً تنهال عليه آلاف التهم التي كان يصدها بسلطته ومنصبه.
الحرب الجديدة قد تحقق لنتنياهو وحكومته سلة أهداف، فهي قد تنقذه من مصيرٍ مشئوم يتمنى ألا يكون، فتخلي شوارع المدن من المتظاهرين والمحتجين، وقد تمكنه من إعادة ترتيب ائتلافه الحكومي ليتخلص من ربقة التبعية والعبودية لأفيغودور ليبرمان وحزبه، والانطلاق نحو تحالفٍ آخر ذي قاعدة برلمانية عريضة، وقد تمكنه من إطلاق عجلة الاقتصاد الإسرائيلي، والتخلص من الانكماش والركود والبطالة وتراجع القوة الشرائية، وقد ينجح نتنياهو في عدوانه الجديد في إعادة بعثرة الأوراق الفلسطينية، فيضرب مساعي المصالحة الوطنية، ويعيد توازنات القوى الفلسطينية، ويرسم خارطة قوى جديدة، ويفشل المساعي العربية والفلسطينية التي تخطط للذهاب إلى الأمم المتحدة في أيلول القادم.
فهل تستجيب المقاومة الفلسطينية واللبنانية إلى أماني نتنياهو وتحقق أحلامه، فتطلق سيلاً من الصواريخ على مدنه ومستوطناته، فتجمع فلول شعبه تحت رايته، وتوحد أصواتهم لتهتف باسمه، وتطالب ببقائه، لعلها هذه المرة هي الحقيقة، فنتنياهو ووزير دفاعه المشئوم وأركان جيشه المهزوز يستفز المقاومة، ويحاول جرها إلى معركة قد لا تكون متكافئة، وقد لا تحقق التوازن المطلوب، وقد لا تعيد الهيبة إلى الجيش الإسرائيلي، وقد لا تتمكن من إعادة رسم التوازنات العسكرية وفق المخططات الإسرائيلية، وقد لا تتمكن من استعادة شاليط وتحريره، ولكنها بالتأكيد ستنسي الإسرائيليين وساوس الثورة، وستخمد أصواتهم العالية، وستدفعهم بسرعة إلى الخنادق والملاجئ، طلباً للحياة، وخوفاً من الموت، فهل ينجح نتنياهو في استجداء المقاومة أو في استفزازها، أو توريطها لينجو بنفسه وحكومته؟ ...
0 comments:
إرسال تعليق