الأكفان هي ثوب أطفال سورية في عيدهم/ محمد فاروق الإمام

لم يذهب السوريون بأطفالهم كعادتهم في كل عيد إلى أسواق بيع الملابس لاختيار ما يناسبهم وما يستهوونه من ملابس زاهية تطفي الفرحة على وجوه أبنائهم وترسم الابتسامة على أفواههم، فقد اتخذ أطفال سورية في هذا العيد ملابس من نوع آخر ذات لون واحد هي بيضاء كلون الياسمين رخيصة الثمن بالعرف المادي، ولكنها في العرف الأخلاقي والقيمي لا تقدر بثمن، إنها أكفان آثروا ارتداءها في هذا اليوم لأنها ستحمل أجسادهم البضة الطرية إلى الرفيق الأعلى، حيث جنان الخلد التي لا يؤثرون عليها مكاناً آخراً في هذه الدنيا التي لم تعد في ظل نظام الأسد تساوي جناح بعوضة.
أطفال بعمر الورود تقدموا في صبيحة يوم عيد الفطر، وقد خرجوا للتو من المساجد بعد أداء فريضة صلاة العيد، تقدموا آباءهم وأعمامهم وأخوالهم المتظاهرين السلميين كعادتهم في كل يوم منذ ما يقرب من ستة أشهر بأكفانهم البيضاء الزاهية، يهتفون بإسقاط النظام وإعدام الرئيس، الذي سبغ أيامهم بقاني الدماء، وأزهق أرواح آبائهم وأقاربهم برصاص الغدر التي أطلقت من بنادق جبانة فرت من الجولان وأدارت ظهرها للعدو الصهيوني، لتستأسد على الأطفال والنساء والشيوخ والعزل، يواجهون نظاماً يقدم لهم الرصاص بدل الورود ليحصدهم بالعشرات والمئات والألوف بدم بارد.
هكذا هي حال أطفال سورية في عيدهم الذي تحول إلى نعوش ترفع على الأكف ومقابر جماعية توارى فيها جثامين الشهداء، وسيان المكان الذي تدفن فيه (حديقة أو ساحة أو ميدان أو مفترق طرق، في ظل شجرة أو في ظل عمود كهرباء أو إشارة مرور) فالزمان صعب والوقت ضيق وحرج، فالرصاص المجنون لا يمنح الوقت ولا يفرق بين نعوش ومشيعيين فكل متظاهر هو مشروع شهادة لمرة أو أكثر.
العيد في سورية أطل على أهلها هذا العام بوشاح أسود وقيود وأصفاد أرادها لهم النظام السوري لتكون سمة هذا العيد دون الفرحة والابتسامة وكلمات التحيا والتباريك التي تعودوا تبادلها في مناسبات الأعياد السابقة، تصم آذانهم صرير جنازير المدرعات وأزيز الطائرات ولعلة الرصاص ودوي القنابل وسقوط المآذن وانهيار المساجد والمنازل، ليكون البديل لأصوات الأطفال وأهازيجهم وهم يتنقلون بين الأراجيح وبائعي اللعب والتسالي في فرحة غامرة افتقدوها في هذا العيد.
لم يعد في سورية أطفال فقد كبر الجميع وتساوت الأعمار ولم يعد هناك فرق بين شاب وكهل وطفل أو فتاة وامرأة، فالكل يتظاهر مطالباً بالحرية والكرامة، والكل باتوا مستهدفين في القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير، كسروا بكبرياء وعنفوان حاجز الخوف بلا تردد أو حسابات ربح أو خسارة، وانطلقوا هدفهم انتزاع الحرية والفوز بالكرامة غير آبهين بالثمن مهما غلا أو ارتفع، فدون الحرية ترخص الأرواح ودون الكرامة تهون الأعمار.
بجيوش الأطفال والشيوخ والشباب والنساء العزل سنواجه بإصرار وعزيمة وتحدي آلة القتل الأسدية ووحشية وسادية رجال أمن النظام وشبيحته، وسننتصر عليهم ونغير المعادلة وطبيعة الموازين التي جرى عرف الناس عليها، فإرادة الجماهير مع الحق هي أقوى ألف مرة في مواجهة آلة القمع مع الباطل )بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).

CONVERSATION

0 comments: