على الرغم من تجاورهما جغرافيا، وتمازج شعبيهما ثقافيا وإجتماعيا، وإشتراكهما في إرث إستعماري واحد، وعضويتهما في منظومة "آسيان" الجنوب شرق آسيوية، وإرتباطهما بإتفاقية الدفاع الخماسية التي تضم أيضا إندونيسيا وأستراليا ونيوزيلندة و المملكة المتحدة، ووصول تجارتهما البينية إلى 39 بليون دولار في النصف الأول من العام الماضي فقط، مرتفعة بنسبة 36 بالمئة عن مستواها في الفترة ذاتها من عام 2009 ، فإن روابط سنغافورة بجارتها ماليزيا ظلت طويلا تشكو من فقدان الحرارة والدفء، وتسودها الشكوك والهواجس غير المعلنة.
ربما يعتقد البعض أن الأسباب تكمن في موقف رئيس حكومة سنغافورة الأسبق وباني معجزتها الإقتصادية الدكتور "لي كوان يو" في عام 1965 حينما أعلن إنسحاب بلاده من الإتحاد الماليزي الوليد، تاركا كوالالمبور في موقف حرج، خصوصا وأن إندونيسيا بقيادة رئيسها الأسبق "أحمد سوكارنو" كان لا يكف وقتذاك عن وصف الإتحاد الماليزي بـ "صنيعة الإمبريالية الغربية"، بل ويبشر بقرب إنهياره.
ولا نود في هذه العجالة العودة إلى التاريخ لبيان أسباب إنسحاب سنغافورة السريع من الإتحاد المذكور بعد سنتين من قيامه. فقد أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة وقلنا أن العوامل الإثنو دينية ما بين مسلمي الملايو وبوذيي سنغافورة من ذوي الأصول الصينية لعبت دورا حاسما في فك الإرتباط، إضافة إلى عامل التنافس وغياب الثقة ما بين "لي كوان يو" ومؤسس الإتحاد الماليزي الأمير "تنكو عبدالرحمن، وهو العامل الذي ظل يلقي بظلاله على علاقة الأول مع خلفاء الثاني لسنوات طويلة.
والحقيقة أن لأسباب جفاء العلاقات ما بين الجارتين ( لكن دون تطوره إلى حد القطيعة أو الصراع المعلن) جوانب أخرى. فالإستعمار البريطاني حينما قرر الإنسحاب من البلدين في أواخر الخمسينات زرع كعادته بذور الخلافات التي نجد تجلياتها في النزاع حول أسعار المياه التي تحصل عليها سنغافورة من ماليزيا، و إدعاءات السيادة على جزيرة "بيدرا برانكا" المواجهة لسواحل سلطنة جوهور الماليزية (حكمت محكمة العدل الدولية في عام 2008 لصالح سنغافورة في هذه القضية، لكنها في الوقت نفسه حكمت لصالح ماليزيا في قضية السيادة على منطقة "الصخور الوسطى" المتنازع عليها)، ناهيك عن الخلافات حول ملكية محطة "تانجونغ باغار" الموجودة في قلب سنغافورة، والتي تملكها وتستخدمها شركة السكك الحديدية الماليزية المعروفة إختصارا بإسم "كيه تي إم" كمحطة رئيسية لنقل الأشخاص والبضائع من وإلى سنغافورة.
وموضوع هذه المحطة طرأ مؤخرا على سطح الأحداث في أعقاب إتفاق "جنتلمان" بين البلدين. وبموجب الإتفاق، التي تم التفاوض حوله طويلا، إلى أن حسمت بنوده في سبتمبر من العام الماضي بين القيادة السنغافورية ممثلة في رئيس حكومتها الشاب "لي هيان لونغ" (إبن لي كوان يو) والقيادة الماليزية ممثلة في رئيس الحكومة "نجيب رزاق"، سوف يتم إستبدال أراض بأراض. بمعنى تخلي ماليزيا عن محطة "تانجونغ باغار" ومنشآتها وما يحيط بها من أبنية كولونيالية التصميم، مقابل حصولها على أراض بديلة تقع ضمن الواجهة البحرية الجنوبية لسنغافورة، مع قيام الجارتين بالدخول في شراكة لردم وإستصلاح تلك الأراضي وتعميرها ضمن مشروع يكلف أكثر من 9 بلايين دولار إمريكي.
وهكذا، بمغادرة آخر قطار ماليزي لمحطة "تانجونغ باغار" في الأول من يوليو 2011 إستردت سنغافورة الأراضي التي ظلت شركة "كيه تي إم" الماليزية تستخدمها منذ عام 1923 .
وتعليقا على الحدث، الذي يـُعتقد أنه مبشر بذوبان الجليد ما بين الجارتين تدريجيا، عبـّر الزعيم السنغافوري "لي هيان لونغ" عن سعادته قائلا: "الآن يمكن لبلدينا المضي قدما نحو تعزيز مصالحهما المشتركة" مضيفا أن "إنفراجا حقيقيا قد حدث، وتاريخا جديدا سوف يكتب".
وبالعودة إلى تاريخ محطة "تانجونغ باغار" نجد تأكيد المصادر التاريخية على أنها تكونت حول قرية للصيادين، بدليل أن إسمها يعني بلغة أبناء الملايو "رأس الأوتاد" وذلك في إشارة إلى مصائد صيد السمك المصنوعة من أوتاد البامبو. هذه المصائد تطورت في عام 1864 إلى جدران دفاعية على يد "شركة تانجونغ باغار الملاحية" التي أرادت إنشاء ما يصد أو يخفف حركة وأنشطة السفن الأجنبية في المنطقة.
وهكذا ظلت "تانجونغ باغار" مجرد منطقة تمتد ما بين ساحل البحر ومركز البلدة الحاملة للإسم نفسه، ويــُستخدم مرساها لرسو المراكب الناقلة للمهاجرين من الصين والهند. لكن قيام الإدارة البريطانية في عام 1904 بإنشاء خط حديدي، وإختيارها كمحطة رئيسية على الخط، شجع الكثيرون من أثرياء البلاد من ذوي الأصول العربية والصينية على إستثمار أموالهم في شراء الأراضي المحيطة بالمنطقة، ومن ثم تعميرها وتأجيرها، خصوصا للطبقة العاملة من الأقلية الهندية.
غير أن مصادر تاريخية أخرى تقول أن الجزء الأعظم من أراضي المنطقة كانت ضمن أملاك البريطاني "ديكستون هيل"، وعند وفاة الأخير في عام 1856 بيعت تلك الأراضي في المزاد العلني، ليذهب نصيب الأسد منها إلى الثري السنغافوري من أصل عربي "سيد عبدالله بن عمر الجنيد" الذي قام بتقسيمها إلى أربع قطع وبيعها إلى الأثرياء السنغافوريين من أصول صينية ممن طوروها لاحقا وأقاموا عليها أبنية من ثلاثة أو أربعة أدوار. وكان ضمن هؤلاء الأثرياء "كوتشينغ تشيوك" شقيق تاجر الأرز المعروف "كو تشينغ تيونغ" الذي كان يسكن في المنطقة أصلا داخل معهد طبي.
على أن التحول الأهم في هذه المنطقة بدأ في منتصف الثمانينات حينما أطلق "لي كوان يو" مشروعا عمرانيا رائدا لتحديثها، وإقامة مبان سكنية حديثة فوقها مزودة بكافة وسائل الراحة والترفيه واللهو والتسوق، لكن مع الإبقاء على الأشكال العمرانية الكولونيالية لبعض أجزائها الأثرية.
المهم أنه بمرور الزمن تحولت "تانجونغ باغار" إلى نقطة عبور مهمة من منطقة إلى أخرى للعائلات المقيمة على طول نهر سنغافورة، سواء بواسطة العربات التقليدية أو عربات السكك الحديدية أو الشاحنات. وبالنسبة للإنتقال بواسطة السكك الحديدية إتخذت منها شركة "كيه تي إم" الماليزية محطة رئيسية لتسيير 3 رحلات على الأقل يوميا من كوالمبور إلى سنغافورة ومن الأخيرة إلى مدن وولايات أخرى داخل ماليزيا.
وعلى الرغم من تفاؤل الكثيرين بمستقبل العلاقات ما بين البلدين الجارين بعد حل قضية محطة المذكورة، فإن هناك من يتخوف من بروز خلافات أخرى ولا سيما حول رسوم العبور فوق الجسر البحري الممتد بينهما. فالمعروف أن رئيس الحكومة الماليزية السابق "عبدالله أحمد بدوي" أثار في عام 2003 هذه القضية ومعها قضية حصول سنغافورة على المياه من ماليزيا. وفي العام نفسه أثار سلفه "مهاتير محمد" زوبعة كبيرة حينما هدد بإنشاء جسر جديد يربط البلدين كبديل للجسر الحالي حتى من دون موافقة الحكومة السنغافورية. غير أن حدة التوتر خفت في عام 2005 على إثر قرار السنغافوريين بضخ أستثمارات ضخمة في الإقتصاد الماليزي، وتحديدا في مشروع لإستصلاح الأراضي في مضيق جوهور.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة : أغسطس 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق