الكتابة بالسيف أبلغ من الكتابة بلا شيء، فالحبر الأبيض من أنواع الأحبار السرية التي تستخدم في الشيفرا الإستخباراتية كأساس وأسلوب في عملها، بينما الكتابة بالحبر الأسود طريقك إما للقيد أو الإعتقال، أو الوقوف في حضرة التاريخ تنتظر مرحمة تنقذك من مخالب التربص وبراثن التلصص على الإرادة المتفولذة بالإيمان المطلق بالإنضمام إلى صفوف الشعب، وأي شعب؛ الذي يمكن أن تختار الإصطفاف بجنبه وبجواره، ومعه، والإنحياز لإرادته مهما عصفت به عاتيات الزمن، ومظالم الإخوة، وكيد العدا.
لا يوجد كتابة أدق من كتابة السيف، وكلمة الرصاصة مع عدو يتحلى بعنصرية، ونازية، وهمجية العدو الصهيوني الذي يبني دويلته على جماجم شعبنا وأهلنا، وأجساد أطفالنا وشبابنا، وتدمير مقدراتنا، عدو لا يُدرك أي لغة سوى لغة الدم، كمعتقد إيماني مطلق في سياساته العنصرية ضد الأمة العربية عامة، والشعب الفلسطيني خاصة. وكلما تعرض لأزمة داخلية أو خارجية لا يجد ساحة يهرب إليها من هزائمه وأزماته سوى ساحة غزة، التي يجد بها متنفساً لشهواته، وهمجيته مستغلاً ضعفها وأوضاعها البائسة عبرَّ التاريخ، وحالة القهر التي تعيش به.
إن تتبعنا تاريخ غزة وأوحوالها، نضم اصواتنا لمن يطالب بإلقائها في البحر والراحة النهائية من هذه البقعة المسماه غزة، بكل أوضاعها البائسة والمستمرة في البؤوس والشقاء، والعذابات، وما تعاني من أوضاع إنسانية اشبه بالإعجاز لأن يتأقلم معها أي إنسان، فحياة تضاهي حياة غزة لا يمكن أن تجد لها ما يشبهها على هذه البسيطة.
نعم، أدرك أن الواقعية السياسية متطلب أساسي في معادلة الصراع، وأبجديات السياسة العامة، وأدرك أن السياسي يتطلب منه أن يرى بكل الإتجاهات ولا ينحصر أو يتقوقع في زاوية وإتجاه واحد، لا يرى من خلاله تطورات ومتغيرات تحيط به، وتؤثر به، ويعيش في خضمها. ولكن! أمام ما تعانيه غزة بشكل دائم من كبت إنساني أكبر من قدرات البشر، وإعتداءات متواصلة ومستمرة، وحصار يكبلأطرافها، ويعصب أعينها عن رؤية العالم، ويحرم أطفالها من لذة الحياة كأطفال العالم، تنحى هذه الواقعية ويُضرب بها بعرض الحائط، وعلاج الحالة بالتداوي بالمقاومة، وأي مقامة نريد؟! هي مقاومة العين بالعين، والرأس بالرأس، كما نُضرب في منازلنا، وفي شوارعنا، وفي مؤسساتنا، وفي كل نسمة هواء تتسلل لأعماقنا، وكما نُحاصر ونقتل عنوة أمام رمأى ومسمع العالم المتحضر، فلا بد وأن يتم الرد عليهم بمثل ما يفعلوا وأكثر، ويثضربوا بعمقهم، وبإستقرارهم، وبمنازلهم، وبمؤسساتهم، وبكل مقدراتهم، وأن يلاحقهم الموت في فراشهم، ومخادعهم كما يلاحق الموت أطفالنا في مضاجعهم وأسِرتهم، ويقتل مرضانا بفعل حصارهم ونازيتهم.
أُدرك أن العملية الفدائية البطولية التي نُفذت بالأمس جاءت عكس سير التيار الواقعي السياسي، وأن تجلياتها السياسية أعقد من تجلياتها العسكرية، بما إنها تزامنت مع جملة من المتغيرات في المنطقة، وفي الأوضاع الفلسطينية الداخلية سواء في غزة المحكومة من حركة حماس التي تتخبط سياسياً تحت وطأة ما يحدث على ساحة المصالحة الفلسطينية، وتحت وطأة المتغيرات الإقليمية، وعلى وجه الخصوص في سوريا، وتبعثر هذه الأوراق في أوضاع داخلية غير مستقرة، وأن غزة أصبحت على صفيح ساخن نتيجة الظروف الاجتماعية المعقدة التي يعيش في رحاها سكان غزة الذين فقدوا أبسط مقومات الحياة، وهو ما تدركه الحكومة المقالة، التي لا زالت تعيش في أزماتها السياسية والإقتصادية والاجتماعية خلال أربعة أعوام منذ الإنقسام الفلسطيني – الفلسطيني، دون القدرة على إيجاد مخارج منطقية تتوافق وتتناغم مع طرح حماس المقاومة وحماس الحكومة التي تبنت شعار حكومة مقاومة، من مخاطبة الوجدان الاجتماعي الفلسطيني، الذي يطالب بحياة كريمة وبمقاومة فاعلة معاً، وربما العملية الفدائية البطولية بالأمس وآثاها العسكرية والسياسية يزيد من عمق أزمة الحكومة في غزة سواء على مستوى التحركات الداخلية أو الخارجية، بما إنها لخبطت وبعثرت العديد من أوراق الحكومة والسياسات المخططة تكتيكاً لمواجهة المرحلة ومتغيراتها. كما إنها وضعتها أمام المحك في الموقف من هذه العملية وتجلياتها والإختيار بين الشعار والواقعية السياسية، وهي حالة اشبه بمنجل غرس ببطن الحكومة المقالة من جهة، وحركة حماس من جهة أخرى.
أما السلطة الوطنية والحكومة المعينة من الرئيس محمود عباس فهي بواقع سياسي وإقتصادي واجتماعي ليس بأحسن حال من واقع الحكومة المقالة في غزة، بما أن السلطة الوطنية وحكومة د. سلام فياض تواجه أزمات أشد سواء على المستوى السياسي في معركة استحقاق أيلول الذي صعدت به لأعلى الشجرة وألقت بالسلك بعيداً عن متناولها في حالة ارادت الهبوط، أو في ساحة ومعركة المصالحة مع حكومة غزة، التي تتعثر بخطواتها، ولم تحقق أي تقدم فاعل ومؤثر في هذا الملف الخطير والمعقد. أا على المستوى الإقتصادي فالحكومة أقرب منها لإعلان الإفلاس العام من اي وقت آخر، حيث أعلنت إنها تعاني من أزمات اقتصادية خطيرة إنعكست على رواتب موظفيها من جهة، وأدائها الخدماتي من جهة أخرى، وهو ما يضعها في مواجهة مأزق الخضوع والإستسلام لرغبات المانحين الغربيين والعرب سواء، والمواقف الأخيرة من سوريا ومن قضية دحلان تؤكد أن هناك ضغوطات ممارسة على السلطة الوطنية الفلسطينية، أما اجتماعياً فحدث بلا حرج فشعبنا في الضفة الغربية يعاني من أزمات عصية على الهضم والاستيعاب من سلوك وأداء الحكومة والأجهزة الأمنية رغم أن المظهر العام شكلياً يوحي عكس ذلك، ولكن الحقائق تؤكد على ذلك.
مشهدان موازيان لمشهد العملية الفدائية البطولية التي تؤكد إنها جاءت كتيار معاكس للواقعية السياسية للحكومتين في غزة ورام الله، دون معرفة الخلفية والفكرة، والرؤية التي سعى لها مخططوا العملية، وخاصة في هذا التوقيت تحديداً.
رغم ذلك فإن هذه العملية الفدائية تدلل وتؤكد على اتجاهين، الأول تمسك شعبنا بمقاومته ونضاله، وكفاحه، ورسالة لهذا العدو بأن عمقه ليس بمؤمن عن رجال المقاومةوفصائلها، إن عزمت على المضي في درب القماومة، والنضال، وأن سيف مقاتلينا أطول مما يتبادر لذهنهم وتقاير أجهزتهم الأمنية التي تعيش بحالة غرور وانخداع، وعدم إدراك التطور في الإرادة والإمكانيات لدى المقاتل الفلسطيني. أما الإتجاه الثاني لدلالات العملية الفدائية البطولية فإنها جاءت داعماً لسياسات السلطة الوطنية الفلسطينية في تحركاتها لإستحقاق ايلول، وإسناداً قوياً للرئيس الفلسطيني محمود عباس في مواجهة الصلافة الصهيونية، كسلاح فاعل بالتأكيد على أن زمام الأمور يمكن له أن ينفلت من السيطرة على فصائل المقاومة وتحركاتها، وفعلها أمام التعنت والصلافة الصهيونية، وهو ما يمكن التأكيد أو الإسترشاد بعملية الأمس البطولية.
إذن فالدلالات السياسية لعملية الأمس البطولية يمكن قرائتها بزوايا عديدة، واتجاهات عدة حسب الكيفية التي يمكن من خلالها النظر لإحداثيات المنطقة الحالية، وتكتيكات الحكومتين في غزة ورام الله. وهو ما يوحي بأن المعركة السياسية اشد وطيساً من المعارك الأخرى.
0 comments:
إرسال تعليق