عند تناول الموضوع الليبي يتم الخلط والمزج بين موقفين الأول فيما يتعلق بحكم معمر القذافي، وكأن الرافض للتدخل الأجنبي الغربي مؤيد للحكم المطلق، ومؤيد لإستبدادية الأنظمة العربية، وهو خلط باطل جملة وتفصيلاً، ويراد من خلاله طمس الحقائق وتشويهها، ومنح التدخل الغربي- الأمريكي غطاء تبريري تحت عنوان التحرير من ظلم وفساد النظام الليبي، وهو ليس حق يراد به باطل، بل باطل يراد به باطل، وباطل يراد به كفراً بالعروبة، ومنح شرعية للمُحتل والمستعمر باسم الحرية والشعوب، وإقحامها في ثقافة الأجيال القادمة، وهو ما تحقق أو على وشك التحقق، من خلال ما لمسناه في نقاش وحوار شبابنا الذي أصبح لا يدرك الحقيقة، ولا يعلم منها إلاّ ما يملى عليه من أشباه المثقفين، أو بالأحرى المسترزقين والمستنفعين من الغرب وأمريكا وسياستهما.
فالحديث عن ليبيا لن يُجدِ كثيراً بعدما تم قصفاٌ فكريًا من الولايات المتحدة والغرب قبل قصفنا بالصواريخ، هذا القصف الفكري اتخذ منذ زمن ليس بالطويل العديد من الأساليب والأدوات بدأت بعولمة الثقافة وتحريرها من القيم والأخلاقيات والمبادئ التي رسخها الانتماء العربي منذ إرهاصات المد القومي وحتى سقوط الناصر جمال عبد الناصر الحالة العروبية الأخيرة التي اكتسبت صفة وسمه الزعامة الفعلية، وهي الحالة التي شهدت أسرلة سياسية من البعض الذي حاول المس بفكر وانتماء وإخلاص الزعيم جمال عبد الناصر وتشويه هذه الصورة في الثقافة الشبابية المعاصرة، إضافة لانفتاح ثقافات الغرب عبر وسائل الاتصالات والتكنولوجيا، وهي ما شهدت سقوطاً موازيًا في القيم والأخلاقيات الثقافية عامة، فترافق سقوط القومية مع السقوط الجسدي، فالمواطن العربي وإن فقد جزء حيوي من ثقافته وانتمائه، فإنه فقد الجزء الآخر بالسقوط الجنسي، فلا خير من ممارسة اللواط والسحاق وزنا المحارم، وانتشار ظاهرة التخنيث الثقافي والجنسي معاً تحت منطق قانون (الحريات) والديمقراطية، وحق التعبير، وممارسة ما شاء الفرد بحرية دون وضع حدود أخلاقية، وقانونية تحافظ على الهيكل القيمي والأخلاقي للمجتمع، إذن مع كل ذلك، ما يمنع الاستعانة بالمُحتل والمستعمر؟!
ما لفت انتباهي في ظل الأزمة الليبية هو موقف المتأسلمين من هذه الأزمة، وهذه الخرافة الدينية التي يمثلوها فقط بطول اللحية والدشداشة(الجلبية) والاستعانة بالشعوذة ذات الظاهر الديني، في حين أنها لا تمت للدين بأي صلة، وأي جوهر، وأي دين أو عقيدة تلك التي تبيح لمسلم الاستعانة بكافر ومتآمر ضد الأمة لقتل شعب مسلم أخر تحت أي مبررات كانت أو أوهام يتم التستر خلف الدين لتمريرها. وهو ما مثله المتأسلمين الجدد الذين منحونا مفهوم جديد، ومعنى جديد للفهم الديني الإسلامي، وهو بحد ذاته إنصاف لهولاكو الذي حرر العراق من ظلم الحجاج حسب مبررات هؤلاء المتأسلمين الجدد. وهم بموقفهم من ليبيا منحوا هولاكو صك البراءة والغفران، وما بين الأمس البعيد واليوم القريب سقوط للخرافات والشعوذة التي صفقت وهنأت احتلال ليبيا، وقتل شعبها، وتدمير مقوماتها، باسم التحرير، وهي نفس التجربة التي صفق وهنأ المتأسلمين أنفسهم والعالم، بتحرير بغداد قبل تسعة أعوام من سقوط طرابلس، وما بين 2003م و 2011م نفس الشعوذة.
إن كان أشباه المثقفون العرب يستدرجون شبابنا نحو هذا الفهم، وهذه الثقافة، وهي إعادة إنتاج لاستعانة الخليج العربي بالولايات المتحدة والغرب في تحرير الكويت، فان الصورة لا زالت ماثلة مع المتغير البسيط في وضوح المعالم بما يتناسب والتطور التكنولوجي الذي أضفى مميزات للكاميرا الفوتوغرافية بنظام ديجيتال المرئي، والمعطل فكرياً وعقلياً، كالأنعام ترى ولا تعقل.
وهو ما ينطبق على الموقف الفلسطيني الذي كان من المتوقع أن يكون أكثر عقلانية، وأكثر صوابًا وإدراكًا، وإحساسًا بالشعب الليبي، وهو ما يمثل حالة استهجان واستغراب، إن لم تكن صدمة ليس من الموقف الرسمي بل من الموقف الشعبي، وموقف بعض أشباه المثقفين والأدباء، والأكاديميين الذين ادعوا أنهم مع الثوار الليبيين تحت أي مبررات كانت، نعم كلنا وكلّ عاقل حر مع الثورات ضد الظلم والقهر، والاستبداد والديكتاتوريات، ولكن هل هذا يعني إصابتنا بالعمى والاستحمار الفكري، والتهليل للصواريخ التي تقصف وتقتل أهلنا في ليبيا، وشعبنا في ليبيا، وتدمر مقومات ليبيا وقدراتها وثرواتها؟!
لا يمكن ليّ أن أُسلم بموقف آولئك أشباه المثقفين الذين أرادوا تضليل الشعب الفلسطيني الذي يعاني منذ ثلاثة وستون عام من القصف والقتل بنفس الصواريخ، ونفس الطائرات، ومن قوى هي الداعم الأساسي في وجود إسرائيل وممارستها لإجرامها، ضد شعبنا الفلسطيني، الذي يستغيث بكل العالم لوقف المذابح الصهيونية في حين يهنئ نفسه والعرب بقتل الشعب الليبي وتدمير ليبيا، وكأن لسان الحال يبرأ حزب الكتائب اللبناني الذي استعان بإسرائيل لذبح أبناء المخيمات تحت مبررات العربدة الفلسطينية، وسيطرة مقاتلي الثورة الفلسطينية على لبنان، ويمنحون التاريخ حزمة جديدة من الحق في تطهير السجل الأسود لحزب الكتائب اللبناني.
أما الموقف الرسمي الفلسطيني فهو ليس موقفاً مستهجناً في حالة اللاوعي واللاموقف التي تعيشها السلطة الفلسطينية برأسيها، فالرأس المُتعولم عبرّ عن موقفه من الأسرة الدولية، والأزمة السياسية التي يعيش في أتونها، وربما موقفه جاء خضوعاً للضغوطات الفرنسية- الأمريكية، خاصة وأنه في حالة استجداء دولي لاستحقاق ايلول القادم بالاعتراف الدولي بهذا الاستحقاق، وهذه الدولة التي وإن حدث فعلاً الاعتراف بها، فهي بمثابة مكسب معنوي مهم جداً لرام الله على وجه العموم، وللرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي لم يتبق في يديه سوى هذه الورقة في الملعب السياسي الفلسطيني المأزوم مع حماس ومع إسرائيل، وعليه فليس مستهجناً التضحية بالموقف لأجل موقف، وهو لا يقارن مع موقف المرحوم ياسر عرفات عندما انحاز للعراق ضد الهجمة الأمريكية- الغربية، أو موقف جورج حبش - رحمه الله-، عندما انحاز للعراق رغم أن وجوده ووجود حزبه كان آنذاك في سوريا ألدّ أعداء العراق، ولكن المبدأ ساد عند هؤلاء الذين لا تتلاعب السياسية بمبادئهم وقضاياهم الأساسية والثابتة.
أما الطرف المتأسلم الآخر في غزة، فسارع للتهنئة بانتصار(الناتو) في ليبيا، وهو لا يختلف عن الطرف الأول في إخضاع المسالة لمبادئ إرضاء الغرب والقوى الإقليمية على حساب المبادئ الإستراتيجية والوطنية والدينية، فرضى الغرب وقطر والإمارات أهم من رضا الرب والدين في العرف السياسي المستحدث من ثقافة الاستئساد على الضعيف والخنوع أمام القوى، وهي الثقافة التي تسللت لأجيالنا، وجعلت منهم دمى متحركة تحت ذبذبات ما يملى عليهم وموقف حماس هذا فتح الباب مشرعاً للسؤال، هل يحق لفتح الاستعانة بإسرائيل باسم تحرير غزة؟!
هذه المواقف ليست عقيدة شخصية عندي بقدر ما هي استباحة لمساحات العقل للسؤال والمحاورة، والتعمق في الحالة، وخلق ركائز جانبية نستند إليها في تناول المتغيرات في ليبيا، وما آلت إليها الأحوال، وقناعتي الراسخة والتامة بأن ليبيا أصبحت تحت انتداب جديد، واستعمار اقسى وأشرس من الإستعمار الايطالي السابق فإن كانت ايطاليا الماسونية قد خرجت بجندها، فإن ايطاليا البرلسكونية قد عادت بشركاتها وثقافاتها التي قصفت بها مع قوى الحلفاء عقولنا وأفكارنا قبل قصف مقدراتنا.
وربما يعاد عليّ السؤال الذي وجه لي عدة مرات من العديد من الإخوة، ما هو البديل أو البدائل أمام قتل القذافي للشعب الليبي؟! سؤال أشبه بمقولة "عذراً أقبح من ذنب" فهو يعبر عن جهالة في التاريخ، وجهالة في التفكير، وجهل في الوعي والإدراك، وتخمة تجهيلية تغلق كل مفاتيح التفكير لدى شعوبنا العربية التي لم تعي من تجارب الشعوب سوى السقوط والخيانات، أما التجارب الثورية فهي غُيبت مع تغييب الوعي، وهنا لا بد لنا من استذكار الثورة الفيتامية، والثورة الكوبية، وسيرة المناضل الأُممي تشي جيفارا، وكذلك قراءة سيرة المناضل عمر المختار، واستدراك مفاهيم ومعاني الثوريين والثورات التي أمنت بقدراتها على التحرير والحرية، فالثائر الحقيقي هو المؤمن بالتضحية لأجل التحرر، والمؤمن بوطنه طاهر حر نظيف، وليس هو من يستغيث بالمستعمر والمتآمر لقتل أبناء شعبه، وحرق وتدمير بلده، ومطالبته بالفاتورة لعشرات السنين واستعباد رؤوس الخيانة فيما يسمى المجلس الانتقالي الذي وللأمس كان معظم رؤساؤه من رجال النظام ووزرائه، وفجأة تحولوا من زلم النظام إلى ثوار، فعلاً هي الحقيقة التي ولا بد من اعتناقها والدفاع عنها، أن الشعوب غير القادرة على تحرير ذاتها، شعوب فعلاً لا تستحق الحرية، ولا تستحق أن يطلق عليها شعوب ثائرة، فالثورات لا تستنجد بالمؤامرات والتآمر على وطن يدرك الجميع أنه شكل المصدر النفطي المهم بعد لعراق، دون النظر إلي الخليج المستلسم منذ زمن للولايات المتحدة والغرب وشركاتهما، ولا يملك من ثرواته سوى بناء القصور، والسهر في المواخير، واستقدام العاهرات لإحياء حفلات المجون في إنعاش خزائن شركات السياحة العالمية، والمنتجعات التي أصبحت تصمم خصيصاً لمزاج آولئك.
إذن ليس ترفاً رفضنا القاطع والمطلق لما حدث في ليبيا لأنه احتلال بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس لهواً وعبثًا بمقدرات شعب عربي، وأمة عربية تحت وقع مصالحنا وأهوائنا، فنحن لن ولم نقف مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وأي عملاء يستنجدوا بهم إلاّ في حالة واحدة لا ثانِ لها، عندما نرى أن هذه القوى وجهت صواريخها نحو تل أبيب، وإسرائيل، واعترافها بان هناك شعب يرتكب ضد أبشع الجرائم منذ نصف قرن، دون أن تفعل شيئاً سوى دعمها وحمايتها المتزايدة لإسرائيل وعنصريتها: فالضمير الأمريكي- الغربي الذي نزف الدم والدمع على مشاهد القمع(الكاذبة والمفبركة) في ليبيا وهَب بكل قوته لإحتلال ليبيا، ولم يعلم بَعد هذا الضمير أن هناك شعبُ يقتل ويذبح منذ ثلاثة وستون عام.
فالحقيقة واحدة وبسيطة وليست مركبة ومتشعبة، نعم مع كل ثورات الشعوب المضطهدة والمقهورة، وضد كل الديكتاتوريات والإستبداد، ولكن من يستغل هذه المبررات لاستقدام قوى الاستعمار والإحتلال والانتداب فإنه لا يُمثل هذه الشعوب ولا يُعبر عنها، وهنا "ألف حجاج ولا هولاكو واحد" .
0 comments:
إرسال تعليق