من الآراء التقليدية التي تنظر إلى الخيال الأدبي الناتج من خلال التعالق بين النص وأشياء المحيط الخارجي ومنها اللوحة التشكيلية، الرأي الذي يقول بأننا (إزاء حركة تبدأ من الخارج، بمعطيات جاهزة، تنعكس على ما هو في داخل الأديب، فيبدو ناتج الانعكاس بمثابة تكوين ذاتي للمعطيات الخارجية الجاهزة) ، ترينا هذه الإضاءة بأن التأثيرات الخارجية –أي الخبرة البصرية والمعرفية والإدراكية الخارجية- تساهم في بناء النص من خلال انعكاسها في ذات الناص بصورة دائرية تعيد إنتاجها دون التفريط بوجودها الحقيقي، ولكن هذه العملية تجعل المعطيات الخارجية الجاهزة، منفصلة عن ذات الناص ويكون عمله فقط بتوجيهها إلى جهة معينة محافظا على وجودها الأولي، منفصلة عن جوهر العملية البنائية للنص، عكس ما نحاول أن نظهره في قرائتنا هذه، وذلك بأن الخارج الممثل باللوحة الفنية التي تمتلك نفس الإستراتيجية البنائية التي للنص الادبي تندغم في الوجود المتشكل للنص في لحظة الكتابة، خالقة نصاً مركباً بإلية تناصية، استشرافية لنقاط ارتكاز كلا الحقلين الدلاليين، وتعزيز مرتكزاتهما البنائية، لتدعيم ذلك التمازج والاندغام، فلغة القاص هي (اللغة التي تأثرت كل كلمة منها بإحدى القيم في ذاكرته وانقسمت بين اتجاهات متعددة من التذكر والأفكار المتداعية التي غاص معظمها في اللاوعي) ، بالإضافة إلى التأثيرات الخارجية أو المعطيات التي تساهم بصورة مباشرة في رفد تلك الذاكرة، أو اللاوعي وبصورة متكررة بنواتج الوعي بالمحيط الذي تكون اللوحة الفنية جزءاً منه، وهذه المساهمة تتم ليس بصورة انعكاسية وإنما بتحليل القيم العلامية والرمزية ومحاولة تمثلها من خلال ما تختزنه الذاكرة من علامات.
نص( اللوحة) للقاص وجدان عبد العزيز، ضمن المجموعة القصصية (وتكور الحل عند ظفيرتها) تعامل مع اللوحة التشكيلية باشتراطاتها، عندما تناص مع لوحة السيد المسيح، وهو تناص لا ايقوني بلغة السيميائيين (حيث لا تصبح هذه الأدلة التناصية أيقونية- نصية إلا حين تؤثر في نفس الوقت على تثمين لطاقة أدراك –أحدى الذوات أو كل الذوات – للنصوص الفنية التي تكون بصدد إدراكها) ، بينما في قصة (اللوحة) لا تسعى الذات إلى إدراك اللوحة الفنية، وإنما تتمثلها ولا تماثلها، إذ إن (الايقونية تتحقق عندما تتماثل – في الأدب – الثيمة مع المرجع الذي تنهض منه) ، ففي قصة (اللوحة) أعتمد القاص على إعادة تمثل للوحة والتماهي معها دون اعتمادها مرجعية واضحة لذلك التماهي، إذ إن النص رسم لوحته الخاصة المنبثة داخل تفاصيل النص، بالترديد على نغمة التجاوب الثيماتي مابين النص واللوحة، حيث قام ببناء نصه على حوار متقابل بين اللوحة وثيمة النص من خلال عقد مقارنة بين متنيهما المختلفين والمتمايزين، فاللوحة (المرسومة، بحكم خطوطها وألوانها، مهيئة على نحو متفرد لمعالجة أشكال توجد أنيا في المكان، غير إن الشعر المهيئ له على نحو متفرد، يهتم على نحو ملائم حقاً بالأفعال والتتابعات في الزمن) ، وينسحب هذا الكلام على العلاقة بين اللوحة والقصة القصيرة، فمتن اللوحة يظهر كـ / خطوط مستقيمة..متوازية..متعامدة..متقاطعة، تشكل ضلالا من الزرقة المتقرحة على كفيه/ ، بينما يظهر المتن الأخر للنص/الوجوه الغريبة ذوات السحنة السمراء وخطوط غير بائنة من التعب تميل نحو ألوان البرونز والرصاصي/، حيث يقوم القاص باستكشاف مجاهيل اللوحة من خلال إعادة قراءتها وباسقاطها على الثيمة بتحري خطوط الظلام والضوء وتجسدهما داخل النص/القلوب المرتجفة في لجة خطوط الظلمة/، وعلاقتها الحوارية ببنية الخطاب التي تجمع كلا المتنين، حيث أصبح السرد عبارة عن منلوج داخلي تردده اللوحة، بإعطاء خطوطها وألوانها ذلك العمق السردي، حيث (تمارس النصوص تلويناً على صورها يمكن تصورها من خلال ما تتركه العلامات من انطباع لوني، وقد تغير في ذلك من الدلالات اللونية لألفاظ الألوان، كما يمكن للنصوص التي تنبئ على حركة مشهدية أن تخلق إيقاعا لونياً مقارباً للإيقاع اللوني الذي تنتجه اللوحة) ، /كل هذه الأشياء قد تخلق حالات إضافية عن روحه المعلقة بين متاهات الظنون وبحر المسافات التي لا تشكلها أي أنواع من الخطوط المتوازية او المتعامدة/ ، والمقترن بالحاجة التي أدتها اللوحة داخل النص ومدى انسجامها وتوحدها مع الثيمة /نحو الخطوط المستقيمة تلك التي توصلني إلى حدود وألوان الطيف الشمسي لأجعل من الأبيض لباسي المحبب(...) بيد ان الخطوط تتوازى وتتعامد وتتقاطع وحينما تكون هكذا، تبدأ حدود الرؤيا تضيع منه/.
قام القاص (وجدان عبد العزيز) بالتقاط العلاقات الدلالية والاشارية التي مكنته من توظيف اللوحة داخل نصه ، وتقدير مدى ارتباطها بالثيمة، حيث إن زاوية نظره للوحة كشفت مقدرته على قراءتها وتأويلها وسردنتها، بما يتلائم مع نصه واتجاه الرؤية فيه ، فحساسية التلقي التي تلقى بها القاص اللوحة انعكست في تعامله مع النص من خلال إعادته لبناء المعطيات الإيحائية للوحة بصورة أدت إلى إعادة بنائها سرديا من وجهة نظر جديدة استفادت من خلفيتها السسيودينية. ربما رداً لمقولة بيكاسو بأن (الرسم هو الشعر وهو دائما يُكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية، وهو لا يكتب بالنثر أبداً) ، حيث اظهر القاص أن للنثر والقصة القصيرة بالتحديد القدرة على رسم اللوحة التشكيلية ولكن بالتماهي وإعادة تمثل بنيتها السردية.
إن إضاءة العنوان ثريا النص ( اللوحة) لمدخل النص ترينا انه افتتح بالمبتنى الشكلي واللوني للوحة، فما (العنوان إلا بنية صغرى تؤلف مع القصة وحدة عمل على المستوى الدلالي، ولا يمكن ان يحقق أية دلالة بمعزل عن نصه الكبير، القصة أو الرواية، كما لا يمكن النظر اليه خارج سياق النص الذي تحته)، /خطوط مستقيمة.. متوازية.. متعامدة.. متقاطعة تشكل ظلالا من الزرقة المتقرحة على كفيه/، وهذا المدخل يرمينا في لجة اضطراب العلاقة الدلالية الموتورة ما بين تلك الخطوط المتوازية والمتعامدة وبين/ الجسد المسجى / الذي يمثل البؤرة التي تتجمع وتنطلق منها الخطوط والألوان وايحاءية اللوحة وإشاراتها، لتصبح كل العلاقات التي يوجدها النص بينه وبين اللوحة وتركيزها على / الجسد المسجى / جسرا تعبر عليه دلالة الألم المتقابلة ما بين اللوحة وارتباطها بآلام السيد المسيح وبين الآلام التي يبثها النص / ابنتي تتلوى من ألم حاد / وهاتين الصورتين تنمزجان في صورة واحدة أو لوحة واحدة يجسدها النص عندما تتداخل الألوان والخطوط وارتباطاتها السالفة بمركز اللوحة وهو / الجسد المسجى / = / السيد المسيح / مع اختلاج أفكار ( أنا النص) وقلقه وظنونه /اختلاج أفكاره حينما تتلاطم والساعات الأخيرة من الليل / ، /القلق المتزايد من صعودها والجسد معا /، محاولا التخلص من هذا الاضطراب باللجوء إلى ألوان اللوحة وخطوطها وايحائيتها / يا يسوع المسيح خذ بيدي / ، بيد انه يغرق في لجة / الخطوط المتوازية والمتعامدة / وتقوده ظنونه إلى المقابلة بين حالته وخوفه من فقدان ابنته واللوحة التي تصور السيد المسيح وصعود روحه إلى السماء / إن القلق المتزايد عن صعودها والجسد معا، خلقت هوة سحيقة في علياء فردوسه/ .
أراد نص(اللوحة) من خلال حركية ( أنا النص ) واضطراب أفكاره أن يعكس إيحائية اللوحة، وإقامة بنية تشكيلية تصويرية مقابلة لها، حيث رسم القاص خطوطا وأشكالا ووزع كتلا لونية، من خلال استخدامه للوصف كفرشاة يلون بها ثغرات خطابه القصصي – كما ذكرنا سابقا - والمتماهي مع اللوحة التشكيلية / أثواب رثة وأرجل شبه حافية، تبتلع هذه الأشكال ذهنيته ليكون الجوع شهية لعينه تحترق في مسافاتها رغبات عديدة تتقاطع في كثير منها مع خطوط الرحمة والحب /.
إن القاص وجدان عبد العزيز قد سار في سياقات متقاربة إبداعياً، متعارضة من حيث الخامات المستخدمة، باندماج جنسين إبداعيين متغايرين –هما جنس القصة القصيرة والفن التشكيلي الممثل بالرسم- حيث اشتغل القاص بأدواته السردية في منطقة التشكيل وأنتج لوحة مقابلة للوحة التي استوحاها نصه باثا فيها لغته القصصية التي استنفذت اللون وانعكاساته والخطوط وتشكيلاتها ، الضوء والظلام وتجسيدهما للعمق الإنساني في اللوحة والنص، وهو في هذه التجربة يختلف عن ما جاءت به البيانات المرفقة بالفن والتجارب الفنية التي (غالبا ما تخفق في إمدادنا بحوار هادف يجري بين الكلمات والصور) ، وذلك لأن ذلك الحوار هو حوار خارجي غير نابع من علاقة التفاعل مابين بنية الكلمات والبنية الصورية للرسم وتمثلاتهما الإيحائية، لان تلك البيانات تلتزم بالبنية الوصفية، أي النظرة من الخارج، عكس الحوارية التي تنتج من خلال تلك التمثلات والتي هي نمو تصاعدي من الداخل إلى الخارج في سبيل تكثيف الإيحاء، الذي يقارب معطى الفنين اللغوي والفني.
0 comments:
إرسال تعليق