(الأزمة الراهنة في العلاقات الفلسطينية الأميركية قد اسقطت أو ينبغي لها أن تسقط أي مسوغات ما زال مفاوض منظمة التحرير يتذرع بها لاستمرارالتزامه ب"المحددات" الأميركية لهذه العلاقات)
تمر العلاقات الأميركية الفلسطينية هذه الأيام في أزمة لا يحرص طرفاها على اخفائها، أزمة تهدد يالانتقال من مرحلة الاشتباك الدبلوماسي الراهن في أروقة الأمم المتحدة وخارجها الى قطيعة سياسية تفرض على الجانب الفلسطيني إجراء مراجعة شاملة لهذه العلاقات كاستحقاق وطني لم تترك واشنطن لمنظمة التحريرالفلسطينية مهربا منه.
ولا مناص هنا من ملاحظة المفارقة السياسية التاريخية الكامنة في التناقض المستمر بين الوحدة الوطنية الفلسطينية وبين وجود علاقات حسنة بين منظمة التحريرالفلسطينية وبين الولايات المتحدة، فقد انهارت الوحدة الوطنية وبدأ الانقسام الوطني الفلسطيني المستمر حتى الآن مع اعتراف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير إثر إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988 الذي اعترف ب"حل الدولتين" في فلسطين المحتلة كشرط اميركي مسبق لأي علاقات أميركية متبادلة مع المنظمة.
يوم الجمعة الماضي اعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تونس انه سيلتقي رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل خلال عشرة ايام في القاهرة. وكان عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" عزام الأحمد أكد أن لقاء الرجلين سوف يركز على "الوحدة الفلسطينية واستراتيجية المستقبل السياسي الفلسطيني".
ومن الواضح أن اية مراجعة للاستراتيجية الفلسطينية التي اعتمدتها قيادة منظمة التحرير منذ قررت الاعتراف بدولة الاحتلال الاسرائيلي والتضحية بالمقاومة الوطنية كثمن لاعتراف الولايات المتحدة بها سوف تكون في جوهرها مراجعة للعلاقات بين المنظمة وبين الولايات المتحدة، وأن "استراتيجية المستقبل السياسي الفلسطيني" التي تستهدف انجاز "الوحدة الفلسطينية" لا بد بحكم الضرورة وأن تكون نقيضا للعلاقات بين منظمة التحرير وبين الولايات المتحدة طوال العشرين عاما المنصرمة، وإلا لن تكون هناك وحدة فلسطينية ولا استراتيجية "مستقبل" جديدة أساسها الوحدة الوطنية.
إن إجراء مراجعة للعلاقات مع الولايات المتحدة هو مطلب شعبي فلسطيني تتبناه معظم الفصائل الوطنية المقاومة والمسالمة على حد سواء، الأعضاء وغير الأعضاء في منظمة التحرير، باستثناء حركة "فتح" التي تقود المنظمة وسلطة الحكم الذاتي الاداري المنقوص في رام الله والتي لا تزال تكرر إعلان التزامها بالشروط الأميركية لهذه العلاقات المتمثلة ب"نبذ الإرهاب"، والاعتراف بدولة الاحتلال الاسرائيلي، واعتماد المفاوضات وسيلة وحيدة لانهاء الاحتلال الذي وقع عام 1967، وهي الشروط التي قادت الى الوضع الراهن الذي يشل المقاومة والتفاوض على حد سواء.
ولم ترد في المطالبة الفلسطينية بإجراء مراجعة للعلاقات مع الولايات المتحدة أي إشارة إلى أي رغبة أو نية في استعداء واشنطن، بالرغم من القناعة الفلسطينية الكاملة بأنها قد تحولت عمليا الى شريك كامل في الاحتلال الاسرائيلي، وهذه قناعة تحظى بالاجماع الوطني الذي يشمل القيادة "الفتحاوية" لمنظمة التحرير التي أبرمت "شراكة السلام" مع الولايات المتحدة.
فالأزمة الراهنة في العلاقات الثنائية بين منظمة التحرير وبين الولايات المتحدة هي أزمة من جانب واحد وبامتياز، لأنها ناجمة في المقام الأول عن الاخلال الأميركي بتعهدات واشنطن للمنظمة في رعاية "عملية السلام" بوساطة أميركية نزيهة، وناجمة عن عدم وفاء واشنطن بوعودها لقيادة المنظمة، وليست ناجمة عن أي خروج لقيادة المنظمة على "المحددات" التي وضعتها واشنطن شروطا مسبقة لهذه العلاقات. ومثلها "الحرب الأميركية على الارهاب الفلسطيني"، فهي حرب أميركية معلنة من جانب واحد على فصائل المقاومة الفلسطينية التي ترفض الالتزام بتلك المحددات لأنها "اسرائيلية" في أصلها وأهدافها ولغتها، ومع أنها حرب أميركية معلنة على هذه الفصائل فوق ترابها الوطني في الأرض الفلسطينية المحتلة فإنه لم يسجل على اي من هذه الفصائل في أي وقت من الأوقات أنها ردت أو تنوي الرد بالمثل لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها ولا ضد الأميركيين المشاركين علنا في مطاردة هذه الفصائل أمنيا داخل وطنها المحتل.
وإذا كانت المسوغات قوية لاستمرار المفاوض والمقاوم الفلسطيني معا في رفض استعداء الولايات المتحدة وفي استمرار حرصهما معا على الفصل بين الحليفين الأميركي والاسرائيلي في تفاوضهما وفي مقاومتهما، بالرغم من كل الحقائق والوقائع التاريخية والراهنة التي تستبعد اي امكانية لأي فصل واقعي بينهما في أي مدى منظور، فإن الأزمة الراهنة في العلاقات الفلسطينية الأميركية قد اسقطت أو ينبغي لها أن تسقط أي مسوغات ما زال مفاوض منظمة التحرير يتذرع بها لاستمرارالتزامه ب"المحددات" الأميركية لهذه العلاقات.
لقد فرضت الولايات المتحدة هذه "المحددات – الشروط" على منظمة التحرير، فتحولت ألى قيد على حركتها السياسية طوال العقدين الماضيين من الزمن، فانحصرت خياراتها السياسية في اطارها، وحولت التزام المنظمة المجاني بها الى شرط موضوعي للانقسام الوطني، حول المنظمة بدوره الى شريك مكره أو متطوع للاحتلال الاسرائيلي وراعيه الأميركي في مطاردة المقاومة الوطنية، وفرض على المنظمة تحالفات اقليمية ودولية تثبت الأزمة الراهنة في العلاقات الأميركية الفلسطينية أنه لم يعد للشعب الفلسطيني ومصالحه العليا أي فائدة فيها أو منها.
إن استمرار التزام المنظمة بتلك "المحددات" الاسرائيلية التي تحولت الى أميركية ثم الى شروط للجنة الرباعية الدولية (الولايات والأمم المتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي) قد تحول الى التزام فلسطيني مجاني دون أي مقابل.
قبل حوالي ستة اشهر استقال المبعوث الرئاسي الأميركي للسلام في الشرق الأوسط، جورج ميتشل، فعين الرئيس باراك أوباما ديفيد هيل بديلا له، موحيا ان استقالة ميتشل لم تكن مؤشرا الى فشل "عملية السلام" ومفاوضاتها وفشل الدور الأميركي في رعايتها، بل كانت استقالة تتفق مع مهلة العامين التي أعلنها ميتشل نفسه إطارا زمنيا لانجاز مهمته. وخلال الشهور الستة التي أعقبت استقالة ميتشل لا يتذكر أحد اليوم وجود بديل له اسمه ديفيد هيل. وفي نهاية الأسبوع الماضي اعلن مسؤول ملف الشرق الأوسط في إدارة أوباما دنيس روس استقالته بدوره اعتبارا من نهاية العام الجاري، وروس هو صاحب الاقتراح الذي اعلنه أوباما لاستئناف مفاوضات السلام على أساس حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 ناقصة المستعمرات الاستيطانية اليهودية في القدس والضفة الغربية المحتلة، وعلل روس استقالته بأنه "وعد زوجته" بالاستقالة من عمله مع إدارة أوباما بعد عامين. لكن مهما كانت الأسباب المقدمة في الظاهر لمثل هذه الاستقالات فإنها لا تستطيع إخفاء السبب الحقيقي لها، وهو الفشل الكامل للولايات المتحدة ولل"محددات" التي فرضتها على المفاوض الفلسطيني.
صحيح أن هذه الأزمة في العلاقات الثنائية هي أزمة بين الولايات المتحدة وبين منظمة التحرير، "شريكها" الفلسطيني في "عملية السلام" مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، لكن أي قطيعة مع منظمة التحرير تحول الأزمة عمليا الى أزمة مع الشعب الفلسطيني بكامله نظرا لأن الولايات المتحدة في سياق حربها العالمية على "الارهاب" هي في "حالة حرب" من جانب واحد مع العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية الأعضاء وغير الأعضاء في منظمة التحرير التي تصنفها واشنطن منظمات "إرهابية".
وهذا "التوحد" الفلسطيني في الأزمة مع الولايات المتحدة يقتضي منطقيا أن تكون أي عملية فلسطينية لمراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة هي عملية مشاركة وطنية على أوسع نطاق تكون بدورها حافزا جديدا لتسريع تنفيذ اتفاق القاهرة الأخير للمصالحة الوطنية الى واقع على الأرض.
إن السد الأميركي الذي تقيمه الولايات المتحدة اليوم في مجلس الأمن الدولي لمنع المجتمع الدولي من منح اعترافه بعضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة يذكر بأن السراب الخادع للوعود الأميركية بدولة فلسطينية يعود الى عام 1982 عندما وعد فيليب حبيب الراحل ياسر عرفات، باسم إدارة رونالد ريغان، ب"دولة فلسطينية مضمونة أميركيا خلال عام" مقابل موافقة الزعيم الفلسطيني على إخلاء لبنان من منظمة التحرير، وكان عرفات، كما قالت تقارير إعلامية، يحتفظ حينها ب"الوعد الخطي" الذي قدمه حبيب في جيب قميصه. ومنذ ذلك الحين تحول الوعد الأميركي بدولة فلسطينية الى مجرد "طعم" لاستدراج المنظمة الى المزيد من الارتهان للاملاءات الأميركية – الاسرائيلية.
وبالتالي فإن أي مراجعة للعلاقات الأميركية الفلسطينية لا بد لها في أي مسعى الى "الوحدة الفلسطينية واستراتيجية المستقبل السياسي الفلسطيني" من البحث عن محددات جديدة للعلاقات الثنائية غير المحددات الاسرائيلية المعروفة.
ويأتي في رأس المحددات الجديدة لأي علاقات أميركية فلسطينية سليمة وصحية وقابلة للاستمرار في المستقبل إسقاط المحددات الاسرائلية التي منحتها الولايات المتحدة صفة اميركية قبل أن تفرضها على اللجنة الرباعية الدولية كشروط مسبقة تؤهل أي طرف فلسطيني ليكون "شريكا في عملية السلام" يستحق دعم واشنطن والرباعية على حد سواء. فالأزمة الأميركية الفلسطينية الراهنة تستدعي إسقاط المحددات القديمة للعلاقات الثنائية لأنها دليل دامغ على فشلها، ليس فلسطينيا فقط، بل واميركيا واسرائيليا كذلك.
ثم لا بد من مطالبة فلسطينية واضحة بابطال كل "القوانين" الأميركية التي أفرزتها "المحددات" السابقة للعلاقات الثنائية. فأي مراجعة سريعة لهذه القوانين تؤكد حقيقة أن الولايات المتحدة بدل أن تكافئ منظمة التحرير على التزامها بتلك المحددات أصدرت تلك القوانين من أجل الضغط عليها لتقديم مزيد من التنازلات. في الخامس من الشهر الجاري كتب مؤسس ورئيس المعهد العربي الاميركي، جيمس زغبي: "بدلا من تغيير أو الغاء القوانين المعادية للفلسطينيين التي اصدرها خلال السنوات العشر الماضية، دفع الكونغرس الى وضع المزيد من القيود العقابية على علاقات الولايات المتحدة مع منظمة التحرير الفلسطينية وعلى دعمها. وبدلا من ازالة الحظر على عمل المنظمة في واشنطن أو حتى زياراتها الى للولايات المتحدة، أعطيت المنظمة "تأجيلا" للعمل يمكن ابطاله في ظروف معينة ويتطلب تقريرا دوريا من الادارة الى الكونغرس من أجل أن يظل هذا التأجيل ساري المفعول. وقد أعطيت المعونات للفلسطينيين، لكن بشروط مهينة تثقل كاهلهم اكثر من أي حزمة مساعدات أميركية أخرى".
إن الرئيس الأميركي ومنذ سنوات يجدد "تمديد" عمل منظمة التحرير كل ستة أشهر، و"يؤجل" تنفيذ قانون آخر بنقل السفارة الأميركية في دولة الاحتلال الاسرائيلي الى القدس المحتلة كل ستة اشهر، مما يذكر ايضا بأن القانون الأميركي الذي كان يعتبر منظمة التحرير منظمة "ارهابية" هو ذاته القانون الذي يصنف فصائل المقاومة الفلسطينية اليوم كمنظمات "ارهابية". وفي سنة 1990 أصدر الكونغرس قانونا ينص على وقف أي تمويل أميركي لأي وكالة من وكالات الأمم المتحدة تمنح منظمة التحرير وضع الدولة كما فعلت اليونسكو مؤخرا.
إن هذه القوانين الأميركية وغيرها المعادية للشعب الفلسطيني كانت هي المكافأة الأميركية لاستمرار التزام منظمة التحرير بال"محددات" التي أملتها الولايات المتحدة كمرجعية للعلاقات الأميركية الفلسطينية، وقد حان وقت اسقاط هذه المرجعية، خصوصا بعد تأكدت منظمة التحرير بأن استمرار التزامها بهذه المرجعية للعلاقات الثنائية لا يفتح أي طريق أميركي يقود الى دولة فلسطينية، فالطريق الأميركي الى دولة كهذه كان وسوف يظل مسدودا.
* كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق