كلّ من يستمع إلى "الأخ العقيد"، أو يرى عروضه الكوميدية، لا بدّ له من التساؤل: هل الرجل مجنون فعلا، أم هو يتمجنن ليغرّر بشعبه وبمشاهديه؟ هل يمكن أن يكون مجنونا، بالمعنى المرضيّ، مَن حكم بلاده أكثر من أربعين سنة، بوسائله وأنظمته "المبتكرة"، بل أخذ يمهّد لتوريث ولده، سيف الإسلام، تمشّيا مع "التقاليد" العربية المعاصرة؟ كيف يمكن للرجل أن يكون مهرّجا رديئا من ناحية؛ وحاكما مطلقا، من ناحية أخرى، لبلاد واسعة، بثرواتها الطائلة، وملايينها السبعة، ولسنوات عديدة؟!
في سنة 1969، قام القذافي، بانقلاب عسكري "أبيض"، أطاح بالملك إدريس السنوسي. استلهم القذافي ثورة 1952 في مصر، إلى حدّ بعيد ، وشخص جمال عبد الناصر بالذات؛ ما دعاه إلى إطلاق اسم "ثورة الضباط الأحرار" على حركته أيضا. يقال إن عبد الناصر كان يُسكت القذافي، حين يسترسل في هبله أثناء لقاءات الزعماء العرب، بنظرة مؤنّبة أو بالضغط على يده، فيمتثل الضابط الشاب، ويعود إلى أدبه صاغرا. لكنّ عبد الناصر توفي سنة 1970، فأطلق القذافي العنان، بعد وفاة الرجل، لخياله ولسانه وقلمه ويده؛ يقول ويسلك كما يشاء، دونما حسيب أو رقيب، بحيث يمكن لسيرة العقيد أن تشكّل كتابا ممتعا، كلّه عجائب وغرائب، مسلّية مروّعة في الوقت ذاته، من الغلاف إلى الغلاف!
انقلاب القذّافي أطاح بالملك والملكية، كما أسلفنا، لكنّ ذلك لم يمنعه من تتويج نفسه "ملك ملوك أفريقيا". أما ليبيا فسمّاها رسميا: " الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى". اسم ينتاب سامعه أو قارئه الضجر قبل الوصول إلى آخره. لا تنسوا "العظمى"، من فضلكم؛ ما دام حاكم البلاد عظيما فلا بدّ أن تكون "جماهيريته" عظمى لتليق بالمقام!
ملك الملوك مولع أيضا، فيما يبدو، باللون الأخضر بالذات. لذا، فقد أصدر فرمانا يقضي بأن يكون علم البلاد أخضر خالصا، بدلا من علم الثورة العربية الكبرى بألوانه الأربعة؛ ملعب كرة قدم دونما تخطيط، يرفرف على كلّ مؤسسة ليبية رسمية، في ليبيا وفي العالم قاطبة. وإذا كان لماو تسي تونغ في الصين الشيوعية كتاب أحمر، قُرئ بالإكراه في كلّ مكان، رغبة في التثقيف الثوري للجماهير، فالقذافي ألّف أيضا "الكتاب الأخضر"، وفرضه على مواطنيه، وضيوفه أيضا، رغبة في تنوير الجماهير بإطلاعها على "فلسفة الثورة" القذّافية. بل إن للكتاب الأخضر القذافيّ تمثالا أيضا رأيناه يتهاوى تحت ضربات المتظاهرين الغاضبة. لا كتاب يساوي الكتاب الأخضر فكرا ومكانة وقداسة، ربّما القرآن الكريم فقط! لذلك، كان لا بدّ من توزيع نسخة من القرآن وأخرى من الكتاب الأخضر، على مئات الفتيات اللواتي حشدهنّ له صديقه الحميم برلوسكوني، في زيارته الأخيرة لإيطاليا، لسماع محاضرته القيّمة التي تناول فيها ضرورة أسلمة أوروبا.
العقيد أيضا من أنصار المرأة، يؤمن بمكانتها وحقوقها وقدراتها. صحيح أنه يرى مكان المرأة الطبيعي في البيت، لكنّه يؤمن، من ناحية أخرى، أنّ المرأة أوفي من الرجل، والفتاة العذراء بوجه خاصّ. لهذا السبب، يتألّف الحرس الخاصّ للزعيم من مئات العذارى المسلّحات، وكلّهنّ يحملن اسم عائشة 1، عائشة 2، عائشة 3.. إلى آخر القائمة.
هناك أيضا لباس مبتكر للعقيد، لم يعرفه السابقون ولن يهتدي إليه اللاحقون: يظهر مرّة ببزّته العسكرية الغاصّة بالميداليات والنياشين، أدميرال مثل نلسون تماما. ومرّة أخرى يرتدي عباءة، تأكيدا للعروبة والبداوة، وطاقبة على رأسه، ونظّارات سوداء على عينيه؛ بدوي وجيمس بوند في الوقت ذاته! وفي مرّة ثالثة يرتدي خرقا بنّية، لا تعرف لها أصلا ولا فصلا. الرجل باختصار فريد عصره، متميّز في كلّ شيء، وعليه فلا بدّ لزيّه أيضا أن يجمع التفرّد والإغراب معا.
"خيمة القذافي" هي أيضا عجيبة الدنيا الثامنة. ينقلها حيث يسافر، في بلاد الله الواسعة، في طيّارته الخاصّة. ألم نقلْ لكم إنّه عربيّ أصيل، متمسّك بالتقاليد، حافظ للأعراف؟ في الولايات المتحدة، عندما زار الأمم المتحدة هناك، كادت الخيمة المذكورة تؤدّي إلى أزمة دبلوماسية، فأميركا الإمبريالية لم توافق أوّل الأمر على نصب خيمته هناك، لكنّها نُصبت أخيرا في حديقة بيت استأجره العقيد، لتنتصب في إصرار وإباء رغم أنف الاستعمار والمستعمرين. يقال إنّ الخيمة هذه تحتوي في داخلها على كلّ وسائل وأدوات الحياة العصرية، لكي "تجمع المجد من طرفيه"؛ الشرقيّ العريق والغربيّ الأنيق. في هذه الخيمة أيضا يستقبل العقيد زوّاره، من رؤساء وبسطاء، فتروعهم خيمته كما يروعهم سلوكه وإبداعه. منعا للتفصيل المملّ: كثيرون هنا من "عرب 48" ، أمّوا هذه الخيمة "الحرام"، فاسألوهم إذا رغبتم في التفصيلات الدقيقة والآداب الرقيقة !
لا نريد الإطالة، لكن لا يمكننا أن نُغفل خطاباته الكثيرة بمستواها الرفيع. خطب في الجمعيّة العمومية للأمم المتّحدة ساعة ونصف الساعة، فبهر الحاضرين بفكره النيّر ومنطقه الراقي، ولو فهم المترجم الفوري كلّ الروائع والبدائع وترجمها للمندوبين الحاضرين، لكان التثقيف أعمّ، والتنوير أتمّ. هذا الخطاب التاريخي، على مسامع شعوب الأرض كلّها، لا يفضل طبعا خطاباته المتتالية، منذ اندلاع الثورة عليه، لأبناء شعبه "الجرذان" المنكرين لنعمه وأفضاله. في خطاب غاية في الإيجاز والإعجاز، عشر ثوانٍ لا أكثر، أطلّ فيها من شبّاك السيّارة حاملا شمسيّته، قال ما يقوله الآخرون في ساعات وأيام.
لا أرغب في الاسترسال في تعداد "فضائل" الرجل، فهي ترشّحه للقب "مجنون العصر". لكنّي أعود إلى السؤال مرّة أخرى: هل هو مجنون فعلا، أم يتمجنن علينا وعلى العالم كلّه؟ كيف يكون الرجل مجنونا، وقد حكم البلاد أكثر من أربعين سنة، مستأثرا بسلطاتها وثرواتها؟ وخلال فترة حكمه الطويلة هذه، وزّع الوعود على كلّ من حوله، من دول ومؤسسات، و"ساعد" كلّ محتاج، لكنّ وعوده ومساعداته كلّها كانت كلاما في كلام، أو كذبا في كذب. فهل جنون هذا أم كذب وخداع؟ كيف يكون مجنونا من يعادي أميركا ويشتمها على كلّ منبر، ويشرع في بناء قدرة نووية، ويضطلع بالإرهاب في كلّ مكان؛ وما إن يتلقّى الضربة الجويّة الأميركية الأولى، على قصره في عاصمته، حتّى ينقلب ذليلا هزيلا حقيرا؛ فيقلع عن برامجه النووية، ويتبرّا من الإرهاب والإرهابيين، ويخطب ودّ أميركا، وإسرائيل أيضا، بل يشارك في برامج المخابرات الأميركية في "الحرب على الإرهاب"- أجنون هذا أم ميكيافيلية ؟
كيف يمكن أن نتّهم بالهبل من يستأجر آلاف المرتزقة بالقبّعات الصفراء، من أفارقة وغير أفارقة، ليشكّلوا "قوّة احتياطية "لحماية نظامه في "وقت الضيق"، ولضرب المتظاهرين والمعارضين بيد من حديد ونار. لو كان أهبل فعلا، كما يتبدّى في عروضه ومسرحياته، لما هدّد بإحراق آبار النفط رغبة في تخويف الغرب، ولا حرّض القبائل على القبائل، ولا زعم أنّ بن لادن يقف وراء الثورة عليه. ليس الرجل مجنونا ولا أهبل؛ قدّم العروض الغريبة، وفصول التهريج العجيبة، لكي يصرف أنظار العالم عن جرائمه وموبقاته، والعالم تسلّى فعلا واستمتع ببهلونيّاته زمنا غير قصير. لكنّه اليوم، وقد وقعت ساعة الجدّ، لم يعدْ يمثّل ولا يُضحك: تكشّف مجرما سفاحا، نيرونا معاصرا، لا يتورّع عن إحراق بلده، وإبادة شعبه، وبهذه التهمة يجب أن يحاكَم، إن اليوم أو غدا !!
0 comments:
إرسال تعليق