البطريرك صفير في 05 آذار/2011: "اسال الله ان يلهم اخواني اصحاب السيادة حسن اختيار من سيخلفني على السدة البطريركية".
استقال هذا الكبير، غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير من سدة البطريركية المارونية بعد خمسة وعشرين عاماً مضنية وقاسية بشوكها ومراراتها وحلوها على كل الصعد. خمسة وعشرون عاماً قضاها حاملاً صليب ورسالة المعلم بتقوى وإيمان وجلد وصبر ورجاء وشفافية وجهد لا يكل.
تحصن بسلاح علمه وقوة إيمانه ورجائه، وتحمل مسؤولية قيادة سفينة كنيسة لبنان المارونية ورعاياها في لبنان وبلاد الانتشار.
مارس مهماته البطريركية بحكمة وثقة مستعيناً بنعم وعطايا وبركات الروح القدس، فحافظ على الأمانة البطريركية وصانها ودافع عنها في وجه كل الشدائد والصعاب والتجني والتشكيك بشجاعة ووداعة وتفاني وصدق، فأوصلها بجدارة متناهية إلى بر الأمان وها هو يسلم دفتها براحة ضمير راضياً ومرضياً إلى الربان رقم 77 ليكمل رسالة البشارة البطريركية المقدسة.
صان الأمانة البطرسية والبولصية والبطريركية وحافظ عليها بأمانه. كان جديراً باستثمار وزناته المقدسة التي في مقدمها وزنة مجد لبنان التي أعطيت لصرح بكركي الماروني ولبطريركها، وها هو يعيد الوزنات بعد أن ضاعفها وزادها تماماً كما هو مطلوب من السيد الذي سيدعوه لدخول جنته.
برضاه وعن قناعة وبتواضع وفرح، استقال هذا الكبير من موقعه البطريركي ملقناً الجميع درساً بليغاً في مفاهيم الزهد والتجرد وعدم التعلق بكل ما هو أرضي من مال ونفوذ ومقتنيات لعلمه الإيماني الأكيد أن رسالة الكهنوت بكل تدرجاتها ومناصبها ومواقعها هي دعوة إلهية وليست مُلكاً ارضياً. هكذا كانت دعوة المسيح لتلاميذه، وهكذا كان اختياره للقديس بولس الرسول ولكل القديسين والأبرار، وهكذا سيكون اختيار الروح القدس للبطريرك الماروني ال 77 الذي سيخلف غبطة البطريرك صفير.
حمل البطريرك صفير عبق قنوبين وقداسة لبنان وأرزه ورسالته الإيمانية والحضارية والإنسانية، فكان عن جدارة وبصدق قولاً وفعلاً ضمير لبنان، كل لبنان، وكل طوائفه. تميز غبطته بصمته الثاقب وبنظرته المصوبة إلى المدى البعيد حيث الحد الفاصل بين الحق والباطل.
إنه فعلاً صخرة بطرسية كبيرة متجذرة في جبال لبنان لم تقوَ عليها الرياح والعواصف والزلازل، وهو كما كل البطاركة الموارنة الذين سبقوه كان باستمرار ثابتاً وعنيداً وشجاعاً ومتواضعاً في الدفاع عن مواقف الحق والعدل والإيمان.
لم يهادن ولم يساوم ولم يخف أو يساير أحداً على حساب رسالة القداسة أو الأمانة التي إتمن عليها. لم يرضخ للمغريات ولم ينحنِ في وجه التهديد والوعيد ولم يرضَ رغم الصعاب الجمة التنازل عن حقوق لبنان واللبنانيين في الحرية والسيادة والاستقلال والكرامة والعزة.
حمل في عينيه الصافيتين والبراقتين هموم لبنان الرسالة والقداسة والحضارة، وفي عنقه أبقى الصليب المقدس ليحميه ويرشده، وفي قلبه وعقله ووجدانه أسكن لبنان وأرزاته. أثبت في كافة المحطات الصعبة أنه فعلاً الراعي الصالح الذي لا هم عنده يعلو على هموم رعيته، ولا هاجس لديه يفوق ما يواجه وطنه من أخطار محدقة.
خمسة وعشرون عاماً قضاها في عين العاصفة متلقياً بتسامح وأبوة سهام التشكيك والتخوين والإهانات ولم يلن. دافع عن قضية الشعب اللبناني وعن قداسة كنيسته ولم يتزحزح قيد أنملة عن قناعاته الإيمانية والوطنية الراسخة. كان بشهادة الجميع صلباً في فترات الشدّة، ومؤمناً في أوقات المِحن، وصبوراً في غمرات المظالم، ومحبّاً في أزمنة النكران، وغفوراً في حقبات الخيانة، ومسامحاً في أيام التجني والتعديات والجحود.
مع المطران رولان أبو جودة الذي خاطب غبطة البطريرك صفير في 05 آذار/2011 خلال القداس التكريمي الذي اقيم له لمناسبة يوبيله البطريركي الفضي، نقول: "أعتذر منك باسمي وباسم الموارنة أننا تقاسمنا رداءك وحاولنا انتزاعك من موقف الراعي إلى موقف الفريق. أعترف أننا خلال خدماتنا تباينت أفكارنا لكننا آمنا بصدق بآرائك وتوكلك على الله".
سيدي غبطة البطريرك مار نصرالله صفير، يا أيها الماروني المعطاء، ويا ابن وطني لبنان الحبيب، ويا أيها الصخرة البطرسية الرسولية، رغم استقالتك ستبقى في ضمائرنا ووجدانا ولن تغيب عنا لأنك تسكن قلوبنا، فطوبى لك أيها العظيم المتواضع، وبارك يا سيد.
0 comments:
إرسال تعليق