الدور الفلسطيني لمصر بعد 25 يناير/ نقولا ناصر


(يبدو اليوم أن غزة سوف تكون هي الامتحان الأول الذي يثبت فيه قادة مصر الجدد صدق تجاوبهم واستجابتهم للنبض الوطني والعربي والإسلامي لجماهير ثورة 25 يناير)

ليس من المتوقع أن يقود استمرار الانقسام الفلسطيني بين المنخرطين في "عملية السلام" وبين المعارضين لها إلى مساعدة مصر بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني في انتهاج سياسة تجاه القضية الفلسطينية تفصل بين الالتزامات المصرية بموجب معاهدة الصلح المنفرد الذي وقعه النظام السابق مع دولة الاحتلال وبين التزامات تجاه "عملية السلام" فرضها النظام المخلوع على مصر "طوعا".



وما لم يتوحد الموقف الفلسطيني على استراتيجية وطنية بديلة لعملية تفاوضية انفرط عقد شركائها ولم يعد أحد يساوره أي شك في فشلها بعد حوالي عشرين عاما من فرضها على الشعب الفلسطيني والمنطقة نتيجة الخلل في ميزان القوى الناجم أولا واخيرا عن توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية، فإن النظام الجديد الذي يتبلور حاليا في مصر سوف يجد في استمرار الانقسام الفلسطيني عقبة لا تسهل توجها له مؤشراته واضحة للفصل بين التزامات مصر التعاقدية بموجب هذه المعاهدة وبين التزامات نظام الرئيس السابق حسني مبارك الطوعية ب"عملية السلام".



إن الضغوط الأميركية بخاصة لحصر التغيير الذي ثار الشعب المصري من أجل إحداثه على الشأن الداخلي دون أن يطال العلاقات المصرية الخارجية المنبثقة عن اتفاقيات كامب ديفيد مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، والمرحلة الانتقالية الدقيقة التي يمر بها صنع القرار الوطني المصري بعد ثورة 25 يناير / كانون الثاني، واستمرار الحديث عن "ثورة مضادة" حد أن يعلن رئيس الأركان الحالي للقوات المسلحة المصرية الفريق سامي عنان عن إحباط محاولة "انقلاب" بقيادة قائد الحرس الجمهوري لرئيس الجمهورية المخلوع مبارك، مما يكسب الحديث عن ثورة مضادة واقعية خطيرة تهدد بانتكاس ثورة 25 يناير، .. هذه العوامل وغيرها يجب ان تدفع باتجاه تسريع إنهاء الانقسام الفلسطيني على أساس لا يجد فيه صانع القرار المصري نفسه مخيرا فلسطينيا بين المنخرطين في "عملية السلام" وبين المعارضين لها.



ومن الواضح أن استمرار تمسك مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية ب"عملية السلام" سوف يضعف أي توجه مصري جديد نحو إنهاء الخلط الذي مارسه نظام مبارك بين احترام المعاهدات والاتفاقيات "الدولية والإقليمية" الموقعة، وهو ما سارع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الحاكم الآن إلى إعلان احترامه له أيضا، وبين التزام النظام السابق ب"عملية السلام". فاستمرار التزام مفاوض المنظمة بهذه العملية سوف تستخدمه الولايات المتحدة بالتأكيد كحجة قوية للضغط على النظام الجديد الذي يتبلور في مصر الآن لمواصلة عملية الخلط السابقة.



ويمكن للمراقب حاليا أن يتكهن بأن واشنطن سوف تقول لقادة مصر الجدد إنه لا يمكنهم أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وفلسطينيين أكثر من الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي يمثله مفاوض المنظمة. ولا بد من مسارعة فلسطينية إلى إسقاط هذه الحجة الأميركية كوسيلة ضغط على قرار القاهرة.



في عهد مبارك، كان أفضل ما يمكن أن يتوقعه عرب فلسطين من نظامه هو أن يلتزم بما كان يدعيه من "حياد" بين نضالهم الوطني وبين عدوان دولة الاحتلال الإسرائيلي المتواصل عليهم وعلى أرضهم، لكن العدوان الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة قبل أكثر من عامين أسقط كل ادعاءات نظام مبارك ب"الحياد"، وبالحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، بعد أن أسقط خذلان "الشريك الأميركي" له في الوفاء بوعوده في ما يسمى "عملية السلام" كل إدعاءات نظام مبارك بدعم مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية في تلك العملية العقيمة، ليتحول إلى شريك علني للاحتلال الإسرائيلي وراعيه الأميركي في الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة وفي تغذية الانقسام الوطني الفلسطيني.



ويبدو اليوم أن غزة التي كانت الامتحان الذي أسقط كل صدقية نظام مبارك العربية والفلسطينية و"السلمية" سوف تكون أيضا هي الامتحان الأول الذي يثبت فيه قادة مصر الجدد صدق تجاوبهم واستجابتهم لنبض جماهير ثورة 25 يناير الوطني والعربي والإسلامي.



في كامب ديفيد الأميركية حوصرت عروبة مصر قبل ثلاثين عاما ونيف، عندما تمكن الرئيس الراحل أنور السادات من اختطاف الانتصار العسكري الباهر الذي أنجزته بطولات جيشها في حرب تشرين / أكتوبر عام 1973 ليتنكر لتضحيات آلاف الشهداء المصريين الذين سقطوا فيها وقبلها دفاعا عن مصر وفلسطين معا فيوقع معاهدة الصلح المنفرد مع دولة المشروع الصهيوني التي فصلت بين عرب أرض الكنانة وبين أشقائهم في عمق مصر الاستراتيجي العربي في بلاد الشام، وبين شعب مصر العربي وبين إصراره على تحمل مسؤولياته القومية تجاه قضية فلسطين التي فشلت ثلاثة عقود من الزمن من الدعاية المضللة في "غسل دماغه" كي يقطع صلته العضوية بانتمائه الطبيعي إلى الهوية العربية الإسلامية.



لقد تحول "تحالف السلام" المصري – الأميركي مع دولة الاحتلال الاسرائيلي إلى سند استراتيجي لها، مما جعل قادتها مطمئنين إلى أن خاصرتها المصرية "مؤمنة حين يذهبون إلى الحرب أو يبنون المستوطنات أو يفاوضون على السلام على الجبهات الأخرى، حتى أن خطة (رئيس الوزراء بنيامين) نتنياهو التي استهدفت الهجوم على إيران كانت على أساس ضمان تاييد مبارك لتلك الخطوة ولذلك تم تأجيلها وإعادة النظر فيها الآن" بعد ثورة 25 يوليو كما كتب ألوف بن في هآرتس في الثالث عشر من الشهر الجاري، مما أطلق يدها حرة في فرض إملاءاتها على محيطها العربي الإسلامي حتى أجمع قادته على "مبادرة السلام العربية"، بتكلفة أقل خفضت ميزانية الحرب الإسرائيلية من (40%) من الميزانية العامة قبل كامب ديفيد إلى (%10) حاليا، وعزز قدرتها على الاحتفاظ بمكاسبها الإقليمية من عدوانها العسكري عام 1967 في الأراضي السورية والفلسطينية واللبنانية المحتلة، وحرك آلتها العسكرية المتحررة من الرادع المصري لشن الحروب أو التهديد بها، وارتهن قضية فلسطين وحق شعبها في تقرير مصيره فوق أرضه للخلل في ميزان القوى الناجم عن تحييد مصر في الصراع العربي معها، مما أكسبها الوقت الكافي كي تستعمر بالتهويد الاستيطاني ما لم يكن قد تهود بعد من الوطن التاريخي لعرب فلسطين وكي تحاصر المقاومة الفلسطينية للدفاع عن الحق الوطني والعربي والإسلامي في ثالث الحرمين الشريفين وموطن الإسراء والمعراج النبوي الشريف دون أي رادع عربي أو إسلامي.



كل هذا الإرث الثقيل لنظام كامب ديفيد يخطر ببال عرب فلسطين وهم يستمعون إلى وزير الخارجية في حكومة تسيير الأعمال المصرية الجديدة، نبيل العربي، يدعو إلى "مراجعة شاملة" للسياسة الخارجية لبلاده على نحو "يليق بتاريخها ومكانتها في العالم" بهدف "التحقق من أن معاهدات مصر مع الدول الأخرى تحترم من الجانبين على قدم المساواة"، ويدعو إلى "مراجعة" الحصار المفروض على غزة كونه "يتعارض مع القانون الدولي والانساني"، كما كتب قائلا، كمدخل أول لعودة الحكم في القاهرة إلى شعبه ونبضه العربي والاسلامي والفلسطيني، كي يتفاءلوا بأن يكون "اسمه على مسمى"، ليكون "العربي" عنوانا صادقا ل"حق مصر في أن تلغي معاهدة كامب ديفيد" التي قطعت صلتها بمسؤولياتها القيادية تجاه العرب والعروبة.



ويدرك "العربي" في مصر اليوم أن عرب فلسطين تحت الاحتلال يترقبون على أحر من الجمر "التغييرات الكبيرة" في السياسة المصرية التي وعد بها يوم الثلاثاء الماضي السفير المصري في رام الله بالضفة الغربية، ياسر عثمان، تجاه حصار قطاع غزة والانقسام الوطني الفلسطيني، ويتفاءلون بمجموعة من المؤشرات الإيجابية إلى صدق النوايا توالت خلال الأيام الأخيرة، ومنها السماح بإدخال الاسمنت إلى القطاع رسميا لأول مرة مما يبشر بسياسة تغني المحاصرين في القطاع عن "اقتصاد الأنفاق"، والسماح لمسؤولين في غزة بالسفر إلى الخرطوم لحضور مؤتمر حول القدس مما يبشر بفتح البوابة الوحيدة المصرية أمامهم إلى العالم الخارجي، وإلغاء زيارة نائب رئيس المخابرات المصرية، اللواء محمد إبراهيم، إلى رام الله مما يبشر بنقل رعاية ملف المصالحة الفلسطينية من "ثقب الإبرة الأمني" المصري إلى الفضاء الرحب لسعة أفق شخصية مخضرمة خبيرة في القانون والسياسة الخارجية مثل نبيل العربي، إلخ.



لكن الرسالة التي بعث بها رئيس الحكومة الفلسطينية "المقالة" في غزة، إسماعيل هنية، إلى رئيس المجلس العسكري المشير محمد حسين طنطاوي الأسبوع الماضي بقدر ماعبرت عن الآمال الفلسطينية في دور فلسطيني جديد لمصر بعد 25 يناير يشمل "وضع إخوانكم في الساحة الفلسطينية وخارجها" بقدر ما كشفت الحذر الشديد الذي يتعامل به الحكم الجديد مع الملف الفلسطيني حد السلبية مما دفع هنية إلى الحث على "إعادة العلاقات المصرية الفلسطينية إلى طبيعتها الراسخة ومعالجة القضايا التي لا تزال بحاجة إلى علاج ومتابعة من المرحلة السابقة".



إن ملاحظة هنية في رسالته أنه بالرغم من فتح معبر رفح فإن غزة من خلال متابعتها لسير العمل اليومي في المعبر لا تزال تجد "أن جهاز أمن الدولة المصري لا زال يحول دون سفر وعودة أبناء شعبنا" إنما هو مؤشر إلى استمرار الحذر المصري "ميدانيا"، وعدم حدوث تغيير جوهري "سياسيا" حيال الانقسام الفلسطيني بالمقارنة مع الموقف المصري في عهد مبارك كما يتضح من مطالبة هنية للمشير طنطاوي ب"استقبال وفد من غزة للتباحث والتشاور .. وبناء علاقة جديدة وطيدة"، خصوصا بعد استقبال وزير الخارجية ورئيس المخابرات المصرية الجديدين في القاهرة لمفوض العلاقات الخارجية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح د. نبيل شعث من الطرف الاخر من الانقسام الفلسطيني.



وآمال عرب فلسطين في دور فلسطيني جديد لمصر متواضعة، وتقتصر طموحاتهم الراهنة على التخلي عن إرث مبارك للفصل في الأقل بين التزامات مصر بموجب اتفاقياتها مع دولتي الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والأميركي في العراق وبين التزامات تطوع بها نظام مبارك تجاه "عملية السلام" لا علاقة لها بكامب ديفيد واتفاقياته.



فعلى سبيل المثال، إذا كانت هذه الاتفاقيات تلزم مصر بالتخلي عن اتفاقية الدفاع العربي المشترك فإنها لا تلزمها باتفاق دفاع مشترك مع دولة الاحتلال، وإذا كانت تلزمها بعدم دعم المقاومة الفلسطينية فإنها لا تلزمها بالتحول إلى شريك في مطاردتها وحصارها، ولا تلزمها بالتحول إلى شريك لدولة الاحتلال في حصار غزة وتعميق الانقسام الفلسطيني عن طريق "تقوية السلطة الفلسطينية" و"إضعاف حماس"، و"زيادة الضغط" عليها كما كان الهدف من استضافة مصر ل"مؤتمر إعادة إعمار غزة" في شرم الشيخ في الثاني من آذار / مارس عام 2009، ولا بأن تبذل مصر أقصى جهودها من أجل "عزل حماس وإضعافها" حتى لو جعل ذلك مصر "تخاطر بالظهور بمظهر من يقف إلى جانب إسرائيل كسجان للفلسطينيين الغزازوة"، ولا تلزم القاهرة ب"التصميم المصري" على تحقيق النجاح" في ذلك " كما فعل نظام مبارك "مهما قد يسببه ذلك من مخاطر تتعلق باهدافه المعلنة" في "دعم السلطة الفلسطينية ونزع الشرعية عن حماس" كما جاء في وثيقة سرية عبارة عن برقية من السفيرة الأميركية في القاهرة مارغريت سكوبي مؤرخة في 26/2/2009 ونشرتها التلغراف البريطانية يوم الخميس الماضي نقلا عن موقع "ويكيليكس".



* كاتب عربي من فلسطين

* nicolanasser@yahoo.com

CONVERSATION

0 comments: