مع بدء الثورة الشعبية الليبية التي لا تختلف في دوافعها وأهدافها ومراميها الوطنية عن قرينتيها المصرية والتونسية، بفارق أن هذه الثورة تحولت لحرب شعبية دخل فيها السلاح من جهة الشعب بعد أن فقد كل مساعيه السلمية الرامية لدفع العقيد معمر القذافي للتنحي عن الحكم بعد اثنين وأربعين عاماً من حكم ليبيا بالحديد والنار وبناء طبقة من الكومبرادور الحاكم والانتهازي الذي نهب خيرات البلاد وعاث فيها الفساد، وبعد أن استحل العقيد الدم الليبي فأطلق العنان لأمنه بالقتل بكافة الوسائل القتالية، بالمدفعية والطائرات، بل ووصل به الحد لاستئجار مرتزقة من دول إفريقية مجاورة لقتل شعبه، ما دفع الشعب الليبي الذي آمن مثله مثل غيره من الشعوب الحرّة أن الخلاص من حكم العقيد هو الحل الوحيد للبدء بمرحلة جديدة لبناء الدولة الليبية القادرة على احترام ذاتها وشعبها قبل كل شيء.
ومنذ الأيام الأولى لبدء الحرب، بدأت تخرج علينا أقلام عربية بعضها يطالب بالتعقل من إتخاذ مواقف تجاه الثورة، وبعضها مؤيد بشكل تام، وبعضها يرفض الثورة، وكان كل فريق من الثلاثة يدعم وجهة نظره بمجموعة من الأفكار التي يبدو بعضها منطقي وبعضها الأخر حلله المخالفون لوجهة نظره بأنه يلبي مصالح شخصية لا أكثر، وأكثر الدعوات التي وقفت بالمنتصف كان تأييد الثورة الليبية مع الحذر والتحذير الواضح من أي تدخل أجنبي في ليبيا، في محاولة للتسلق على الثورة الشعبية واستغلال الظرف الليبي لاحتلال منابع النفط الليبية.
لكن المسألة التي لم تكن مقبولة نهائياً لدى الغالبية العظمى من الشرائح الشعبية وكذلك القوى الوطنية السياسية العربية والأحزاب والمحللين وغيرهم، هي الدعوات التي طالبت الشعب الليبي بالتوقف عن ثورته أو انتفاضته المسلحة تجاه العقيد القذافي والمرتزقة الذين انضموا إليه بأجر مدفوع من أموال الشعب الليبي، بحجة أن إسقاط حكم العقيد سيؤدي بلا بما لا يدع مجالاً للشك لدخول قوات أجنبية، بحسب زعم هؤلاء الكتّاب القلة، بل ووصل بهم الحد لشتم شعب عربي بأكمله عبر وصف الثوار الليبيين الذين يشكلون كافة شرائح المجتمع الليبي بأنهم مجرد متمردين مأجورين تمولهم وزارة الخارجية الأمريكية وتدعمهم مالياً وعسكرياً ولوجستياً.
لا بد قبل كل شيء أن نؤكد على ثابت لا يختلف عليه عربيان في وطنهم أو في منافيهم أو شتاتهم، وهو أن الكل مجمع على رفض أي منطق كان يبرر أي تدخل أجنبي، أمريكي أو أوروبي في ليبيا، وإن كان لا بد من تدخل لحسم الموقف، فلا بد أن يكون هذا التدخل عربياً من عدة دول عربية وليس من دولة واحدة كي لا نقع مرة أخرى بمأزق التدخل السوري في لبنان الذي خلق عداءً بين الشعبين السوري واللبناني.
ثانياً، إن العقيد القذافي فقد شرعيته الكاملة كرئيس ليبي، وهذا ما أكدته غالبية الدول العربية ابتداء من قطر التي كان أول من طالبت العقيد بالتنحي وصولاً إلى بقية دول مجلس التعاون الخليجي وبعض الدول العربية الأخرى، بالتالي فإن الإجماع العربي الرسمي والشعبي، وقبل كل ذلك موقف الشعب الليبي الذي يجري قصفه الآن بالطائرات والمدافع، ويُقتل بيد القناصة المرتزقة الذين جلبهم العقيد، كلها أمور تؤكد فقدان العقيد القذافي لشرعيته التامة وأن عليه التسليم لإرادة شعبه والخروج من ليبيا، وبعد ذلك ستقرر الحكومة الليبية التي سيتم تشكيلها بعد خروجه مصيره فإما ملاحقته أو الاكتفاء بخروجه من ليبيا بلا عودة.
وعودة لما بدأ الحديث عنه حول موقف الكتّاب أو بعض الأفراد في بعض القوى الوطنية العربية حول موقفهم من القذافي وهنا أنا بصدد الحديث عن ظاهرة تشكلت في الأردن يقودها بعض الذين تصدروا واجهة المعارضة الأردنية السلمية، وتزعمها الدكتور إبراهيم علوش الذي انقلبت كافة مواقفه فجأة مع بدء الثورة الليبية فتحول من مناصر للثورات وحق الشعوب العربية بتقرير مصيرها إلى مهاجم للشعب الليبي وللثورات معتبراً إياها مأجورة مدعومة أمريكياً، وهذا التحول بدا واضحاً أنه يحمل دوافع شخصية لها علاقة بالعقيد نفسه والعلاقة معه، ومن هنا وبناء على ما كتبه الدكتور علوش وأيده فيه غالبية من كانوا في جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية حول تعداد مناقب العقيد القذافي ودوره، بحسب الدكتور علوش، في بناء ليبيا والحفاظ على قوميتها، ودوره في دعم قوى التحرر العربية، ووصف الثوار الليبيين بأنهم مجموعة من المتمردين والمرتزقة، وأن ثورتهم مدعومة أمريكياً، فلا بد أن نقول للدكتور علوش ولمن لف لفيفه ما يلي:
العقيد القذافي قبل أسبوع في أخر ظهور إعلامي له، الذي بدا واضحاً فيه أنه وصلَ سياسياً لمرحلة سكرات الموت السياسي، خرجَ علينا بخطابٍ مفاده رسالةً حرفية واضحة موجهة للعالم وللغرب وللأمريكان بشكل خاص، أن تنحيته عن الحكم ستضر كثيراً بأوروبا وإسرائيل بشكل خاص، وهذا يوضح لنا أن العقيد كان يمتلك مفاتيح الأمان للدولة العبرية.
هذه الرسالة التي قالها القذافي نفسه حرفياً، لم يسمعها أو سمعها وتجاهلها الدكتور إبراهيم علوش والمؤيدين له، ليستمر في ترويج الأكاذيب حول علاقة المقاومة التي يسميها زوراً وبهتانا "المتمردين" بوزيرة الخارجية الأمريكية كلنتون، لتشويهها وخلق فوبيا جديدة لدى الشعوب العربية من الثورات على طريقة "الإسلاموفوبيا" التي صنعتها الولايات المتحدة لتخويف العالم من كل ما هو إسلامي، بل وإن القذافي نفسه استخدم "الإسلاموفويا" لتخويف شعبه إن استمروا في العمل على المطالبة بتنحيته عبر تهديدهم بأن الفراغ الذي سيتركه لن يملأه إلا تنظيم القاعدة.
بالتالي صرنا أمام مصطلح جديد يمكن أن نطلق عليه "الثوراتوفوبيا" وهي ملخص لمنهج الدكتور علوش ومن سار بدربه وعلى طريقته، الذي يحاول الاختباء خلف الشعارات الوطنية القومية العربية وهم بالحقيقة ليسوا أكثر من مجموعة من الأشخاص تحاول صنع هذه الحالة من الإرهاب الفكري تجاه الثورات العربية المطالبة بحق الشعوب العربية بالقضاء على الفساد المالي والاقتصادي في دولها والمطالبة بمساحة من حرية التعبير، ونعرف جميعاً أن المستفيد من ترهيب الشعوب العربية من ثوراتها هم ذوي المصالح الاقتصادية والسياسية في هذه الدول مثل الأمريكان، الإسرائيليين، الأوروبيين، وبشكل أكبر الأنظمة العربية التي تدفع اليوم بكل قواها المالية والسياسية ونفوذها لترويج مثل هذه الأفكار في محاولة نراها مأزومة وغير مجدية لإيقاف زحف الشعوب العربية وحرف بوصلتها.
وهنا أرى أن من واجب القوميين العرب أكثر من غيرهم تعرية هذه المزاعم التي لا تخدم بالحقيقة سوى القوى الغربية التي تستفيد من بقاء أنظمة دأبت على خدمة مصالحها في المنطقة العربية. وهنا أود الإشارة لمسألة لا تقل أهمية هي أن ذكر الدكتور إبراهيم علوش الذي كتب عشرات المقالات ووزع مئات الرسائل الإلكترونية التي تدافع عن نظام العقيد وتعدد مناقبه، بل وتروج لصور وفيديوهات بثها التلفزيون الليبي وكان واضحاً التزوير فيها مثل قتل الضباط الأحرار الذين رفضوا قصف قراهم وشعبهم وإعدامهم على أنها صور لما أسماهم بالمتمردين يقومون بعمليات قتل جماعي لقوات أمن ليبية وهم عزّل ويتهم فيها فضائيات عربية مثل الجزيرة بالخيانة والتأمر وكذلك صحف عربية مثل القدس العربي وغيرها بالتخلي عن قوميتها، ليس أمراً شخصياً كما رآه بعض الأصدقاء سابقاً قبل أن يتراجعوا عما قالوه، والذين لا أشك بحسن بنواياهم الطيبة، بأن المواجهة بهذا الشكل قد تصب في خانة الشخصنة، وأود أن أوضح مرة أخرى أن الدكتور إبراهيم علوش طرح نفسه رئيساً لجمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في الأردن أولاً، وثانياً يتزعم اعتصام أسبوعي أمام مسجد الكالوتي في العاصمة عمّان مما يعني أنه بدأ يشكل ظاهرة تجمع الكثير من الشباب المتحمس، بالتالي مناقشة ما يرمي إليه الدكتور علوش ليس مناقشة شخص بقدر ما هو تفنيد حالة أصبح يشكلها لتوضيح أمورٍ مبدأيه وخطوط حمراء تجاه حق الشعوب في تقرير مصيرها. وكونه ينتمي لتيار قومي عربي، ويمكن لهذه الأفكار التي يقوم بترويجها أن تسيء لحركة القوميين العرب، وللعرب الذين يتبنون منهجية القومية العربية، ومن أجل الانتصار للقومية العربية وإبقائها بعيداً عن التشويه كان لا بد من هذا المقال للتوضيح والرد.
• كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الأردن
0 comments:
إرسال تعليق