في بنغلاديش، البعض يريد إعادة عقارب الزمن/ د.عبدالله المدني

في 19 يناير المنصرم عقد قائد الجيش البنغلاديشي الجنرال مسعود رزاق مؤتمرا صحفيا مفاجئا في دكا ليعلن فيه خبر إحباط محاولة إنقلابية ضد الحكومة المدنية الديمقراطية التي تقودها الشيخة "حسينة واجد"، قائلا أن المتورطين في المحاولة مجموعة من عناصر الجيش المتقاعدين تدعمهم عناصر مدنية تعيش في الخارج وتيارات دينية محلية متشددة.
جوهر الخبر المذكور لم يفاجيء المراقبين كثيرا لأن بنغلاديش شهدت منذ إنفصالها عن باكستان في كيان مستقل في 1971 سلسلة من الإنقلابات العسكرية المتتالية على نحو ما سنفصله لاحقا. المفاجأة كانت في تفاصيل المحاولة الإنقلابية المزعومة وأهدافها التي سرعان ما تبين انها من تخطيط عسكريين ومدنيين متشددين ذي روابط بحزب التحرير الإسلامي. هذا الحزب الذي نشأت نواته الأولى في القدس في 1953 بهدف إعادة دولة الخلافة الإسلامية، قبل أن يتمدد في أرجاء العالم الإسلامي بما في ذلك بنغلاديش التي إفتتح الحزب فيها فرعا في عام 2000 من أجل تحشيد الجماعات الإسلامية المتشددة هناك حول فكرة خرافية تجاوزتها الأحداث وهي إعادة توحيد بنغلاديش مع باكستان في كيان سياسي واحد ممثل لجميع مسلمي شبه القارة الهندية، أي على النحو الذي أراده مؤسس باكستان محمد علي جناح وقت تقسيم الهند البريطانية في عام 1947 ، وعلى النحو الذي ظل قائما مذاك وحتى 1971
والمعلوم أن الحزب المذكور لم يتوقف قط عن تلك المحاولات، بل صار في السنوات الأخيرة يمارس العنف في سبيل تحقيق أهدافه، خصوصا مع تلقيه الدعمين المادي والمعنوي من الجماعات المتشددة المشابهة له في العالمين العربي والإسلامي، ولا سيما الباكستانية والأفغانية منها، الأمر الذي دفع السلطات البنغلاديشية إلى حظره رسميا في عام 2010 ، ومطاردة وإعتقال أبرز رموزه بتهم الإرهاب والإخلال بالأمن والسلم الأهلي وتقويض أركان الدولة.
وطبقا للأدلة التي حصلت عليها أجهزة المخابرات العسكرية البنغلاديشية فإن المحاولة الإنقلابية المزعومة كانت بقيادة العقيد السابق في الجيش "إحسان يوسف" وزميله الميجور "ذاكر"، إضافة إلى زميلهما الهارب حاليا الميجور "سيد ضياء الحق"، وثري بنغلاديشي يقيم في هونغ كونغ ويدعى "إشراق حسين". والأخير بحسب الأدلة المتجمعة من الهواتف النقالة وأجهزة الحاسوب التابعة للمتآمرين كان على إتصال دائم بهم، وينتظر منهم أخبار نجاح المؤامرة كي يأتي إلى دكا ويتزعم البلاد.
الغريب هنا هو شوق المتآمرين وأعوانهم من التيار الإسلامي المتشدد، كما تردد، إلى إلحاق بلادهم ذات المستقبل الواعد بدولة كباكستان تئن تحت وطأة مشاكل لاحصر لها إبتداء من معضلاتها الإقتصادية والمعيشية والأمنية وإنتهاء بأزماتها السياسية وصراعات ساستها مع عسكرها وعلاقاتها المتذبذبة مع جيرانها والقوى العظمى. وهذه لعمري أول مرة نسمع فيها عن أناس يطمحون إلى إلحاق أنفسهم، ليس ببلد نموذجي مزدهر أملا في غد أكثر إشراقا وتقدما، وإنما ببلد منهار على مختلف الأصعدة.
إن من يقرأ السجالات الدائرة في بنغلاديش عبر وسائل الإعلام الحديثة وأجهزة التواصل الإجتماعي سيجد أن الغالبية العظمى من مواطني هذه البلاد ضد تلك الفكرة العرجاء، ويستحضرون في نقاشاتهم الآلام التي تكبدها آباؤهم يوم أن كانوا مجرد مواطنين من الدرجة الثانية في الجناح الشرقي للدولة الباكستانية، قبل أن يدفع مئات الآلاف من البنغال أرواحهم ثمنا للإنفصال عن الأخيرة وإستردادا لكرامتهم المهدورة على يد إخوتهم في الدين، وهو الحدث التاريخي الذي أكد إستحالة قيام الكيانات السياسية المعاصرة على الأساس الديني حصرا، بمثل ما أكد أن ديمومة الكيانات وإستقرارها تتطلب عناصر أخرى مثل العدالة والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص بين المواطنين.
وعودة إلى ما أجلنا الحديث عنه نقول أن لبنغلاديش تاريخ طويل في الإنقلابات العسكرية التي خطفت منها فرص الإستقرار، وأحلام الإزدهار والرخاء، في ظل نظام مدني تعددي. إذ لم تمض أربعة أعوام على تأسيسها على يد الشيخ مجيب الرحمن، الذي لم يجد بـُداً من الإنتفاضة ضد ساسة باكستان المدنيين والعسكريين الذين لم يقروا بفوزه في إنتخابات 1970 الرئاسية، وبخلوا عليه بزعامة البلاد بجناحيها، فقط لأنه من الإثنية البنغالية، وليس من إثنياتهم السندية أوالبنجابية أوالبشتونية أوالبلوشية، إلا ومجموعة من جنود جيشه يقتحمون منزله ويسفكون دمه ودماء كافة أفراد أسرته بإستثناء إبنتيه "حسينة" و"ريحانة" اللتين تصادف وجودهما في ألمانيا وقتذاك.
في أعقاب هذه الحادثة المأساوية المعروفة بـ "مجزرة أغسطس 1975" قادت البلاد ترويكا مكونة من عسكريين هما الميجور فاروق والميجور راشد، ومدني هو مشتاق أحمد. غير أن هؤلاء لم ينعموا بالسلطة طويلا. ففي 3 نوفمبر 1975 قاد أحد الضباط من أبطال الإستقلال وهو البريغادير "خالد مشرف بير أوتوم" بإنقلاب مضاد أطاح بهم، لكن من دون محاكمتهم أو مساءلتهم عن قتل مؤسس البلاد. وقتها تردد أن "خالد مشرف" كان ضالعا بنفسه في مجزرة أغسطس، لذا لم يحاكم زملاءه خوفا من إفتضاح أمره، كما أنه إكتفى بفرض الإقامة الجبرية على ضابط آخر من قادة الإستقلال هو الجنرال "ضياء الرحمن"، الذي قيل أنه لعب دورا محوريا في التخلص من "مجيب الرحمن" بسبب خلافاتهما إيديولوجية.
بعد 3 أيام فقط من إنقلاب "خالد مشرف" قامت مجموعة من عناصر الجيش بحركة تمرد ضد الأخير، فإقتحموا مقره وقتلوه زاعمين أنه ينفذ أجندة سياسية لصالح الهند. ثم قاموا بتحرير "ضياء الرحمن" من أسره المنزلي.
وما بين السادس والسابع من نوفمبر 1975 حاول بعض المنتمين للحزب القومي الإشتراكي ممن أسسوا لأنفسهم نفوذا داخل مؤسسة الجيش في عهد "مجيب الرحمن"، ، أن ينتقموا من قتلة الأخير، فقادوا محاولة إنقلابية فاشلة بقيادة "أبوطاهر" الذي حاكمه الجنرال "ضياء الرحمن" سرا وأعدمه لاحقا.
بالإضافة إلى نفوذه العسكري، بنى "ضياء الرحمن" لنفسه نفوذا سياسيا من خلال تأسيس حزب خاص به سماه "حزب بنغلاديش الوطني" ليواجه به حزب "عوامي" الذي ورثته الشيخة "حسينة واجد" من والدها المغدور. وسرعان ما خلع الرجل زيه الكاكي لصالح بذلة مدنية أنيقة خاض بها كل الإنتخابات التي جرت ما بين عامي 1977 و 1982 والتي فاز بها ليصبح الحاكم المطلق للبلاد. لكنه عانى خلال سنوات حكمه الخمس من 21 إنقلابا فاشلا قاد معظمه ضباط متذمرون من بطشه وديكتاتوريته ودعمه لنفوذ جماعات الإسلام السياسي داخل مؤسسة الجيش، إلى أن نجح الإنقلاب العسكري الثاني والعشرين ضده في عام 1981 والذي لقي فيه حتفه مع كبار مساعديه على يد جنرال يـُدعى "عبدالمنصور"، قيل أنه كان متذمرا من نقل مقر عمله من مدينة "تشيتاغونغ" إلى "دكا" دون ترقية.
هنا تدخل رئيس هيئة الأركان الجنرال "حسين محمد إيرشاد" ليطلب من الجيش سحق قتلة زعيم البلاد. وبنجاح جنوده في القبض على "عبدالمنصور" ثم قتله، إعتلى "إيرشاد" السلطة لتبدأ حقبة جديدة من الحكم العسكري الذي لم ينته إلا في 1990 بتخلى الأخير عن الحكم تحت ضغط الشارع والمتغيرات الإقليمية والدولية المصاحبة لإنهيار الإتحاد السوفيتي.
وهكذا يتبين أن بنغلاديش لم ترث من شريكتها الباكستانية السابقة سوى لعنة الإنقلابات العسكرية.

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2012
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: