مرة أخرى أجد نفسي عائدا لموضوع اللغة. ليس من منظار لغوي ، إنما من منظار فكري وسياسي بعد إن اتضح لي إن مسالة اللغة، ومشاكل التجديد والتقليد ، وكل ما يتعلق بانجاز تطوير اللغة العربية وتيسيرها ، وجعلها لغة معاصرة ، يرتبط بشكل نسبي كبير
( ولا أريد إن أقول بشكل مطلق، رغم ان هذا أقرب للحقيقة) بالواقع السياسي والاجتماعي والتعليمي والعلمي السائد في المجتمعات العربية.
بكلمات واضحة، اللغة لن تحظى باهتمام اجتماعي ثقافي واسع وحاسم، في ظل واقع لا تشارك فيه المجتمعات العربية بالنهضة الحضارية للمجتمعات البشرية.
***
واجهت بعد نشر قصتي "شبيحة العقل"، عاصفة من التعليقات تتهمني بالاستهتار باللغة العربية وقواعدها ونحوها، وان العربية لغة في منتهى الكمال، لغة الجنة ولغة القرآن ، فداستها من قداسته، وهي اللغة التي انزلها الله لأفضل عباده. دون فهم مضمون ما طرحته بوضوح وسهولة في القصة، والذي عمليا لا علاقة له باللغة ( وبالطبع لا علاقة له بما يسمى قداسة اللغة والقرآن والإيمان الغيبي الذي يتمتع به البعض) إنما بطرح فكري يرفض الجمود والتحجر ويرى ضرورة ملاءمة اللغة إلى المناخ الثقافي السائد، وعدم فهم هذه الدعوة كمشاركة في المؤامرة الاستعمارية والصهيونية على العرب ، وهي الصيغة التي تستعمل أيضا في الساحة السياسية العربية، بجعل هذين التوأمين المكررين ببغاويا (الاستعمار والصهيونية) غطاء للفساد العربي ، غطاء لقمع الشعوب العربية، غطاء لوقف النمو والتطور والنهضة الاجتماعية، والحفاظ على جمود اللغة الرسمية (لا لغة عربية رسمية ، كل دولة تستعمل مفردات خاصة بها) المتواصل منذ مئات السنين، والتغيرات التي حدثت كانت عكس التيار السائد ومعظم ما دخل لغتنا العربية وأضحى التعامل به ثابتا، مدان سلفا بالخروج عن القواعد والنحو .
وهناك مشكلة صعوبة فهم المقروء، القصصي في حالتنا، من منطلق الفهم السطحي للأدب القصصي ، بأنه جولة ترفيهية، بينما هذا الأدب يطرح الوعي الاجتماعي بأرقى صوره .
القصة في الأدب العالمي وبجزء كبير وهام من الأدب العربي ، تشكل مادة فكرية أيضا يطرح عبرها الكاتب قضايا ملحة وبالغة الخطورة ، ودور الكاتب هنا هو دور المثقف الموضوعي المرتبط بواقع شعبه والناشط من أجل قضايا الإنسان وقضايا الحرية والحقوق المختلفة.
إن استعمال الكاتب ( أنا في هذه الحالة) لموضوع الهمزة في القصة المذكورة، ناتج عن لعبة قصصية للوصول إلى سرد الرؤية الفكرية. وهذه الجملة من القصة تثبت ما ذهبت إليه:" يا أستاذ الضاد، وعميل سيبويه، وعدو الاستعمار وعميل نظام القهر الاجتماعي واللغوي، أنت تقول لي أنه مسموح لي أن أخطئ بكرامتي، بوطنيتي، بعقلي، بثقافتي، بضميري، وأن أخدم حتى عدوي ومضطهدي، وان أكون شبيحا ضد أبناء شعبي، هذا لا تحتج عليه، أما أن أخطئ بتقعيد جلالة الهمزة أو بالنحو ، فتقيم علي الدنيا ولا تقعدها؟!"
باحث لغوي نشر مقالا يقول فيه: " لا بديل عن اللغة العربية الفصيحة المعيارية " عارضا أهمية اللغة العربية لأبنائها العرب، وقيمة هذه اللغة وحيويتها. وطرق تطويرها وتقريبها للقارئ . المقال يتحدث من منطلق عاطفتنا كلنا التي ترى بلغتنا جماليتها المميزة في النصوص الأدبية وخاصة الشعر. ولكنها تعاني من حالة تكلس تشكل خطورة على مستقبلها ومكانتها بين اللغات الحية في العالم.. وهذا يبرز بغياب لغة علمية وتكنولوجية، والتعويق في ملاءمة اللغة للمناخ الثقافي المعاصر، وما أوجدته مجامع اللغة غير مفهوم إلا لمن صاغوه. ولا يلائم الحياة العملية .وهذا يبرز في القطيعة الآخذة بالاتساع بين واقعنا اللغوي، وواقع المستوى الثقافي – الاجتماعي السائد في المجتمعات غير العربية.
إن بعض المشاكل التي لم تطرح، ربما ليس عجزا عن طرحها بقدر ما هو قصور في فهم واقع اللغة، وفي حالتنا واقع لغتنا العربية، تشكل عائقا في سبيل رقي لغتنا وتطويرها وملاءمتها لعصرنا. وأعرف انه حقل شائك بسبب المسافة الثقافية التي تفصل بين أبناء هذه اللغة، وسيطرة الغيبيات والأوهام حول المقدس اللغوي، وبالفهم الخاطئ لدى الكثيرين لكل دعوة إلى ملاءمة اللغة للمناخ الثقافي السائد في عصرنا، بأنه دعوة لنسف اللغة العربية وفورا تنطلق صرخات الاستغاثة محولين النقاش إلى صياغات إيمانية ونصوص غيبية ، ومقولات خاوية من المضمون ، لا تسوى أكثر من الحبر الذي صيغت فيه، وكأن العرب نصف الأميين ، أو من لا يرهقون أنفسهم بالقراءة، (وهم نتاج الأنظمة الفاسدة) يعرفون مفردات اللغة الكلاسيكية وما شاء الله لا يتحدثون إلا بمفردات النصوص الدينية ولغة الجاحظ وبنحو سيبويه.
لا اكتب من منطلقات لغوية . فانا لست لغويا ولكني أعيش أزمة اللغة بنشاطي الإعلامي والثقافي والسياسي، ومن إطلاعي الفلسفي العام على تاريخ اللغات وتحولاتها.
اللغة وسيلة وليست غاية، ولا قداسة للغة. واللغة لا تعبد ولا يركع لها. وهذا ما شرحه الباحث بشكل ممتاز دون أن يكون بمثل وضوحي الذي سيرى به البعض فظاظة كبيرة.. وخلافا لما سجله الباحث الموقر الذي أميل إلى تجاهل اسمه، لأن الأهمية للمضمون وليس للشخص، لا أرى أن "اللغة هي من أهم العوامل التي تكون هوية الأمة" كما كتب. هذا الطرح غير علمي تماما ومناقض للواقع..
اللغة بلا شك لها دورها في تكوين الهوية القومية ولكنها ليست من أهم العوامل، وفي الواقع العربي العام، لا أرى أن للغة دورا مؤثرا ووزنا مقررا. الواقع العربي القائم يثبت ما أذهب إليه . إن ما يوحد الشعوب العربية أكثر من اللغة، هو واقعها السياسي والاجتماعي. واقع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة المعيقة للتقدم. وواقع الفقر والإملاق المرتبط جذريا بنوع الأنظمة .
يجب عدم التجاهل أن نسبة الأمية المرتفعة في العالم العربي، وتقدر على الأقل ب 100 مليون أمي ومصادر ترفعها إلى 60% من المواطنين العرب، والبعض يرفعها لأرقام فلكية... ونسبة كبيرة أخرى بالكاد تفك الحرف أو تقدر على التعامل باللغة مع المؤسسات المختلفة .. إلى جانب مستوى قراءة متدن ( نصف ساعة ، البعض يقول ستة دقائق، يقرأ المواطن العربي سنويا ، للمقارنة: اليهودي في إسرائيل يقرأ 50 كتابا سنويا)، وعدم فهم المقروء من أوساط عربية واسعة جدا لأسباب تعليمية تعتمد التلقين ، يجعل من لغتنا أداة لا تخدم قضية تكوين الهوية القومية أو إحداث نقلة ثقافية وتيار وعي قومي . ولا ننسى أيضا أن العالم العربي مليء باللهجات المحلية التي لا يفهما العرب أبناء المناطق الجغرافية الأخرى. وهناك عشرات اللهجات الغريبة عن فهم مواطني الدول العربية ، أحيانا في نفس الدولة ( حتى في فلسطين لغة الشمال الفلسطيني(الجليل) تختلف عن لغة الجنوب الفلسطيني ، أبناء المثلث مثلا ، وبعض المفردات لا نفهمها ولا نستوعب طريقة لفظها، والمسافة بيننا نصف ساعة بالسيارة ، ولا أتحدث عن الجنوب الأبعد، النقب مثلا) ، أي أن اللغة لا تشكل أداة تكامل قومي ، بل في هذه الحالة تشكل أداة تباعد وتشرذم . خاصة بغياب روابط اجتماعية واقتصادية.
المواطن العربي الجائع للخبز لا يحتاج إلى لغة وهوية قومية وأنا أتحدث عن أكثر من 50% – 60 % من المواطنين في العالم العربي. في مصر مثلا، ما يقارب 80% من الشعب المصري يعيشون بدخل بين دولار إلى 3 دولارات يوميا، و 20% أكثر من 3 دولارات يوميا، منهم 1.5 % يعرفون بالقطط السمان يسيطرون على ما يقارب نصف الإنتاج القومي المصري. ويتبين من معلومات جديدة أن الجيش المصري يعتبر من اكبر المنتجين في مصر، ويقدر انتاحه ب 25% من مجمل الانتاح ومعفي تماما من الضرائب. أي أن جنرالات هذا الجيش لهم مصالح اقتصادية ويتمتعون بوضع خاص من المميزات. وهذا ينعكس سلبا على الربيع المصري. وبعض المصادر تنبه إلى أن المجندين المصريين يسخرون في إنتاج الجيش، وليس في التدريبات العسكرية، وان هناك تراجعا في قدرات الجيش العسكرية، وان الجنود لا يعرفون استعمال الأسلحة الحديثة المتراكمة في المخازن. وبالتالي المتنفذون في الجيش أصبحوا جزءا من القطط السمان، ولكنه موضوع آخر.
فهل ستصلح اللغة هذا الواقع المأساوي لتجعل المصريين ينتمون لهوية قومية واحدة؟ هل يفكر المصري أو العربي الفقير باللغة والهوية أم برغيف الخبز والعمل ؟ وهل يقلق الجنرالات تطوير اللغة وتعزيز الرابط القومي؟
الذي يؤثر على خلق هوية قومية متماسكة هو الاقتصاد ، هذه نظرية طرحها أحد أهم فلاسفة ومفكري القرن التاسع عشر ، كارل ماركس. وقد ثبتت صحتها . الدول الرأسمالية المتطورة تطورت فيها الهوية القومية والانتماء القومي واللغة القومية والقوة القومية أيضا لحماية مصالحها ،على قاعدة تطوير الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والنموذج الأقرب لنا هي دولة إسرائيل. البعض لا يحب هذه المقارنة ، وتشعره بالضيق ، بل ويتهمني البعض أني متأسرل. ولكن أحببنا ذلك أم لم نحبه. من مجموعة مهاجرين مختلفي الثقافة والانتماء القومي ، بنوا دولة وشعبا متماسكا واقتصاد يعتبر اليوم من الأقوى والأكثر تنوعا وثباتا في العالم ، وتعتبر إسرائيل اليوم دولة ذات مكانة متقدمة في العالم لنسبة حملة الشهادات العليا بين المواطنين وحسب معلومات نشرت مؤخرا تحتل إسرائيل المكان الثاني عالميا بعدد الأكاديميين بالنسبة للسكان في الدول الصناعية. وعلميا من أكثر دول العالم تقدما وتصديرا لمنتجات العلوم والتكنولوجيا، والعلم جزء جوهري من الاقتصاد ، وللمقارنة غير المرغوبة أضيف: تنشر إسرائيل معدل 12 بحثا علميا لكل 10 آلاف مواطن ( 36 بحثا لكل 30 ألف مواطن )، والعالم العربي ينشر بحثا علميا واحدا لكل 30 ألف مواطن. ويترجم في إسرائيل إلى العبرية 100 كتاب لكل مليون مواطن في السنة، حين تصل الكمية في العالم العربي إلى 3 كتب لكل مليون مواطن. هذا عدا أن كل كتاب يباع منه في إسرائيل كميات كبيرة تصل أحيانا إلى 70 أو 90 ألف نسخة، وبعضها يتجاوز أل 120 ألف نسخة أو أكثر. ما عدا قلة نادرة من الكتب العربية وزعت 30 ألف نسخة، فكمية التسويق للكتاب العربي لا تتجاوز 10 آلاف نسخة من الكتاب لأفضل الأسماء. وتخصص إسرائيل للأبحاث الجامعية ما نسبته 4.4 % من منتوجها السنوي الإجمالي. ويقدر أكثر ب 15 مرة من كل مل يخصص للأبحاث في الجامعات العربية. وهي تتفوق على العديد من الدول العظمى في عدد العلماء بالنسبة للمواطنين في كمية الأبحاث العلمية الهامة، لدرجة أن العلوم المطورة في إسرائيل والمطلوبة في دول عديدة منها دول كبرى، باتت تؤثر على مواقف الكثير من الدول من موضوع النزاع الفلسطيني إسرائيلي . بكلمات أخرى ، هناك علاقة اندماجية بين السياسة والاقتصاد والرقي العلمي والتكنولوجي وواقع اللغة.
هذا ليس تحديا حضاريا فقط ، حتى إحياء للغة العبرية التي كانت ميتة قبل نصف قرن، أضحت اليوم لغة علوم وتقنيات ومراكز أبحاث ، مما يثبت أن الاقتصاد والعلوم يدفعون اللغة إلى التطور وملاءمتها للنشاط العلمي والتكنولوجي . العلماء في إسرائيل ومنهم علماء عرب بارزين، يكتبون أبحاثهم باللغة العبرية السهلة الاستعمال والسهلة جدا للترجمة منها واليها. وهذا دليل صغير على أن التطور الاقتصادي والعلمي للعالم العربي سيحدث نقلة لغوية سيكون لها ابعد الأثر على الفكر العربي أيضا وعلى اللغة بالتأكيد. وأضيف أن كل نقاشنا اليوم حول التجديد والتقليد في اللغة العربية هو محاولة لجس النبض والتفكير بالآتي ، ومحاولة استباق الواقع ، لجعل التحول اللغوي أكثر مرونة وقابلية ، ونشر الوعي لأهمية اللغة في الانجاز الحضاري الحديث..
العكس ستكون له إسقاطات سلبية قد تحول اللغة العربية إلى لغة في طريق الاندثار ، تماما كما اندثرت لغة المسيح الآرامية ، التي أيضا كانت لغة مقدسة، لغة ابن الله حسب أهل كتاب "العهد الجديد"، ومن المفروض أنها لغة الأب الذي في السماء أيضا ؟!
أعرف أن كلماتي لن تستسيغها بعض الآذان، ولا أطرحها لأني أقبلها ، إنما لإثارة التفكير الواقعي، بعيدا عن الغيبيات، وتسجيل رؤيتي ومخاوفي من مصير اللغة العربية .
يقولون اني دائما عكس التيار، وأرد: فقط الأسماك الميتة تمشي مع التيار!!
إذن الموضوع يتعلق بالواقع الاقتصادي والعلمي والتعليمي ومستوى الجامعات وأبحاثها والقضاء على الأمية ونشر التعليم بلغة عربية ميسرة متطورة، وجعلها لغة علوم وأبحاث وتقنيات، وهذا ليس قرارا من فوق، بل تخطيطا للتطوير والنهضة الشاملة الاجتماعية والعلمية والتعليمية والاقتصادية ، غيبته أنظمة الفساد والقمع ، وآمل أن لا نواصل نومة أهل الكهف، حتى لا نستيقظ على لغة فات أوانها.
الموضوع ليس اعتزازنا وحبنا للغتنا الموروثة ، إنما قضية جعل اللغة العربية لغة علوم وتكنولوجيا ، لغة اقتصاد وتعاملات دولية . لغة حية تنفع للعلوم والتقنيات والصناعة الحديثة، وليس لصياغة الشعر وأغاني هيفاء وهبي والمواعظ الدينية فقط.
لا شك أن اللغة العربية هي جزء من الهوية القومية، ولكن بوضعها البائس اليوم هي هم قومي.
هل ستصمد في عالم لا ينتظر الخاملين؟
هل سيساعد كونها "لغة مقدسة" في الحفاظ عليها من الاندثار؟
الم تندثر لغات مقدسة مثل لغة المسيح الآرامية ، بسبب الفهم الخاطئ لدور المقدس في حياة اللغة وأدوارها كعامل لنقل المعرفة ، ونشر العلوم ، والأبحاث؟
إلا يعلم الواهمين بقداسة اللغة أن كل الأبحاث العربية العلمية الهامة التي يكتبها علماء العرب باللغات الأجنبية، وأهمها لا ينشر في العالم العربي بسبب هجرة العقول العربية، واندماج العلماء المهاجرين بالمجتمعات الحاضنة. حتى العالم العربي الوحيد الحائز عل جائزة نوبل ، أحمد زويل ، حصل عليها بما وفرته له "ناسا" في الولايات المتحدة من مجال البحث العلمي.
طبعا اكتشاف بعض الغيبيين للإعجازات العلمية لن يساعد إلا على إبقاء العقل العربي واللغة العربية خارج تاريخ الحضارة الإنسانية.
قديما قال ابن خلدون جملته العبقرية التي نعيش صحتها كل يوم:" لغة الأمة الغالبة غالبة، ولغة الأمة المغلوبة مغلوبة". وما دمنا من الأمم المغلوبة أمام التحديات في الشرق الأوسط ، تحديات الأنظمة الفاسدة التي تهدم ولا تبني، والتحديات في العلوم والاقتصاد والتحديث الحضاري.. فلن تكون لغتنا إلا على شاكلة شعوبنا، لغة مغلوبة لشعوب مغلوبة.
حان الوقت لفهم جديد لدور اللغة وأهمية هذا الدور في نقل العالم العربي من واقع الفقر والأنظمة الفاسدة، إلى واقع التنوير والإبداع الثقافي بكل امتداده المادي والروحي!!
nabiloudeh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق